Friday, December 22, 2006

نهاية البراءة





مرة اخرى في اندونيسيا ... في احد منتجعات جزيرة بالي الجميلة
عادت الزوجة يا ايماتيور...هو لما بيروح حتة سياحة تبقى مراته معاه...لما بيروح حتة في مجاهل بلاد الواق الواق بتسيبه يروح لوحده على مايبدو
عشان تعرف
اهداء للدكتورة من الرياض بمناسبة التخصص و الدكتورة بلوروز من القاهرة بمناسبة الحملة على اللينك دوت و ميست بمناسبة تغيير شكل المدونة
وكل اللي بيستمعوا لاذاعة بلاسيبوس و اذاعة الطواسين
ماشي يا عم وطبعا دكتورة ايمان لحسن تيجي تعمل قضية.اوكي؟؟

كنت و زوجتي مستلقيين على وسادتين عاريتين في حجرة مزدحمة في احد منتجعات جزيرة بالي , نحلم بالحمام البارد والايس كريم. ومن المدخل وباحة المكان كانت تأتينا اصوات جر جذوع الاشجار ونقيق الضفادع و الدجاجات البرية تبحث عن طعامها في الغابات الاستوائية المحيطة. او اصواتها تصاءصئ في اوكارها تحاول ان ترتاح مثلنا . وبين الفينة والاخرى كنا نصل الى حالة من التأرجح الصعب بين النوم واليقظة. ونكاد نقع في عالم تغيب فيه الحدود الفاصلة بين اصوات الواقع ومنتجات القدر الكبير دائم الغليان في ادمغتنا.

كنا في هذه الحالة عندما سجلت اجهزتنا السمعية صوتين متداخلين بلكنة امريكية, ذكر وانثى, كان الاخير يكرر دوما " انا سامانتا" بينما الاول مصر على ان يقول " انا والدن". ثم انضم اليهما ,صوت هادئ له لكنة اهل بالى , كان يحاول بشدة , ويفشل دوما, ان ينطق الاسماء نطقا صحيحا. كان من الواضح ان المنتجع قد استقبل نزيلين جديدين و ان وايان يحاول كتابة بياناتهما في سجل الفندق.

سامانتا و والدن. اسمان يعدا بالفخامة , والجمال المسترخي , وتناسق الاطراف , و الجلسة المستريحة , والتواجد بدون مجهود. اخذا الحجرة المجاورة لنا . اخترقت اصواتهم الجدار الفاصل الرقيق. اولا , فتحا حقائبهما, ثم ذهبت عبر الفناء الى الحمامات المشتركة. وتلا عودتها صوت صرير الخشب على الارض الصخرية . لقد كانا يدفعان السريرين الضيقين ليلصقا الواحد بالآخر لتكوين سرير كبير. اخيرا خرجا الى الساحة , حيث اعطاهما وايان القهوة . وهناك جلسا وهما يتصفحان في الخرائط والادلة السياحية, ويخططان ماذا سيزورا ومتى, وما هي الاسعار؟

قمت , تمطيت , ودخلت الساحة في استرخاء , حياني الاثنان بابتسامة لطيفة و "اهلا" مرحبة. تفحصتهما. كان والدن شابا ضئيل الحجم تقتحمه العين , كتفاه ضيقتان , ووجهه بض به انف مثل حبة البطاطس ترتاح عليه نظارات طبية سميكة. سامانتا امرأة ذات رجلين جد قصيرتين, شعرها ملبد دهني غير مغسول , وجهها بض بلا ملامح مميزة.

رددت "اهلا" وعدت لحجرتنا.

قرب المساء التقيناهم في الميدان الرئيسي بالقرية , وأخذنا نتجاذب اطراف الحديث. منذ متى ونحن هنا , الى متى نزمع البقاء , هل نحب بالي, ما رأينا في الطعام, اين يجدا طعاما لذيذا ورخيصا او ليس مكلفا جدا؟ اخذناهما الى مطعم صغير في حديقة كنا قد اكتشفناها بالامس فقط. كانا من شيكاغو, وتلك كانت اول رحلاتهما الى خارج الولايات المتحدة. وقد قررا القدوم الى بالي لانه منذ عدة اعوام كانت احدى عمات سامانتا قد عادت من "جزيرة الجنة" تلك , ولم تكف عن المديح فيها: الاهالي مذهلون, الرقص خرافي, المعابد رائعة, الطعام خيالي ,الشواطئ ساحرة..............كل شئ جميل جدا. في النهاية لم يستطيعا المقاومة, كان عليهما ان يأتيا ويمرا بالتجربة ويريا هذه الجزيرة الخيالية بأنفسهما. واكتشفا بأنفسهما ان الحقيقة اجمل من الروايات. وظلا يرددان : الاهالي شديدي اللطف والجمال, الاطفال ملائكة حقيقية, كل واحد منهم رائع, انها حقا جزيرة الجنة.

بنفس الطريقة كانا يحكمان على بعضهما البعض.لم يكن توافقهما المتبادل نتيجة لتفهم عيوب كل منهما وتقبلها وانما كان بالتحديد نتيجة لاعتقاد راسخ بعدم وجود تلك العيوب من الاساس. احيانا كنت تحس انهما روحان في جسد واحد , لانها كثيرا ما كانت تقول " والدن يعتقد ان هذا حقيقي. اليس كذلك يا والدن؟" وكان من ناحيته يعمد الى توكيد رأيه قائلا" سامانتا لا تتفق مع هذا الرأي ,اليس كذلك يا سامانتا؟" وحتى بعد ان جلب لنا النادل فاتورة اكبر بثلاث مرات من الرقم الطبيعي لم يفقدا ايمانهما الراسخ بأن بالي متفردة لا مثيل لها رائعة كما في الحواديت.

في المساء التالي ذهبنا لنشاهد احد فرق الرقص الشهيرة في بالي , وهي تؤدي الملحمة المعروفة الرامايانا. حيث يخطف الشرير راوانا سيتا الجميلة , فيخرج خطيبها الامير الجميل راما في رحلة ملحمية لانقاذها بمساعدة الاله القرد هانومان. جلسنا في الصف الاول , بالقرب من الجاملان او الفرقة الموسيقية التقليدية في بالي التي تدق الصنج وتستخدم الآلات النحاسية, والكسيلوفون , غيرها من الآلات التي تملأ الساحة بالموسيقى الغرائبية.

جلست سامانتا و ووالدن في مكانيهما فاغرا الافواه وهما يتابعان الحركات الراقصة التقليدية باهتمام لا نظير له.كانت سامانتا شديدة التوتر حتى انها ما فتئت تغرس اظافر يدها اليسرى في راحة يدها اليمنى. وكان والدن يثني اصابع قدميه فوق صندله. كان التناغم بين الموسيقى وحركات الجسم والظلال و الشعلات المتقدة ساحرا لدرجة ان زوجتي وانا فقدنا احساسنا بالواقع طوال الرقص . ظهرت سيتا الجميلة , كان جسدها الرشيق الذي يشابه جسد الصبيان اليافعين يتلوى في حركات ايقاعية حسية , وتتحرك قدماها الحافيتان على الارضية الصخرية الملساء بخفة القط, وتتذبذب اصابعها الطويلة النحيفة في الهواء ذبذبات مملؤة بالثقة وتخلق اشكال رمزية مجردة تبعث مشاعر مختلفة : حب , كراهية , خوف , حزن , يأس, نشوة..............

في الصباح التالي ترك الزوجان سامانتا و والدن المنتجع مبكرا, وذهبا للشاطئ. اردنا تحذيرهما من غواية اشعة الشمس الاستوائية التي قد تحرقهما دون ان يحسا, وعليهما ان يتخذا احتيا طات ضد الحروق , ولكن عندما وصلنا الشاطئ اخيرا في التاسعة صباحا لم نستطع ان نجدهما وسط العدد اللانهائي من اجساد السابحين التي تغطي الشاطئ وكأنها سجادة. فرشنا فوطنا وتمددنا على الرمال. تلألأت الامواج المزبدة في ضوء الشمس الساطعة وصرخ السابحون, وتراشقوا بالمياه, وجرت الاطفال على طول الشاطئ ناثرين الرمال في وجوه المتمددين على الرمل يحاولون الحصول على اللون البرونزي. وتكررت التحذيرات بلا طائل. اخذت الشمس ترسل اشعة حارقة بقوة تؤدي للدوخة والاعياء والدوار.

ايقظتنا قطرات من الماء البارد تقطر على وجهينا . كان يقف فوقنا مانعا عنا الشمس جبلان من اللحم المبتسم. سامانتا و والدن. صرخا " اهلا" بمبالغتهما المعهودة," كنا نبحث عنكما على طول الشاطئ".

انتقلنا الى ظل اقرب نخلة . اخرجت سامانتا سكينة صغيرة و قطعت ثمرة من ثمار الاناناس الى 4 قطع. صرخا فرحين" الله" عندما نزل العصير اللزج على اصابعهما. و اردفا " اليس هذا جميلا ,اليس ساحرا" ورغم ان فرحهما بدا صادقا مثل كل مرة, الا انني احسست بوجود نوع من التوتر المتصاعد فيما بينهما . توتر لم يكن موجودا من قبل. و لاول مرة منذ قدومنا احسست ان التوافق المتبادل بينهما مفروض مصنوع. لم تستطع كلماتها وإيماءتها ان تخفي نوعا من القلق تشعر به نحو والدن, و ظهر في كلماته وحركاته شئ من الاستهانة نحوها يكاد لا يلحظ, رغم انه يتنامى. كانت تريد الكلام عن الشمس , والبحر , وطزاجة الهواء وطراوته , بينما كان يراوغ كي يوجه دفة الحديث الى الرقص الذي شاهدناه بالامس , والموسيقى المذهلة , سيتا الجميلة الرشيقة.وظلت سامانتا تعاود الحديث عن موضوع حروق الشمس, كان واضحا ان شيئا ما يتعلق بالراقصة الشابة يقلقها. بينما كان والدن مثبتا على ذكراها, وسأل مرارا ان كنا قد شاهدنا رقصات اخرى. وهل كل رقصاتهم تأخذ بالالباب , وهل يختارون الفتيات لجمالهن الخلاب وما رأينا في الفتاة التي رأيناها بالامس...؟؟؟؟

هنا تدخلت سامانتا والقت له بمنديل ورقي قائلة "امسح يديك يا والدن" القاه في اتجاهها قائلا بشئ من الجفاء " لم افرغ من الاكل بعد, سأمسحهما بعد ان انتهي من الجزء المتبقي , ام تريدينه لنفسك؟"

تلا هذا صمت محمل بعدم الراحة. وضعت سامانتا اخر شرائح الاناناس على فوطة والدن . وجمعت القشور , وقامت على قدميها في خجل ملحوظ, واخذتها الى الشجيرة القريبة من االنخيل كي ترميها. تابعت عينا والدن مشيتها غير المتناسقة. ونظر الى العلامات القرمزية التي خلفتها الرمال على فخذيها, وحركة كتفيها الهابطة التي تعبر بوضوح عن احباط امرأة خاب املها. ولاحظ كيف انها القت القشور في الشجيرة بحركة غريبة خجلى ومسحت اصابعها في رداء البحر الذي كانت ترتديه. وراقبها وهي تستدير راجعة في مشيتها كثيرا من الشك, وكأنها غير متأكدة أنها تسير في الاتجاه الصحيح.حول والدن وجهه للشمس واغلق عينيه. اخبرني تعبير الالم الذي ارتسم حول فمه انه قد ادرك ان زوجته الخاملة تجذب الانتباه وربما تستثير الشفقة. أحس بالخيانة!!!!

جلسنا على الرمال و اخذنا نشاهد اشعة الشمس ترقص رقصة مضيئة على قمم الامواج.استلقت سامانتا على بطنها وبدأت في القراءة . وصلت مجموعة جديدة من السابحين الى الشاطئ , خمسة من شباب جزيرة بالي ومن بينهم فتاة جميلة رشيقة ترتدي بلوزة بيضاء وبنطال ضيق. انتفض والدن على ركبتيه. صرخ " انها هي" كان غير قادر على اخفاء حالته" انها الراقصة"

القت سامانتا بنظرة جانبية على الفتاة , وعندما رأت ان والدن محق, عادت للقراءة.لكنها صارت اكثر توترا , وعصبية. تابعت عيناها الحروف دون تركيز. بدأت في قرض اظافرها. تحرك الشبان والفتاة بحثا عن مكان شاغر على الشاطئ. اخيرا وجدوا بقعة تبعد عنا حوالي مائة متر. خلف تبة رملية منخفضة. اخفتهم عن ناظرينا فلم يعد يبين منهم الا رؤوسهم. اخذوا في خلع ملابسهم باسترخاء وهم يضحكون. جرت الفتاة الى البحر وتبعها الفتيان. في لحظة صار بوسعنا رؤيتهم يتضاحكون وسط الامواج. وهم يدفعون بعضهم البعض ويحاولون اغراق الاخرين .قال والدن " حر قاتل. هل لك في السباحة؟"

لم اكن اريد السباحة لكن النظرة الراجية المستعطفة في عينيه كانت اقوى من ان انحيها جانبا, ولذا تبادلت نظرة ذات معنى مع زوجتي وتبعت والدن الى البحر. حرث طريقه عبر الامواج وكأنه خنزير هائج, ابيض يلمع. يدفع نفسه للامام بضربات قوية مذهلة , واخذ ينفخ ويناور كي يأتي بجسده اقرب ما يمكن من الراقصة الشابة في صحبة اصدقائها.

لكن فات الاوان, فجأة اعلنت الفتاة انها اكتفت وسبحت عائدة للشاطئ, وتبعها الفتيان وكأنهم قطيع من الدرافيل المرحة. على الرمل تمددت الفتاة في منتصف دائرة تقيها من اجساد الفتيان والكل يستمتع بحمام شمس دافق. لامس والدن القاع بقدمه وبنظرة ملأها الخيبة اخذ يحدق في اتجاههم والامواج تتقافز فوق رأسه.قال لي وانا اسبح مقتربا منه " الاتظن انها رائعة؟" وتمتم"الا تبدو وكأنها ملاك؟"

وافقته. هي جميلة لكن جمال جسدها اقل بكثير من جمال رقصها. مشاهدتها على الخشبة ايقظت في الرغبة في الوجود في مستوى اسمى وجعلتني ادرك ان الحياة اغنى بكثير واكثر جمالا بكثير مما نظن. او مما تعودنا على الاعتراف به في خضم حياتنا اليومية المتسارعة. لكن على الجانب الآخر يجعلني جمال جسدها ارغب في امتلاكها , وهكذا اثبت لنفسي اني جدير بها. الامتلاك يدمر الجمال. فهو يحل الغيرة محله, وهي الخوف من فقدان الشئ و ضياعه. لذا كان جمال رقصها اكثر اكتمالا في نظري. لا يمكن ان يسرقه احدهم مني , ولا يمكنه ان يتركني, انه خاص بي. قلت كل هذا واشياء اخرى كثيرة منتفخة كان والدن محتاج بشدة لسماعهافي تلك اللحظات وربما صدقت انا ايضا ما كنت اقوله.

لكن والدن اصر فقد كان عنيدا" انها جميلة . وكفى"

ختم كلامه وسبح نحو الشاطئ. كان بوسعي رؤيته يشق طريقه نحو البقعة التي تتشمس فيها الفتاةعلى الرمال. خرج من الماء وشد رداء البحر الذي كان يرتديه لانه نزل على فخذيه وكشف عن اعلى مؤخرته. وارتمى على الرمال مستعرضا نفسه امام الفتاة. كان كمن يريد ان يتأكد من أن جمال الفتاة لا تشوبه شائبة. في الواقع لم تكن جميلة لهذه الدرجة. نعم كانت جميلة , لكنها لا تختلف على الاطلاق عن الاف غيرها من فتيات بالي الجميلات. كان جمالها المتفرد يظهر ويتألق عندما ترقص فقط.

القى جسد والدن بظله على الفتاة . ففتحت عينيها والقت نظرة على جبل اللحم المبلل. قال احد الفتيان شيئا بدا غير لطيف. فضحكوا كلهم بشدة. عندما وصلنا الى البقعة التي نجلس فيها على الرمال وجدنا زوجتي بمفردها . قالت لنا ان سامانتا قد شعرت بتعب مفاجئ وقررت العودة للقرية لتستريح في الغرفة قليل. دون ان ينبس ببنت شفة لبس والدن ملابسه. بدا على عجلة من امره وقلق بشدة. اومأ برأسه واتجه صوب القرية.

احسست انه مر بالمرحلة الحرجة وسيعود الآن لزوجته. وانهما سيتغلبان على مشاكلهما. وستمضي الحياة. ليس مثلما كانت من قبل . لقد فتح الجمال الذي خبره كل منهما بشكل مختلف , هو كوعد وهي كوعيد , اعينهما على بعد جديد لم يعرفوه من قبل في الوجود , بعد كان يصحبهما وكأنه ظل غير مألوف.

لقد اكتشفا امكانية الخسارة. و حتمية عم الدوام.




Monday, December 18, 2006

جملة



ننتقل من استراليا الى اندونيسيا اكبر دولة اسلامية و المعبر مابين اوشيانيا وآسيا...من اندونيسيا كانت اليابان تنتوي غزو استراليا في الحرب العالمية الثانية...وفي هذه القصة يحدث انتقالا جديدا في الحالة المزاجية ووصفا اقرب الى الاثنوغرافية...ولكن مرة اخرى هناك المفاجأة في النهاية
يا ترى حتتوقعها يا ايماتيور؟؟؟
اهداء خاص للدكتور خالد عشان بقاله فترة بطل ييجي....اكيد زعلان!!!
وللدكتورة ايمان صاحبة اللمسة الحريرية
وطبعا لايماتيور ي...الجميل لانه خلاص اصبح صاحب بيت وخد 3 اهداءات وكسب 75قرش صاغ
اسامة

جملة

قابلت مايكل ويلسون الرحالة ازرق العينين في جزيرة ساموسير و بالقرب من بحيرة توبا البركانية في شمالي سومطرة.كنت انزل مع زوجتي في فندق خاص صغير عبارة عن خمس اكواخ تشبه اكواخ الاهالي, ومزينة بنقوش زاهية , وذوات اسقف عالية . رأى مايكل ان اسعار الفندق اعلى من ميزانيته, ولذا قرر البقاء في قرية قريبة , حيث حظي بالاصالة وليس الراحة.

قدم نفسه بوصفه مصور جوال حر , ولكن عندما سألته عن نوع الكاميرات الذي يستخدمه, تردد قليلا ثم قال ان كاميراته قد اخذتها منه عصابة من اللصوص في شرق تركيا, ولذا كان عليه ان يغير مهنته وهكذا صار انثروبولوجيا يدرس العادات و التقاليد المحلية . كان قد قدم للجزيرة لجمع مادةلكتاب يؤلفه عن الاشربة التي تستخدم في الطقوس الدينية في الشعوب البدائية. والحق يقال كانت لديه معلومات مذهلة حول الاشربة المسكرة المحلية .وكان يتكلم عن اماكن مثل باتاجونيا وبورنيو و جزر انادامان كما لو كانت من ممتلكاته ويعرف كل شبر فيها.

لكن سرعان ما صار غروب الشمس هو الموضوع الاساسي في كل محادثاتنا . كان مايكل يستطيع ان يتكلم عن غروب الشمس في بالي , و على نهر الميكونج , و في جبال الهيمالايا. كان يتكلم بلا انقطاع ولساعات طويلة ودون ان امل من حديثه.قال ان الطريقة الاصلية لتحديد جودة أي نوع من انواع الاشربة هي اخضاع الشراب لاختبارخاص اسماه "تحليل غروب الشمس"

سألني ذات صباح هل اود ان اشترك في اختبار الشراب المحلي الذي يستخدمه سكان الجزر ليضعوا اجنحة لارواحهم وهم يحتفلون بطقس يسمى "ليلة تمام البدر". واسر لي مايكل انه قد نجح في الحصول على بضع قطرات من السائل المقدس من مدرس القرية المسمى السيد فرانشيسكوس. قلت له اني على اتم استعداد لمعاونته بشرط الا اشرب شيئا من هذا المشروب المقدس. رد مايكل ان الموجود لا يكفي اثنين ابدا , كل ما في الامر انه لا يعرف تأثير الشراب عليه, وقد يحتاج لمساعدتي لو ساءت الامور.

وهكذا خرجنا بحثا عن مكان ملائم لتأمل غروب الشمس. و بعد ساعات طويلة من المشي كنت مستعدا لان اعلن ان هذا يكفي . لكن مايكل اخذ يرجوني كي اتحمل قليلا فهو يبحث عن تنسيق معين للاشجار . حيث تتحول الشمس الغاربة الى خلفية تحول الاشجار المتراقصة الى شخوص بشرية . ومن خلال نقاء وجمال رقص الشجر يمكنه تحديد قوة الشراب .

واخيرا وخوفا من غروب الشمس اختار مايكل بقعة معشوشبة عالية تطل على البحيرة ونرى منها الجبال التي تناطح السحاب في الجزيرة الرئيسية. جلسنا , و انتظرنا ظهور الشمس من خلف الجبال في الشريط الازرق الرفيع فوقها لتبدأ في الغرق في المساحة الزرقاء الشاسعة اسفلها. كنت خائفا بعض الشئ من الموضوع برمته.

كان مايكل بالنسبة لي نصابا حقيقيا, وماذا لو جعله الشراب اكثر جرأة ورغب في خنقي او القائي في البحيرة؟ لافرصة لي في النجاة بجلدي.

اخرج قارورة صغيرة بها سائل مائل للصفرة وجرع جرعة. وانتظرنا ولم يحدث شئ. جلسنا واخذنا نحملق في الافق نشاهد الشمس الغاربة عبر مياه البحيرة. كنا ننتظر ان تغرق الشمس الافق في نيران الوان غروبها. فجأة سمعت صوت قرقعة ضعيف.استدرت فلاحظت مجموعة من اطفال القرية كانوا يتلصصون علينا من خلال الاكمة .كانوا عشرة على الاقل, لم يغتسلوا منذ زمن ويرتدون اسمال.

لم يعرهم مايكل ادنى اهتمام. كان مستغرقا في تأمل المياه اللؤلؤية الرمادية في البحيرة. وجرع جرعة اخرى.وكنت استدير لارى ما إذا كان الاطفال ما يزالون في مكانهم , وادركت فجأة ان احد الوجوه المختفية خلف الاكمة تنتمي لفتاة في حوالي السادسة عشرة . التقت عيوننا وابتسمت . فتشجعت و نزعت نفسها من المجموعة واقتربت منا كانت طويلة بالنسبة لفتاة من الاهالي, و رفيعة جدا, كان شعرها الاسود معقودا خلف ظهرها في ذيل حصان. وكان وجهها المستدير مزينا بانف افطس وعينين واسعتين. وكشفت شفتاها المفتوحتان عن اسنانها العلوية القوية , وذكرني هذا المنظر باسلافها من اكلة لحوم البشر فسرت الرعدة في جسدي.

كانت تحمل سلة في ذراعها.

جلست خلف ظهر مايكل و غرست اصبعا في كتفه. وفي نفس الوقت اخذت تضحك. ضحكة نصف خجلة نصف ساخرة. وفي الحال تلقفتها اذان الكورس المختفي خلف الشجيرات و رددوها في صدى منغم. وقف مايكل واستدار , فادخلت الفتاة يدها في سلتها واخرجت كراسة قديمة . وقدمتها لمايكل قائلة في انجليزية مرتعشة " اكتب جملة " و اشارت لصفحة بيضاء.

نظر مايكل اليها بعيونه البراقة.

كررت الفتاة "جملة"كان يبدوعليها انها قد اعتادت على اعطاء الاوامر, ربما كانت ابنة زعيم القرية!

وعندما ادرك مايكل اخيرا ماهومطلوب منه اخذ يبحث في جيبه حتى وجد قلما و خربش شيئا على اول صفحات الكراسة"ما اسمك؟"

ما ان اخذت الفتاة الكراسة من يده حتى دفعتها مرة اخرى في صدره.

قالت" كتابة رديئة". وفي الحال اختنق فريق الكورس من الاطفال بضحكات عالية. خجل مايكل واحمر وجهه و بعد تردد كتب في الكراسة الجملة بشكل مقروء.

اعترضت الفتاة " لا, قلت جملة وليس سؤالا" مرة اخرى تفاعل الكورس. استدارت طفلة صغيرة و رفعت ذيل تنورتها لتكشف لنا عن عجيزتها الصغيرة العارية.

كان من الواضح ان عملية اختبار الشراب لن تذهب بعيدا. فقد كانت الشمس تختفي في سرعة في البحر خلف الجبال.

سألها مايكل " ما نوع الجملة ؟"

شرحت الفتاة " جملة كبيرة جميلة لا يستطيع أي فرد, أي فرد,ان يفهمها"

" نعم , اكتبها في امتحاني , لي, لاستاذي السيد فرانشيسكوس"

كان السيد فرانشيسكوس هو الرجل الذي باع الشراب لمايكل.كنت قد رأيته مرتين من قبل , عندما اتى للفندق ليقابل صاحبه في امر وصفه بأنه عاجل وشديد الاهمية, وكان السيد فرانشيسكوس دائما يحمل كتابا تحت ابطه ليظهر للعامة مدى علمه وغزارة معرفته. ولأنه المدرس الوحيد كان يعتقد ان من حقه ان يقرر المنهج الدراسي

ولسبب لا يعلمه احد كان يعشق الانجليزية.

عندما قابلته كان منشغلا تماما بالتحضير لاهم حدث في حياته ," ليلة تمام البدر".كان هذا الطقس المحدد سيجعله احد الملوك. احد النخبة المختارين , الذين يراهم اهالي الجزيرة كخالدين. الخلود ليس متاحا لكل اهل الجزيرة. فاللوصول لهذا الهدف كان على المرء ان يبني محرابا ابيض و ويستخرج رفات اسلافه من قبورها , ويحرقها و يضع الرماد في تابوت, ثم يولم وليمة ضخمة لكل فرد في القرية يريد ان يأتي و تستمر الوليمة لمدة ثلاثة ايام.

كان من المستحيل على فرانشيسكوس سليل الاسرة الفقيرة ان يولم هذه الوليمة اعتمادا على مرتبه الحكومي. لكن فرانشيسكوس كان يحظى باحترام هائل بين اهالي الجزيرة و يحصل منهم على هدايا من دجاج وخنازير وجاموس واجولة من ارز واقمصة منزلية الصنع و لولا هذه الهدايا كان يجب على رفات اسلافه ان تظل في قبرها . ولكن بسبب هذه المكانة فبوسع هذه الرفات ان تتطلع للحرق العام و الاحترام والتقدير.

سألها مايكل" إذن تريدين التأثير في السيد فرانشيسكوس؟"

رفعت الفتاة حاجبيها في دهشة " ما معنى تأثير؟"

لم يرد مايكل . وهز القارورة الصغيرة ونظر الي و غمغم" دفعت لفرانشيسكوس خمسة جنيهات مقابل هذا الشئ, ويبدو انه مزيج من البترول و عصير التفاح المخمر"

شدت الفتاة كم قميصه متعجلة اياه ومكررة" جملة , اكتب جملة"

رد بنفاذ صبر" حسنا , حسنا"وتمتم" دعينا نفكر بهدوء , لابد وان نعطي العزيز فرانشيسكوس شيئا جديرا به, اليس كذلك؟"

و اخيرا كتب" لو كان بوسع المرء ان يطفو في الفضاء ,ويتحرك نحو الغرب متجها, بسرعة تعادل سرعة دوران الارض حول محورها . ولو بدء المرء رحلته مع لحظة غروب الشمس, لكان بوسعه ان يستمتع ببهاء الشمس الغاربة طوال اليوم. والاهم انه لو كان بوسع المرء ان يضبط سرعته وحياته على هذا الايقاع لتحولت كل ايامه الي غسق مستمر لا ينتهي بلا ليل ولا نهار , ولكان اللون الوحيد الذي يهيمن على الحياة هو لون الشمس تسقط من حالق الافق لتغيب ولا تغيب."

قرأت الفتاة الجملة بصوت عال وأخطأت في هجاء ونطق كل الكلمات عدا ثلاث. وكانت تزداد استثارة مع كل كلمة حتى انفجرت ضاحكة في النهاية.وردد الكورس فرحتها مهللا. اعادت الفتاة الكراسة الى سلتها , وقالت في حسم" اعود للمنزل , الآن".

وفي ابهة عادت للجمع الذي كان ينتظرها مثلما اتت. واستقبلها الاطفال استقبال الجماهير للاعبيها الفائزين ببطولة العالم.وبدا لي وهم يحاولون انتزاع الكراسة من السلة انهم ينظرون للكراسة بوصفها نوعا من الملكية العامة للقبيلة. شئ ينتمي لهم وللآخرين.

بعد ذهابهم سألني مايكل عن رأيي في الشراب وهو يعطيني القارورة. اخذت رشفة صغيرة , امنت على ما قاله" بترول مع عصير تفاح مخمر"

غمغم في غضب " خمس جنيهات كاملة"واضاف" لتكن هذه الجملة حجرا يخرسه"

في اليوم التالي اصابنتي نوبة قاسية من " اسهال سومطرة". وطوال اسبوع كان علي ان اظل على مقربة من الحمام ولم اجرؤ على مغادرة الفندق. وكان المالك يعودني يوميا ليرى ان كنت اتحسن . وربما كان قلقا من تكاليف الجنازة المحتملة.

في زيارته الثانية اخبرني ان السيد فرانشيسكوس قد دعاني لحضور " ليلة تمام البدر " الخاصة به بوصفي ضيف الشرف. وعلى الفور اتت لمخيلتي صورة قدور طبخ كبيرة تحتها نار حامية و عادة كان ضيوف الشرف ينتهون داخل القدور. ولكن لان صاحب الفندق كان يقرأ الافكار فقد طمأنني قائلا ان مكانتي الرفيعة لا تتطلب الا الجلوس بجانب السيد فرانشيسكوس وتكرار افعاله. لو جلس , علي ان اجلس , ولو وقف علي ان اقف , ولو أكل لحما, علي ان افعل مثله. ولو بصق اللحم في قرف , اكرر ما فعل بالضبط وبكل اخلاص. وانتابني شعور جارف اني لا اريد ان اشفى بسرعة.

في اليوم الرابع طلبت من صاحب الفندق ان يرسل شخصا للقرية المجاورة ويطلب من مايكل ويلسون ان يأتي لزيارتي لاني اريد ان اراه. عاد المالك باخبار غريبة فقد اختفى مايكل منذ عدة ايام ولا يعرف احد أين ذهب؟

ووفقا لرأي اهل القرية لا يمكن ان يكون قد غادر المكان , فمازالت حقيبته في مكانها. التفسير المحتمل انه في جولة تفقدية دراسية!!!

وجدت تلك الاخبار عسيرة الهضم بعض الشئ, وبالاضافة لهذا اتى المالك ليخبرني بعد يومين ان "ليلة تمام البدر" الخاصة بالسيد فرانشيسكوس قد الغيت. وعادة فأنه الاختبار الاخير لمن يريد الخلود يعقد قبل اليوم الموعود باربعة ايام حيث يأتي الرجال الاكثر غنى في القرية ليدعموه ويقدم له كل واحد منهم جاموسة!!!

ومن الواضح انه في هذا اليوم استيقظ السيد فرانشيسكوس مبكرا جدا, واعطى التلاميذ اجازة , واخذ ينتظر في نفاذ صبر وصول الجواميس من القرية. لكنهم لم يصلوا ابدا. عند الظهر ذهب السيد فرانشيسكوس للقرية ليستطلع ما الامر. وهناك في اكبر ميادين القرية واجهه الرجال الاربع الاكثر ثراءا في القرية بأنه كاذب مخادع وبالكاد يصلح للعيش بين البشر الفانين , فكيف يتطلع للعيش بين الخالدين. و قالوا انهم لم يعودوا ينخدعوا بهذا الكتاب تحت ابطه., فلديهم الآن الدليل الدامغ الذي لا يضحد ان كل علمه الغزير الذي يدعيه ليس الا كذبا و ادعاءا وتدليسا حصل من خلاله على هدايا لا تحصى منهم. فكيف يكون المرء عالما وهو لا يستطيع ان يفهم جملة بسيطة كتبتها فتاة غرة في السادسة عشرة من عمرها؟

وهكذا اضطر السيد فرانشيسكوس آسفا لالغاء كل الدعوات والغاء الاحتفال . وبعدئذ اعلن الرجال الاربع , واحدهم ابو البنت ان على كل المعلمين ان يعيشوا على مرتباتهم او ان ارادوا المزيد فعليهم مشاركة اهل القرية في العمل الجاد والشاق.

لم يستطع فرانشيسكوس ان يعمل لا عمل جاد و لا عمل شاق , فهرب للداخل. ولم يعرف احد لماذا الى ان فتح اطفال القرية القبر الذي كان قد اعده لدفن رماد اسلافه , فوجدوا فيه مايكل ويلسون مكمما ومربوطا وقد فقد الكثير من الوزن. وسرعان ما أخذ قارب شرطة مايكل لمستشفى كبيرة .

حسنا وماذا عن فرانشيسكوس؟لقد حقق الخلود الذي كان يرجوه , وان حدث هذا بطريقة مختلفة , فقد صار اول فرد من اهالي الجزر يفشل في الهروب من السجن!!!


Friday, December 15, 2006

تلوبيا


في صحاري استراليا نفسها....وداخل حافلة ...مرة اخرى وسيلة مواصلات و مواجهة لعنصر طبيعي ...هذه المرة الرمال والصبار و مرة اخرى حكايات الانسان.هل هناك تغيير؟؟؟

تلوبيا

استغرقت رحلة الحافلة الى الصخرة العظمى في قلب استراليا طوال الليل. سافرنا اولا عبر صحراء انجوس داون حيث ظللنا طوال ثلاث ساعات لا نرى شيئا غير شجيرات معروقة حولها بقع من العشب المتآكلة. ثم عبر مزرعة الاغنام في كرتن سبرنجز حيث لا يوجد اي دليل على وجود اي حياة الا ظهور طيف غير محدد لشجرة منفردة في ضوء القمر بين الفينة والاخرى.هل يوجد اي انسان يعيش في هذا الفراغ القاحل؟ ورغم ان الحافلة لم تكن خاوية الا ان الخواء المحيط في الليل البهيم جعلنا نشعر كما لو اننا رواد فضاء في سفينة فضاء تتحرك بلا هدف محدد في ارجاء الكون المتسع واقرب نقطة حياة تبعد عنها آلاف السنين الضوئية.

جلس خلفي ثلاثة مدرسون امريكيون يعملون في الفلبين, شاب طويل نحيف له سحنة يهودية كان الآخران يناديانه بول , وشاب سمين بعض الشيء اخذ الصلع يضرب في رأسه اسمه دان وشقراء فاتنة صغيرة القد اسمها تلوبيا و مثل كل الامريكيين شغلوا ضعف المساحة التي كانوا يحتاجونها فعلا, ووضعوا امتعتهم على ثلاثة كراسي اخرى ومعها اقدامهم. ومثل كل الامريكان كانوا يتكلمون بصوت عال لدرجة ان كل الحافلة كانت تصغي لكل كلمة يتفوهون بها.

كان النحيف الطويل هو الذي يتكلم في معظم الاحوال . كان من هؤلاء البشر الذين قرأوا كل شيء و يعرفون كل شيء ويريدون أن يخبروا الجهلة من بني البشر الآخرين بكل ما يعرفوه وهم على يقين ان هؤلاء لن يفقهوا شيئا رغم كل المجهود الذي بذلوه.تكلم اولا عن السمك, وهوموضوع غريب حقا بالنظرلان اقرب نقطة ماء كانت على بعد ما لايقل عن200 ميل .كان يعرف كل شيء عن اسماك استراليا. وكيف تستطيع السمكة النبالة ضئيلة الحجم ان تقذف بنقطة ماء الى مسافة مترين في الهواء , فتصيب ذبابة طائرة. وكيف ان تلك المخلوقات الصغيرة الحجم لها عادة غريبة هي التصويب على السجائر المشتعلة التي يدخنها الصيادين واطفاءها.

كان الآخران مهتمين بما يقوله بول اهتماما غير عادي . وكانا يتعجبان من كل شيء"لا , غير معقول" " لا, تقل هذا" " لا, مستحيل"

ثم انتقل بول للحديث عن السمكة التي تنتقل عبر الطمي في ولاية كوينزلاند, والتي تستخدم زعانفها كزحافات عند حدوث الجذر وانحسار الماء , وتتسلق الاشجار حيث تصطاد الذباب والعناكب وغيرها من الهوام!! وتستطيع تلك الاسماك اخراج عيونها من مقلها ولفها في كل اتجاه. لكن بول كان يرى ان اكثر اسماك استراليا غرابة هي السمكة زرقاء العينين التي لولاها ماكانت قناة بنما قد شقت ولا انتهت.

عند هذه الكلمات كان معظم الركاب في الحافلة يصغون بانتباه وينصتون لحكايات بول, حتى السيدة العجوز التي كانت تجلس خلفنا اشرأبت بعنقها لتصيخ السمع للحدوتة. استمر الامريكي الطويل النحيف قائلا: إن السمكة زرقاء العينين تتغذى على بيض الناموس. وعندما اكتشف علماء الحشرات هذا الموضوع نقلوا بعض من الاسماك زرق العيون الى نهر التيبر في روما وفي بضع سنين تكاثر السمك حتى انه قضى تماما على الناموس .وهكذا قضي ايضا على الملاريا.في هذه الآونة كان الامريكيون يحاولون شق قناة بنما وبدا الامر شبه مستحيل حيث كان العمال يصابون بالملاريا باستمرار. وهكذا جلبوا السمكة زرقاء العينين , وفي لحظة انتهت الملاريا , وانتهى حفر القناة. وهكذا يعترف المتخصصون بفضل هذه السمكة التي لولا عونها لما امكن انشاء القناة.

وعندما انتهي الامريكي النحيف من السمك , انتقل الى الحيات, ولكن في نفس اللحظة تقلقلت الحافلة و اهتزت و سقط بعض الركاب من مقاعدهم من شدة الصدمة. وبسرعة توقف كل شيء حتى صار بوسعنا سماع صفير الريح في الخارج تتخلل وريقات الشجيرات القليلة على الطريق.وعلى صوت بول وهو يسأل السائق ماذا حدث وهل اصيبت السيارة بعطل مفاجيء وهل هناك ميكانيكي على متن الحافلة؟

رد السائق ببساطة ان الحافلة على ما يرام وان كل مافي الامر انه نسى ان يضع وقودا في الخزان قبل مغادرة محطة الانطلاق في اليس سبرنجز . ليس امامنا الا الانتظار الى حين مرور الحافلة القادمة من الاتجاه المضاد, وربما نستطبع ان نأخذ منها بعض الوقود يكفينا للوصول الى اقرب محطة. ختم السائق كلامه قائلا ان هذه الحافلة ستصل عندنا في غضون 3ساعات.ويمكننا ان نحتسي الشاي ونحن ننتظرها.

خرجنا من الحافلة بنظام . كانت الليلة مقمرةولكن كان ثمة احساس بعتمة اشد من ضوء القمر
انهامن تلك الليالي التي نمضيها عندما نكون في احراش السافانا او سهول الإستبة.لايوجد شيء يمكن للمرء ان يراه على مدى البصر سوى نقطة اللقاء الغائمة بين الارض والسماء.

كان بالقرب منا بضع بقع من الحشائش المتناثرة وكأنها كلاب ضالة تهيم على وجهها في كل مكان بلاهدف سوى البحث عن الماء والغذاء . وكانت الريح تهب على السهل شديدة البرودة. حتى ان الجميع احس بقشعريرة البرد تجتاحه بعد لحظات من نزولنا.

عاد المسنون من الركاب للحافلة و لفوا حولهم الاغطية التي جلبوها معهم. بينما التف الباقون حول السائق في انتظار ان يوقد موقد الكيروسين الذي يحمله ويعد الشاي الذي وعدنا به.

كان الامريكيون الثلاثة غاضبين من التوقف المفاجيءفي وسط اللامكان . وما فتيء بول يغمغم :كيف يمكن ان ينطلق سائق في رحلة لمسافة 500 كم ولا يتأكد من امتلاء خزان الوقود؟ مثل هذه الاشياء لا يمكن ان تحدث في الولايات المتحدة. أمنت تلوبيا على كلامه قائلة: لايمكن ابدا. واكد دان: هذا امر لم ار مثله قط وهوشيء مخجل في الحقيقة.

سألوني هل استراليا بلد بدائي جدا و غير مسكون مثل تلك المناطق الداخلية؟ طمأنتهم انه توجد على الشواطيء الشرقية و الجنوبية مدن حيث الحياة امريكية اكثرمن امريكا ذاتها. تنفس بول الصعداء : الحمد لله. وسرعان ما اضاف الآخران: ارجو الاتفهمنا خطأ . نحن نحب هذه البرية , الامر وما فيه اننا كنا نتوقع شيئا مختلفا.

لم يكن خزان الوقود في الحافلة هو الخزان الوحيد الخالي من الوقود, فقد نسى السائق ايضا ان يملأ خزان الموقد , كان كل ماجلبه هو الماء. لكن كيف يمكننا عمل الشاي دون غلي الماء اولا؟ وكيف يمكننا غلي الماء؟ فرك السائق يديه وقال" حسنا ايها السيدات والسادة الى العمل. فالجو شديد البرودة وكلنا يحتاج الى بعض التمارين لنسخن. دعونا ننتشر ونجمع الحطب و نشعل نارا تدفئنا ونغلي عليها الشاي".

صعد بعض الركاب الى الحافلة دون ان ينبسوا ببنت شفة. لكن معظمنا انتشر في المكان بحثا عن الحطب . لم يكن هناك الكثير لنجده. اخذت في الابتعاد عن الحافلة واستغرق الامر قرابة النصف ساعة كي اجمع شيئا ذا قيمة. عندما قررت العودة وجدت انني لا استطيع رؤية الحافلة. وللحظة برقت في ذهني فكرة مرعبة, لقد استأنفت الحافلة طريقها وتركتني وحدي في هذا المكان القفر.ثم رأيت جذوة من نار تشتعل غير بعيدا عني على مسافة نصف ميل تقريبا. يبدو ان الآخرين كانوا اسرع مني .

تحرك شيئا ما بين الشجيرات القريبة, شيئا ابيض اللون.وسمعت حفيف اوراق . اعتقدت ان ثمة وحش مفترس يتأهب للقفز علي , احد هؤلاء المخلوقات الغريبة التي كان الامريكي النحيف يحكي عنها , وكنت على وشك اطلاق صرخة.ثم سمعت تأوه خافت لامرأة تتألم. وتبينت ان ثمة قطعة قماش ابيض على الحشائش بالقرب من الشجيرات. عرفت في هذه القطعة البلوفر الذي ترتديه تلوبيا. ظننت لاول وهلة ان شيئا قد حدث لها , وخصوصا انها كانت مستلقية على ظهرها تتأوه باستمرار. توجهت نحوها لارى ان كانت بحاجة للمساعدة. لم تكن بحاجة لمساعدتي فقد كان ثمة شخص آخر يساعدها باخلاص شديد.

عندما عدت للحافلة وجدت النارمشتعلة و الماء على وشك الغليان.و انبثق عدة ركاب آخرين من وسط الظلام, وكان من بينهم بول الذي جلب معه حمل كبير من الاغصان الجافة يعلم الله من اين اتى به. رحب السائق بالقادمين قائلا " بالأكيد لن يحس اي منا بالبرد"

وأخيرا وبعد 10 دقائق اخرى وعندما كنا نرشف الشاي و نحملق في شرارات النار المتراقصة,

وصلت تلوبيا ومعها دان وهما يحملان بضعة تويجات من الاوراق والقليل من الحشيش الجاف. واخذا يتأسفان لانهما لم يجدا الكثير رغم بحثهما الدؤوب. و ابديا اعجابهما الشديد بالكم الهائل الذي جمعه الآخرون.

تحلقنا حول النار نتأملها ونشرب الشاي و بدأ بول يحكي لنا عن السحالي العجيبة المتوافرة في استراليا : عن السحلية الطائرة التي تقفزمن شجرة لاخرى , وعن الشيطان الصغير الذي ينبح ككلب عندما يحس بالرعب, وعن السحلية الحلقية التي تتحرك علي رجليها الخلفيتين وكأنها تركب دراجة وتغير لونها ليتناغم مع لون الارض التي تجري عليها.

تساءلت سيدة مسنة كم مرة زار فيها الشاب العلامة استراليا ام هو عالم حيوان؟

ضحك بول"لاهذا ولا ذاك" . وتابع " انا مدرس رياضيات. انا فقط مهتم بهذه الامور . ويجب ان اعترف ان هذا الاهتمام له اسباب عاطفية . فأسم زوجتي هو الاسم اللاتيني للزهرة الاسترالية التي يسميها السكان الاصليون واراتاه. الشجرة يصل ارتفاعها الى مايقرب من ثلاث امتار وتحمل حوالي 50 زهرة حمراء. وهناك اسطورة لطيفة يحكيها السكان الاصليون لتفسير نشأتها. ففي زمن بعيد خيالي , عاشت فتاة جميلة ماهرة صنعت لنفسها حلة من جلد القنغر الاحمر و زينت هذه الحلة بحلية قرمزية من ريش الببغاء. وكانت تلبس هذه الحلة كل يوم وهي تنتظر عودة حبيبها المحارب الشاب الشجاع من الصيد. وكان هذا يهرع اليها ويترك رفقاءه من المحاربين الآخرين.وذات يوم كانت تترقبه على صخرة عالية فرأت سحابة من الغبار تتصاعد في الافق وسمعت صوت معركة مع قبيلة معادية. وعندما عاد المحاربون الشجعان لم يعد حبيبها معهم.وظلت الجميلة مخلصة له وتترقب عودته التي لاتحدث.و تزايد حزنها حتى ماتت وتحولت الى اجمل زهرة على الارض. فساقها طويلة ممشوقة مثل قوام الحبيب, واوراقها حادة مثل رمحه, وازهارها حمراء كقلب الفتاة. لا تعرف زوجتي لماذا سماها ابواها بهذا الاسم؟ ولكن بعد ان سمعنا الاسطورة كان علينا ان نأتي لنرى هذه الزهرة الجميلة. هذه الرحلة تمثل رمزا عاطفيا لكل منا. اليس كذلك , يا حبيبتي تلوبيا؟"

ابتسمت زوجته في خجل وهزت رأسها موافقة. ثم بدأت في رشف الشاي بصوت مسموع بعض الشيء. واستأذن دان قائلا انه بدأ يحس بالبرد. وتوجه نحو الحافلة.

نادى بول عليه " غط نفسك بسترتي , انا لا احتاجها"

بدأت النارفي الانطفاء و بدأ القمر, الذي لم نكن نلحظ وجوده بسبب السنة النار,في الظهور صافيا كعادته. وبدا كما لوكانت وجنتاه المستديرتان تخفيان ابتسامة محارب ساخر عجوز رأى كل شيء ولم يعد ثمة شيء يثير تعجبه!!!!


Monday, December 11, 2006

المرأة ذات العضة الحديدية ،قصة على متن اكيلي لاورو ...ولمن لا يذكر الاكيلي لاورو فهي تلك السفينة التي قتل على متنها يهودي عجوز وزوجته و احتجزت الطائرات المصرية بسببها
هذه المرة القصة عن رحلة لها الى استراليا كسفينة عابرة للمحيطات و الاهم انها تغيير عن جو الهند...و انجلترا ...نحو استراليا ..هل سيحدث تغيير اسلوبي ؟؟
هذا ما اتمنى ان اسمعه منكم
اسامة


السيدة ذات العضة الحديدية!!!



اين ذهبت تلك الايام الخوالي عندما كان الهواء مايزال خاويا لا تزحمه 5000 طائرة تتدافع لتجد مكانا في كل لحظة!! وعندما كان من الضروري او في الواقع من الممكن السفر الى استراليا على متن عابرة محيطات! عندما لم تكن العجلة هي قانون الساعة, عندما كان المرء شابا مفعما بالامل و الاحساس بالشكر لانه استطاع السفر الى قارة القنغر على نفقة الحكومة الاسترالية ؟في تلك الايام كان كل شيء مختلفا ,بما في ذلك المسافرين على متن سفن الركاب. فقد كان كل منهم يختلف عن الآخر , وكانوا اكثر اثارة, واكثر خطرا!!

على أي حال أحسست أنا و زوجتي ونحن نبحر نحو جنوب افريقيا على متن عابرة المحيطات "آكيلي لاورو" اننا وسط الجمهور الاكثر تنوعا بين كل المسافرين الذين ركبوا البحر.كنا في طريقنا الى استراليا وذلك عبر المحيط الهندي و في احيانا كثيرة كنا نظن ان معظم الركاب قد خرجوا لتوهم من صفحات احدى المجلات المصورة!!ولذا لم نعجب عندما اخذنا نعتقد اننا ايضا نعيش داخل رواية.

الذهاب لاستراليا بوصفنا مهاجرين يبحثون عن حياة افضل هو أمر عادي وغير مهم ولا ينتمي على الاطلاق لشبكة العلاقات السحرية التي كانت على السفينة. كنا نريد ان نمتلك (ماضيا) مثل كل الآخرين. ماضيا يجعلنا نبدو مهمين في نظر هؤلاء الآخرين!

في الواقع كان لدينا ماض. لكنه كان متواضعا ,فوفقا للقانون الهولندي كانت زوجتي البالغة من العمر 18عاما ماتزال قاصرا, ولذا تزوجنا سرا في انجلترا وابحرنا لاستراليا دون ان نخبر احدا!! خوفا من أن يحاول ابواها الغاء الزواج. وبقليل من الخيال اصبحنا حبيبين يفران بحبهما من قيود وطغيان المجتمع البورجوازي ضيق الافق!

لكن ماذا تعني تلك القصة لو قارناها بقصة السيد بوريللي النادل الذي كان يقدم الطعام الينا في غرفة الطعام الواسعة, والذي كان يخدم في الفرقة الاجنبية منذ 5 سنوات وهرب من الخدمةبعد ان طعن احد الضباط في ظهره؟ كان هذا الكلام مجرد اقاويل يتناقلها الركاب لكن السيد بوريللي,وهورجل محترم كسول مؤدب ولكن على وجهه ندبة ليست من اثار الحلاقة بكل تأكيد, لم يحاول انكارها. وعلى العكس كانت الشائعات تفرحه, وكان يحرص على ان يوقد جذوتها كلما أحس انها في سبيلها للموت

وذلك من خلال ملاحظة محسوبة بدقة, مثلا على المرء ان يواجه العالم القاسي بالقسوة ,أو لايجب أن يقف أي شيء في وجه الانسان!! وكنت انظر اليه وهو يضع ادوات المائدة على طاولتنا وارى في يده سكينا فأفكر : تلك اليد... يد قاتل.

كان السيد والسيدة فوجلسانج يمتلكان ماضيا ايضا . كان كل من الزوجين نحو الاربعين من العمر وكنا نشاركهم في نفس المائدة. كانا في طريقهما الى بريسبان مع ابنتيهما. وكانا يأملان في الحصول على عمل في احد بنوك تلك المدينة. وكانت الاشاعات تقول انهما قد مارسا تبادل الزوجات , وهو الامر الذي كنا نسمع به لاول مرة انا وزوجتي حيث كنا شبابا معدومي الخبرة.

ذات مرة كنا في قمرتهم ,وكانوا قد دعونا لتناول المشروبات,وطرحوا علينا الامر ببساطة. وكي يؤكدوا لنا ان الموضوع لاغبار عليه قالوا لنا انهم قد فعلوها مع اكثر من مائة زوج!!!ونتيجة لهذا فأن زواجهم مازال محتفظا بنضارته كما لو كانا قد تزوجا بالامس وقالا ايضا انه بالمقارنة بالزيجات الاخرى فأن زواجهم سيظل هكذا ربما للابد. ثم سالونا عن رأينا في هذا؟

اجبنا اننا في تلك القضية للاسف لسنا تقدميين, وأننا ربما مازلنا نعيش في عالم قديم ! واننا نهتم بتبادل افكارنا الرقيقة ومشاعرنا المتدفقة فيما بيننا اكثر من مشاركة غرباء في اجسادنا.نعم,نحن نعرف ان تلك رؤية رجعية متخلفة, ولكن لا نستطيع القول بأن تلك المرحلة من حياتنا ستنتهي بسرعة. خرجنا و نحن نحس ان الامر لم ينته وان العرض الذي عرضوه سيظل قائما وسيتم تغليفه بتلميحات مختلفة كلما امكن الى ان نصل الى سيدني!

ولحسن الحظ كان المقعد الخامس على مائدتنا مخصصاللسيدة الجادة جدا لدرجة التجهم السيدة نايلور من ليفربول , والتي كانت متجهة الى ملبورن لزيارة ابنتيها وحفيداتها الاربعة!!لم تكن قد رأت حفيداتها ابدا , ام بالنسبة لبنتيها فعلى الاغلب لابد انهما قد تغيرتا لدرجة انها لن تعرفهما.كانتا تعيشان في استراليا منذ عشرة اعوام

وقد تزوجتا وطلقتا وتزوجتا مرة ثانية, والان تعيشان مع رجل واحد في نفس المنزل وهي لاتعرف من من حفيداتها بنت من !!و لذا قررت السيدة نايلور وهي في السبعين من عمرها ان تضع حدا لكل هذا وتصحح الامور ولو بالقوة. ولذا ابحرت الى استراليا دون ان تخبر ابنتيها. وهي تتطلع الى اللحظة التي ستدق فيها جرس الباب عليهن وتقول "ها انا ذا , هيا اخبروني الحقيقة"!

كانت الرحلة الى استراليا ستصبح شديدة الملل لو تكن طبقات السفينة الاربع مأهولة بالعديد من البشر اصحاب "الماضي المثير"!

كان افضل مصادر المعلومات عن المسافرين على متن الباخرة هو الرجل الصيني الصغير الذي تخلى عن وظيفة النادل في لندن على أمل ان يمتلك مطعما في اديلايد. وعند الاسبوع الاول على ظهر السفينة اعطاني التقرير السري التالي :

من بين المسافرين البالغ عددهم 3500 راكب هناك قاتل (وهذا بصرف النظر عن اليد بوريللي), وخمس لصوص هربوا من السجن , وفيلسوف يستطيع ان يشرح ( وخاصة لي ولزوجتي هذا اذا كنا مهتمين بهذه الاشياء) معنى الحياة , وثلاث فتيات ابكار يفكرن في ان يفقدن عذريتهن على يد احد ضباط الباخرة(ولان السفينة ايطالية فقد كان ضباطها شديدي الحفاوة بالركاب وعلى استعداد لتقديم اي خدمات لهم),و ثلاث من الرجال المسنين الذين سيصابون بازمة قلبية قاتلة مع اول عاصفة تهب على السفينة, وعلى الاقل اربعة من النسوة اللواتي يفكرن في ترك ازواجهن عند اول توقف للسفينة ( والعكس صحيح ايضا), وعدد من اللصوص الذين ينتظرون الفرصة السانحة كي ينظفوا الكبائن من كل غال ونفيس, وعلى الاقل 100 اسرة تركت الفاقة خلفها في النصف الشمالي من الكرة الارضية وأبحرن يحدوهن الامل في ان يصبحن اثرياء جدا.

من اين حصل على كل تلك المعلومات؟ لا يفصح الصيني الصغير عن مصدره ابدا!

كان معظم الازواج يقطن في قمرات خاصة بهم, لكن انا وزوجتي كنا نسكن قمرتين مختلفتين وهذا لاننا لم نجد مكانا على السفينة الا قبل الابحار بايام قلائل.

وهكذا كنت انام في قمرة مشتركة مع ثلاث رجال , اولهم واكثرهم شبابا كان لا ينفك يمشط شعره كلما واتته الفرصة,و كان ثانيهم اسكتلندي عجوزلا ينقطع عن الدندنة بأغاني قديمة , بينما امضى الثالث معظم اسابيع الرحلة الستة نائما. بينما انتهى الامر بزوجتي الى مشاركة ثلاثة نساء لا يتكلمن الانجليزية على الاطلاق.

ولذا كنا نفضل ان نمضي معظم وقتنا على سطح الباخرة . في البار او الكوفي شوب او المكتبة او الجيم او حوض السباحة او على السطح الاوسط او الاعلى.

باختصار في اي مكان لتجمع الركاب كي يمضوا الوقت بعيدا عن القمرات .ورغم اننا كنا نفضل ان نمضي وقتا اطول معا وبمفردنا الا اننا سرعان ما وجدنا تسلية لطيفة في تخمين من من الركاب له ماض اكثر "اثارة."

واخذ العديد من الركاب الذين كانوا بلا ماض يسعون الى اكتساب شيء منه على متن العبارة, كل بطريقته او بطريقتها وكلما سنحت لهم الفرصة او واتتهم الشجاعة.

كان البعض منهم يمضي في هذا الاتجاه بعزيمة من حديد,وكأن وجودهم بالقرب من هذا العدد الكبير من البشر ذوي الماضي المثير قد ملأهم بالتصميم على اكتساب الخبرة قبل الوصول لاستراليا خوفا من ان تقل الفرص المتاحة لهم في ارض الآمال العريضة وخاصة مع وجود هؤلاء الذين لا يوقفهم شيء.

ولكن ربما كان المصدر الحقيقي لهذه الرغبة المحمومة في البقاء على اتصال بالحياة هو الماء المتلاطم الامواج الذي كان يمتد امامنا على مرمى البصر طوال اسابيع .هذا الماء الذي صار وكأنه كائن حي بعد ان غادرنا كيب تاون بقليل. واسفر عن وجهه المرعب من خلال الامواج الهائلة التي تميز المحيط الهندي . تلك الامواج التي سببت المتاعب لكل البحارة حتى امثال جيمس كوك وفاسكو داجاما. كان القبطان يحاول ان يتجنب مواجهتها من خلال المرور القطري عبرها., لكن الموج لم يكن يتركنا لا ليلا ولا نهارا وكان يقصف السفينة باستمرار , وذات صباح بينما كنا نتناول الافطار رضخت الدواعم للهجوم المتوالي والذي كانت ذروته موجة عارمة يصل ارتفاعها الى اكثر من 20 متر .بدأت الاطباق تتحرك على المائدة و اخذ الطعام ينسكب من الاطباق واخذت الادوات تنزلق من امامنا. لم يكن بوسع احد من الركاب في تلك اللحظات ان يدعي اللامبالاة.

كان من السهل استنتاج ان المحيط الغاضب هو السبب الرئيسي للقلق الذي اخذ الجميع يعانون منه وكنت ترى القلق في الوجوه الشاحبة وتسمعه في الاسئلة التي لا تنتهي حول مدى متانة السفينة وهل تلك "الاشياء" امور معتادة عند ركوب البحر؟ ولكن الدليل الدامغ على القلق كان كمية الكحول التي يستهلكها المسافرين في البارات والمطاعم يتساوى في ذلك الجميع حتى اولئك الذين كانوا يدعون في الايام الخوالي انهم لا يقربون أي شئ الا اللبن وعصير الفاكهة!!!

كانت الاعماق تحت ارجلنا مرعبة وتجلى هذا الرعب في منظر اولئك الجالسين لساعات طوال على السطح وهم ممسكين بافريز السفينة والموج يرشهم برذاذ ملحي لا ينقطع. ويتطلعون بلا انقطاع للافق على امل مراوغ في ظهور الشاطئ البعيد الآمن من خلال جبال الموج المتلاطمة.

في هذه الاحوال كان سطح السفينة يعج بالعاملين في التنظيف يجرون هنا وهناك حاملين مكانسهم وجرادلهم البلاستيكية يملؤونها بما يمسحونه من قئ كان يملأ القمرات الداخلية سيئة التهوية بروائح كريهة. في هذه الاوقات كان اسعد الناس هم الاطفال الذين كان غضب البحر المدمر بالنسبة لهم ارجوحة يلعبون بها وليس مؤامرة من قوى الطبيعة. فكانوا يصرخون ويجرون ويقعون في فرح عارم يزداد بسبب عدم وجود أي رقابة او منع من الكبار.

في نفس الوقت كان الكبار قد تحولوا الى اطفال . بدأت العجائز في ممارسة تنس الطاولة. واخذ السادة المحترمون يجربون رفع الاثقال في الجيم. وطلبت السيدة نايلور ولاول مرة في حياتها كأسا من الويسكي المزدوج. واشتركت راهبتان كاثوليكيتان مع ثلاثة مقامرين محترفين في دورة بوكر. وحاصر المسافرون نصف الاميون مكتبة السفينة ثم احتلوها. بينما توقف رفيق قمرتي الشاب المغرم بجماله عن النظر المطول في المرآة وتسريح شعره. وبدأ في التجوال على غير هدى و بلا مقصد وبعينين غائمتين تائهتين. وشعره منكوش مشعث على السطح العلوي للسفينة . وهكذا شهدت السفينة تحولا كبيرا ادى لان يحاول كل فرد الانغماس في رغباته الدفينة وتحقيقها. حتى زوجتي وانا وكنا كسالى بعض الشئ , ارتقينا حلبة الرقص ورقصنا لاول مرة في حياتنا واكتشفنا واجسادنا تتلاصق والعرق يغمرنا اننا لسنا كسالى كما كنا نظن.

لكن حدود تجاوزاتنا لكل المبادئ التي كنا نعتقد اننا نؤمن بها ايمانا راسخا كانت تتوقف دون ادنى تردد عند باب قمرة السيد والسيدة فوجلسانج , اللذان كررا عرضهما وهذه المرة بشكل صريح دون محاولة طرحه مواربة او تلميحا, اثناء العشاء على مائدتنا, عندما غادرتنا السيدة نايلور لفترة وجيزة كي تخبر السيد بوريللي الا يحضر الايس كريم لها لانها تريد الاحتفاظ برشاقتها.

قالت السيدة فوجلسانج وعيناها تتفحصان جسدي المختبئ تحت الجينز الضيق الذي كنت ارتديه في تلك الايام لانه موضة." لا يمكن ان تحكم دون ان تجرب ربما كان هذا الذ شئ في الوجود وآخر عمل تقومان به".

رددت بشئ من الندم " من المحتمل جدا " كانت السيدة فوجلسانج تتمتع بجسد مثير ووجه جميل!

"نعم من المحتمل جدا", "لكننا نفضل ان نتمتع بالذ شئ في الوجود , مع بعضنا اولا" " وخاصة ونحن لا نمتلك قمرة خاصة بنا , وقد لا تتاح لنا الفرصة حتى نصل الى استراليا" وعلى الفور عرضا علينا استخدام قمرتهما مقابل ثمن ضئيل جدا وهو ان يتاح لهما ان يشاهدا , ان لم يستطعا المشاركة.وحتى هذا العرض الكريم رفضناه معتذرين بأننا لم نصل بعد للمرحلة التي نجد فيها مثل هذه الاشياء مثيرة. ولكن لو حدث ووصلنا اليها سنخطرهما في البنك الذي يعملان فيه , وسيكونا بالتأكيد اول من يعلم. بالطبع قد يأخذ هذا زمنا وقد يكونا قد تخطيا التسعين في هذا الوقت مما سيجعل اللقاء غير مرغوب فيه.

لكن قرارنا هذا لم يمنع السيد والسيدة فوجلسانج من متعتهما. فسرعان ما اخبرنا الرجل الصيني الصغير الذي يرى ويسمع كل شئ انهما يتركان حلبة الرقص كل ليلة ومعهما زوج واحد على الاقل يريد ان ينسى ان استراليا مازالت على مبعدة الاف الاميال. وادى هذا الى زيادة شهيتهما التي بدا و انها ليست نتيجة البحث عن المتعة فقط, فسرعان ما اخبرنا الصيني ان الزوجين ياخذان أي زوج من البشر من أي مكان في وضح النهار الى قمرتهما , ويوفران للجميع حفلة جنسية صاخبة محدودة .

ذات مساء سألنا الصيني " اتعرفون السيدة ذات العضة الحديدية؟"كنا في البار . و اردف مفسرا " انها معنا على السفينة, شقراء طويلة , سويدية المولد , متزوجة من رجل هولندي" سرعان ما تجمع حولنا مجموعة من المسافرين الآخرين . و اسر الينا الصيني الصغير ان السيدة المعنية قد سقطت منذ عدة سنوات في كهف في جزيرة كورسيكا الفرنسية و كسرت فكها وهي تستجم في اجازة. في مستشفى في مارسيليا , قام الاطباء باصلاح العطب من خلال تركيب دعامتين معدنيتين للفك السفلي. واعطاها الجسم الغريب الموجود في تجويف الفم احساسا بأن ثمة جزء ناقص من جسدها , ولذا اضحت ضحية لرغبة عارمة لا يمكن مقاومتها لاسترجاع الجزء المفقود وتعويضه باجزاء من اجساد الآخرين. وبذا صارت مصاص دماء لا يقاوم , تهفو نفسها دائما للسائل المنوي , لأنه المادة الوحيدة التي تعوض النقص فيها وتبقيها على قيد الحياة. بدا واضحا لكل المستمعين ان السيدة التي صارت اسطورة على متن السفينة هي السيدة فوجلسانج.

لكن القصة بدت مفبركة بعض الشئ ويصعب تصديقها. فوجود الواح من معدن في الفك هو امر, لكن افتراض ان وجود مثل هذه الالواح يؤدي لتغيير شخصية المرء واحتياجاته هو امر آخر تماما. لكن عندما حكى لي حداد يوناني كان مسافرا لاستراليا للعمل في السكك الحديدية نفس القصة ولكن بتحوير بسيط" في هذه النسخة كان سبب الكسر هو ضربة محكمة من زوجها الذي ضبطها في السرير مع اعز اصدقائه" بدأت اصدق في امكانية حدوث تحول مرضي في الشخصية نتيجة لوجود تلك القطع المعدنية في الفك. وفي الوجبة التلية دققت النظر في الفك السفلي للسيدة فوجلسانج, و لاحظت انه ليس متوائما تماما مع الفك العلوي. وبدا لي انها تدير فكها دورة تامة اثناء مضغها شريحة اللحم على الطريقة الروسية, وكأن هناك ما يمنعها من المضغ بالطريقة السوية.

ووصلت الي مسامعي معلومات جديدة تفصيلية عن فك السيدة فوجلسانج من خلال شائعة أخرى حملتها امواج المحيط الهادرة وضاعفتها وضخمتها فأتاحت لكل الناس الفرصة كي يدلو بدلوهم فيها. فبسبب المعدن في فمها كان بوسعها ان تمص الذكور بطريقة تدفع الرجال للجنون , وهذا ما حدث للبعض على ظهر السفينة اكيلي لاورو . رغم ان كل من تذوق هذه الفاكهة كان عليه ان يحضر معه زوجته او عشيقته او صديقته لقمرة الزوجين فوجلسانج كي تشفي السيد فوجلسانج من مرض عضال مزمن اسمه الانتصاب الدائم. والذي لا دواء له الا القذف المتكرر كلما سنحت الفرصة. ولذا تآكل مقبض باب قمرتهم وصار في حاجة ماسة للتغيير!!

كنت كثيرا ما افكر في ابنتيهما. لم يكن احد يعلم لماذا وضعتا في حجرة الطعام على مائدة غير مائدة ابويهما.( هل كان هذا بناء على طلب الاخيرين؟ اللذان لم يكونا يرغبان في الجلوس مع ابنتيهما) ايضا لم يكن واضحا لماذا عليهما مشاركة راهبتين في قمرتهما؟. كانتا مغلقتان على نفسيهما في معظم الاحوال . وكانت كبراهما , وهي فتاة خجولة ليست جميلة ولكنها جذابة في السادسة عشرة من عمرها , ترعى صغراهما ذات الحادية عشرة عاما وكأنها امها.. وكان من الضروري ان تفعل هذا حيث ان الابوين لم يكونا يعيرا الابنتين ادنى اهتمام, كانوا يتبادلون بضع كلمات عبر الموائد اثناء الطعام وهذا هو كل شئ. لم تكن الفتاتان غاضبتين من هذا الترتيب بل على العكس بديتا سعيدتان لان باستطاعتهما ان يمضيا اوقاتهما على الباخرة دون رقابة ابوية. كانتا تجوبان السطح , وتستحمان في حمام السباحة , وتشاهدان فيلما جديدا كل يوم , وتتصفحا المجلات في المكتبة , وتراقبا الاطفال الآخرين يلعبون.

لم هناك من يعيرهما كثير اهتمام الاالسيد بوريللي الذي كان يخدمهما بسخاء ابوي , فيأخذ الاطباق التي لا تروق لهما , ويجلب لهما اطباق بديلة يحبونها ( وهو لعمري امتياز , بالنظر لان باقي المسافرين كانوا مجبرين على التهام ما يوضع امامهم من طعام) وكان السيد بوريللي كلما وجد فرصة يتوقف على مائدتهما التي يشاركان فيها زوج فنلندي صموت هادئ , امرأة انجليزية عصبية متوترة دائما. وكان يحنو عليهما ويسألهما عما يرغبان فيه وتلمح لمعة خاصة في عينيه.وفيما عاداه كان ثمة ضابط من الضباط الاكثر شبابا يعيرهما انتباها,كان هذا الاخير شاب اسمر اسود الشعر له ملامح صقلية يرتدي بزته الرسمية المكوية بعناية دائما. ولم يكن يخفي حقيقة انه مهتم فقط بالفتاة الكبرى آميليا . ولاحظت ان آميليا فوجلسانج ليست محصنة ضد محاولاته المتكررة كي يجعلها تبتعد عن اختها الصغرى كي يستطيع ان يبثها لواعجه ويشركها في طموحاته. وعندما وجدت الفتاة الصغرى ذات مساء تلعب الشطرنج بمفردها في حجرة الترويح, كنت على يقين ان آميليا على وشك ان تفقد عذريتها في احد قمرات الطافم على يد الضابط الشاب.

في الصباح التالي لم تظهر أي من الفتاتين على الافطار.لكن هذا لم يكن امرا غير طبيعي تماما, فكثيرا ما كانتا تنامان لوقت متأخر . الامر الذي لم يكن مفهوما هو ان من قدم لنا الافطار لم يكن السيد بوريللي وانما نادل كسول بطئ لم نره من قبل وكان غير قادر على ما يبدو على الاحتفاظ بالاطباق في يده, ناهيك عن وضعها على الطاولة دون اضرار.سألت السيدة نايلور بنبرة من القلق "ماذا حدث للسيد بوريللي؟" وتابعت" آمل ان تلك الامواج المرعبة لم تحمله من على سطح السفينة؟" الغريب ان السيد والسيدة فوجلسانج ظلا صامتين وقاما مسرعين ولم يأكلا الا قطعتين من الكرواسان ,شربا كوبين من القهوة. بدا عليهما التعب ولاحت على وجهيهما افكار مظلمة كثيرة. اعادت السيدة نايلور دفة المحادثة الى موضوع السيد بوريللي" كان رجلا ودودا حقا . لا ادري لماذا اظن ان ثمة مرض غريب مستفحل في السفينة."

كان السيد بوريللي قد اصيب بشئ اسوء من المرض بكثير. كان الصيني الصغير يعرف كل شئ عن الموضوع, وبعد الافطار مباشرة جذبني الى جنب وكأن ثمة امر كبير الاهمية يود اطلاعي عليه بسرعة. وكان ماقاله لي ( وبالتأكيد كان قد قاله للكثير من المسافرين قبلي) مرعبا على اقل تقدير. فعلى ما يبدو استدرج السيد والسيدة فوجلسانج السيد بوريللي لقمرتهما في الليلة الماضية , ومنياه بلذة لم ير مثلها في حياته, وبينما كان السيد بوريللي يتمتع بما كان يظن انه اللذة القصوى التي لن تنتهي قضمت السيدة فوجلسانج رأس العضو الذي كانت تتظاهر قبل لحظات انها تمتص رحيق الحياة منه. ويبدو ان العديد من الناس قد شاهجوا الجندي السابق في الفرقة الاجنبية يصرخ من الالم وهو يحاول ان يرفع بنطاله فوق ركبتيه, وهو يعدو في طرقات السفينة نحو عيادة الجراحة حيث استطاع الجراح ان يوقف النزيف, لكنه لم يستطع ان يرفو الجزء المقطوع من العضو الهام!!لأن السيدة فوجلسانج اما ابتلعته او بصقته في التواليت و سحبت السيفون. وقد حدث كل هذا , لان السيد بوريللي قام قبل هذه الاحداث بساعتين بخرق ابنتها آميليا , وكان من اعلمها بهذه الواقعة آميليا المثلومة ذاتها.

بدت قصة الصيني الصغير لاول وهلة فاقدة للمصداقية تماما وكأنها احد تلك الشائعات التي يضيف اليها كل من يسمعها جزءا من عنده ويحسن فيها هذا ويطورها ذاك الى ان تصيرهولة مروعة! لكن بعد قليل كنت الصق وجهي بفتحة صغيرة في جدار احد القمرات كي ارى ماذا يدور في تلك القمرة, و رأيت مكتبا فيه القبطان ومعه اثنان من الضباط يجلسون الى مائدة وفي مواجهتهم تتحرك السيدة فوجلسانج جيئة وذهابا امام المائدة. ومن خلال اشارات وكلمات غاضبة تحاول ان تفسر شيئا ما وبدا لي انها تهددهم بشكل ما.وفجأة ادركت انها تنظر الي وجهي وكان على ان اهرب. في الواقع لم يكن ثمة ما تخشاه فآميليا كانت قاصرا, وقد اقترف الجرم احد افراد الطاقم, من يستطيع ان يحكم بأن انتقامها كان افدح من الجريمة؟

في الصباح التالي كان ثمة مفاجأة اكبر في انتظارنا, فقد عاود السيد بوريللي الظهور على مائدتنا وكأنه لم يفقد قلامة ظفر ناهيك عن عضو ثمين! خدمنا بأمانة ودقة كعادته, لكنه بدا متحفظا بعض الشئ , وكان حريصا كل الحرص على الا تلتقي نظراته بعيون السيد والسيدة فوجلسانج. ناهيك عن انهما ايضا كانا يحرصان على تجنبه. فقد اخذا يحقان في الاطباق امامهما وكأنهما قد فقدا احد اقاربهما الاعزاء. لم يعد فكا السيدة فوجلسانج يعطيان الانطباع بأن ثمة شئ خاص خلفهما. كانا يمضغان البيض ولحم الخنزير مثلهما مثل أي فكين آخرين يقومان بنفس المهمة ويمضغان البيض ولحم الخنزير في حجرة الطعام.

لكن السيدة نايلور لم تستطع الصمت فسألت السيد بوريللي ثلاث مرات متوالية عن سبب تغيبه وماذا حدث له بالامس. لم يرد على الاطلاق مرتين . لكن مع اصرار السيدة نايلور , لم يملك الا الرد. فقال بصوت عميق ملئ بالاسى " سيدتي, هناك في هذا العالم اناس قد فقدت الاحساس بالجمال, و لا يمكنهم فهم الحب العميق بين الارواح المحلقة, وخاصة لو كانت احد تلك الارواح رجل كهل , والروح الاخرى شابة جميلة" ولو كان قد توقف هنا , لما كان بوسعنا ان نشاهد ما شاهدناه بعد لحظات. لكن السيد بوريللي كان قد حصل على الفرصة التي كان يتمناها ولم يكن ليدعها تمر. وربما كانت كبرى غلطاته هي انه قد ترك العنان لنفسه ليكون واعظا اخلاقيا وهو الجندي القديم.

اضاف بصوت عال " الحب البرئ يذكر بعض الناس بأنهم يحتقرون الحب". وما ان انتهى حتى قام السيد فوجلسانج على قدميه وضربه على رأسه بطبق البيض ولحم الخنزير الذي لم يكن قد فرغ من التهامه بعد. وتحولت كل الرؤوس في غرفة الطعام الى مائدتنا.و بينما كانت قطع الطبق المتكسرة تسقط على الارض وتتدحرج تحت المائدة, كان السيد بوريللي المندهش يحاول التغلب على هول المفاجأة كي يمسح مح البيض الذي اغرق وجهه, لكن السيد فوجلسانج لم يمهله ووجه له لكمة عنيفة بقبضته التحمت مع ذقن السيد بوريللي واسقطته ارضا على الفور !!

وانطرح الاخير على ظهره وذراعاه منفرجتان وكأنهما تحاولان الحفاظ على الاتزان , وبينما هو في طريقه الى الارض, ارتطم كتفاه العريضان بالمائدة المجاورة , فقلباها . فقد اعطت الكمة العنيفة وزن السيد بوريللي الكبير الطاقة الكافية للاخلال باتزان هذه المائدة الثقيلة وقلبها على السيد السكوتلندي العجوز الذي كان يجلس على الطرف المقابل.وقع الاخير بكرسيه وارتطم بالارض. ووقع عليه اربع اطباق ممتلئة ببقايا افطاره الذي لم يكن قد انهاه بعد. قفزت النسوة الاربع اللواتي كن يشاركنه المائدة وصرخن.

تحرك السيد فوجلسانج الذي كان اصغر حجما من السيد بوريللي لكن عضلاته غير الظاهرة كانت تحوي على ما يبدو قوة كبيرة. وجذب ضحيته و اوقفه على قدميه . وشده من المنديل الذي كان السيد بوريللي يلفه حول عنقهبيده اليسى , وكور يده اليمنى الى قبضة كانت في سبيلها الى الارتطام بوجه السيد بوريللي عندما رمى نادلان اخران بجسديهما على السيد فوجلسانج والقيا به على الارض. سمر احدهما ذراعا الاخير الى الارض ووضع رأسه بين ركبتيه , وجلس الآخر على رجليه. ولحقهما بسرعة اثنان آخران من الطاقم. وجذب الاربعة السيد فوجلسانج, الذي توقف عن المقاومة الى خارج حجرة الطعام.

نظرت الى السيدة فوجلسانج . كانت ما تزال تجلس الى المائدة, رأسها منخفضة , ودموعها تجري على وجنتيها الملتهبتين. في نفس الوقت كان السيد السكوتلندي العجوز قد اجتهد ووقف على قدميه مرة اخرى , وبدأ في الغناء بصوت عال " عندما كنت شابا و قويا" التي لم يكن الوقت مناسب لها اطلاقا.

في اليوم التالي عاد كل شئ الى طبيعته وكأن شيئا لم يكن . نقل السيد بوريللي ليخدم موائد في الطرف الآخر من حجرة الطعام , ومن هناك لم يكن يحاول حتى النظر في اتجاهنا. جلس السيد والسيدة فوجلسانج على المائدة دون ان يتفوها بكلمة . كانت على وجهه علامات تؤكد انه حظي بما هو اكثر من التحذير الودي., كانت تحاول ان تخفي حرجها تحت قناع الحزن العميق.وكانت السيدة نايلور هي الوحيدة التي حاولت ان تكسر حاجز الصمت, واخبرتنا ثلاث مرات على التوالي كيف انها حلمت الليلة الماضية بعاصفة رهيبة في البحر. وكيف انها تحس احساسا يصل الى عظامها ان هذه العاصفة على وشك الهبوب. قال السيد فوجلسانج بحقد واضح" اتمنى ان تكوني على حق". لم نكن قد رأينا آميليا ولا اختها منذ يومان ز ولابد ان والديهما قد حبسوهما في قمرتهما, وكانتا تتغذيان على الفواكه المعلبة الموجودة في محلات السفينة.

توارى ايضا الرجل الصيني منجم المعلومات المتعلقة بما يجري على ظهر السفينة. وعندما التقيت به عند المساء في بار السفينة , لم يكن محاطا كعادته بمجموعة من المنصتين الاوفياء, بل كان يجلس وحيدا في ركن معتم. وهو يداعب كوبا من الجعة امامه.لم يبدو مرحبا كثيرا بجلوسي بالقرب منه. قال متأففا "ماذا؟" واضاف" تريدني ان اخبرك بالمزيد؟"

بدت كلماته وكأنها اهانة.و فجأة ادركت انني كنت اقترب منه دائما املا في سماع المزيد.من الحكايات المثيرة . لكني لم اكن بمفردي.ولماذا كان سخيا دائما في حكاياته؟لاننا كنا نتحلق حوله ونحن نريد ان نسمع. هل اعطاه اهتمامنا الاحساس بأنه ايضا شخص مهم؟شخص في بؤرة الحدث؟هل كان هذا هو سبب ابتعاد حكاياته عن الحقيقة؟

قال لي " لقد اخترعت حكاية الالواح المعدنية في الفك " بدا كما لو كان يقرأ افكاري." انا لا اعرف لماذا.هكذا حدث الامر, ربما اردت ان افعل شيئا, او للهروب من الملل. ست اسابيع على سفينة, وكل ماحولك هو هذا الماء الذي لا ينتهي. كنت سأجن لو لم يحدث شئ . الآن على الاقل هناك شئ يحدث" رغم حزنه كان جد فخور بالضجة التي سببها باشاعاته وحكاياته.

واعترف لي ايضا ان قصة آميليا والسيد بوريللي هي من اختراعه ايضا.في الواقع لم يحدث اكثر من السيدة فوجلسانج ضلتهما جالسين معا على دكة على سطح السفينة ويديهما متشابكة في وقت متأخر من الليل وكانا ينظران الى القمر. وعلى الفور ابلغت السيدة فوجلسانج القبطان وحملته ت هذا؟ انها تحتاج لزوج من المقصات لا من الفكوك. وكذلك اخترع قصة تبادل الشركاء او لنقل انه قد بالغ فيها بعض الشئ. ربما فعلا ذلك مع زوج او اثنين , لكن باقي الناس كانوا يدخلون القمرة بغرض لعب الورق والمقامرة وهو الامر الممنوع على ظهر السفينة. ربما كان ينشر الشائعات عنهما بسبب حقده عليهما , كي يعاقبهما على تجاهله و ازدرائه. وكان يتوق حقا الى ان يدعواه الى قمرتهما ولو لاحتساء كوب من عصير البرتقال.

كانت السيدة نايلور على حق لقد اجناح مرض غريب السفينة. وكانت ايضا على حق عندما تنبأت بأن عاصفة على وشك الهبوب . في اخر النهار اظلمت الدنيا فجأة و بدأ المطر في الهطول بشدة. وجاءت الريح عاتية عبر البحر, فأعطت الموج طاقة اضافية ليرغي ويزبد حتى ان السفينة بدأت في الترنح بشدة. ولكن نظرا لعلو الضوضاء الناجمة من المحركات لم نكن نسمع الرعد , لكن دفقات البرق التي كانت تتوج قمم جبال الموج لم تدع مجال للشك في اننا ندخل في قلب عاصفة رهيبة. وبين الحين والآخر كانت عابرة المحيطات الضخمة ترتفع كما لوكانت توشك ان تطير. وحينما كانت تعاود الهبوط في الوادي السحيق بين التلال المائية كان يبدو انها لن تتوقف عن الهبوط الا في قاع المحيط. جمع ثلاثي الآلات الوترية الذي كان يتدرب كل ظهيرة استعدادا للعزف ليلا آلاته واختفوا. وهرع الطاقم الى كل مكان حاملا ادوات لاصلاح ما ينفصل او يتكسر اثناء الارتجاج العنيف. وكنا نسمع صرخات الاطفال في كل مكان.

وأخذ البالغون مع الصيني يحدقون في المياه العنيفة ويتسائلون هل يمكن ان تزداد العاصفة سوءا؟

ولاول مرة شعرنا جميعا انه في مكان ما وسط هذا الخضم الهائل تقبع السيدة الحقيقية ذات العضة الحديدة في انتظار كل منا على حدة , او في انتظارنا جميعا.



Friday, December 08, 2006

كتيبة الاعدام


كتيبة الاعدام

ركبنا دراجتينا في الصباح التالي وذهبنا الى باتان , التي كانت تعرف قديما في ايام العز الخوالي باسم لاليتبور او مدينة الجمال. رغم اننا كنا قد امضينا قرابة الستةاشهر في رحلتنا تلك في الهملايا, كان مايزال لدينا الامل في رؤية "السحر" , و"البراءة" , و"الاختلاف".

ولكن كان هذا الامل يتلاشى مع كل خطوة نخطوها على الطريق غير الممهد ونحن نتفاوض مع الكلاب و الدجاج و اكوام الفضلات في كل مكان كي نشق لانفسنا ممرا وسطها.كنا قد بدأنا ندرك ان توقعاتنا ستصطدم مرة اخرى بصخرة الواقع المر. فباتان ليست الا مجرد بلدة سوق صغيرة بها مجار مكشوفة وبيوت شبه مهدمة, وقد تراكم غبار الهملايا على جمالها القديم فدفنه.

ترجلنا وبالقرب من اكشاك مهدمة وعربات مكشوفة لبيع الطعام في ميدان صغير. وجلت بناظري في المكان بحثا عن مكان نترك فيه العجلات المستأجرة. ومن ثم نستطيع المشي و الفرجة. كان صاحب الدراجات قد حذرنا في كاتماندو العاصمة قائلا" ارجو الا تظنا ان كل اهل نيبال يعشقون المشي", وبينما نحن واقفان نتفكر فيما سنفعل اقترب منا طفل صغير حافي القدم تاركا مجموعة من الاطفال كانت تلعب غير بعيد عنا. كان مترددا وهو يقترب اكثر. كانت انفه الجارية تحتاج لمنديل بشدة. وكانت قلنسوته المهترءة الباهتة مائلة على جانب وجهه فبدا وكأنه متشرد اصيل.

عندما اقترب اكثر تشجع وحيانا بابتسامة.

قال"جرر,برر ,جررر"ثم اضاف بسرعة" جاجا جا, جررررررررر إك إكك برر ". وعندما لاحظ نظرة عدم الفهم والدهشة في عيوننا , اقترب اكثرو اكثر واكد مايقول " جررر بررر إك إك بررررر".

كان من الواضح ان الولد يحاول ان يقول لنا شبئا بلغة غريبة بدت وكأنها مزيج من عشرات اللغات. أمسك مقود الدراجة واخذ يجذبها من يدي. ثم تركها وجرى الى حائط قريب وخبط عليه بيده عدة مرات . وقال باصرار"بررررجررر إك بررر"

بالطبع! لقد راى الفتى حيرتنا , وقد اقترب منا ليمنحنا النصيحة. كان من الواضح انه يقترح علينا ترك دراجتينا على الحائط حيث ستكون في امان, كما حاول ان يؤكد من خلال تعبيرات وجهه.

ولعدم وجود بديل آخر فعلنا ما وصلنا من اقتراح. وشجعه هذا على عرض المزيد من المساعدة . فبينما كنت انحني لاربط الدراجة بسلاسل قديمة وجدت وجهه منبثقا من بين قدماي وهو يقول "برر,جررر"و اخذ يجذب سروالي. اختطف المفتاح من يدي واخذ يصارع القفل القديم الصديء حتى اتم المهمة, من ثم تحول لمهاجمة القفل على دراجة زوجتي. وقاوم هذا لفترة اطول لكن تصميم الصبي كان اقوى.

عندما انتهى اعلن في حبور ونشوة "جررر بررر" . ولما بسطت كفي لآخذ المفتاح, هز رأسه واخفاه خلف ظهره , وبسرعة دنا مني واسقطه في جيبي بمهارة. واخيرا تراجع خطوة واخذ يمعن النظر فينا وكأنه في انتظار علامات الاستحسان.

ابتسمت وداعبت ذقنه.تنفس الصعداء وزفر زفرة المرتاح , ثم اطلق ضحكات عالية متلاحقة, اتبعها بعدة قفزات في الهواء, وبعد ان هدء سألته" ما اسمك؟".

فشل في الاجابة , فقد كان مشغولا بعرضنا على اصدقائه الذين هرعوا ليرى ماذا يحدث؟ كررت السؤال , ومرة اخرى لا اجابة. وادركت زوجتي ان الصبي اصم وابكم.

حركت شفتاي في بطء شديد وكررت السؤال" ما اسمك؟". اغرورقت عيناه بالدموع . لم يعد قادرا على اسعادي . وبدا كما لو انه قد ارتعب من هذه الفكرة. التفت لاقرانه, ولكنهم كانوا عاجزين مثله. فجأة حذرت فتاة صغيرة ماهرة ماذا اقصد. فصرخت " اوكي" واشارت لصديقنا الصغير ذو الانف الممخط "اوكي".

واحس الصبي براحة شديدة فضحك في سعادة بالغة و اضاف مؤمنا على ما قالته"جرررجرر بررإك" وقبض على يدي وأخذ يشدني عبر الميدان. لقد قرر ان يفرجنا على البلدة وماتحتويه من اثار . وليجعلنا نفهم اخذ يرسم باصبعه في الهواء رسومات لما بدا انه تماثيل ونقوش و مبان. وقادنا عبر زقاق جانبي و من تفريعة مختصرة الى الميدن الرئيسي في البلدة. كان الميدان محاطا بمعابد مذهلة , اجمل و اكبر و اكثر دقة من اي معبد رايناه في نيبال . كان المشهد يأخذ باللب حقا. لقد عادت مدينة الجمال للحياة!!!

اشار الصبي للمعابد شارحا لنا ما نراه وهو يحس بالاهمية" جررجررر بررر إك ". تلك بلدته وهذه المعابد معابده , وهو يمتلك كل هذا الجمال . وهو يقدمه لنا كهدية.

تبعناه وهو يلف بنا الميدان منتقلا من معبد لآخر , نتوقف لندعه يرينا عامودا مثيرا او تمثالا مذهلا او ليلفت انتباهنا لنقش بديع فاتنا.كان يسمتع بدور المرشد و يغمغم في حبور من آن لآخر" جررر, بررر, بررر".

بين الفينة والاخرى يلقي بنظرة خاطفة على وجوهنا , كان يخاف من ان نحس بالملل. وكلما لاحظ اننا قد بدأنا نفقد الاهتمام كان يخبط رأسه بكفه , وكأنه يقول آه نسيت هناك تحفة اثرية اخرى اود لو شاهدتموها. وكي نجعله يحس بالسعادة كنا نظهر اهتمامنا بكل ما يشير اليه حتى لو كان مجرد جدارا مهدما.

وسرعان ما ادركنا ان لهفة اوكي على القيام بدوره لم تكن خالصة فقد كان يتوقع ان يكسب روبية او اثنتين عند نهاية الجولة. فمع اثماله المهلهلة كان مؤهلا بكل تأكيد لكسب تعاطف حتى اكثر الاجانب بخلا. دخلا باحة الحمام الملكي حيث وجدنا جنديا فردا يقف حراسة. كان من الواضح انه صديق اوكي.

عندما دخلنا حياه اوكي"جرررجررر" ووقف امامه في وضع الانتباه ورفع يده بالتحية العسكرية. ضحك الجندي الشاب وحياه بدوره. وبعد جولة سريعةفي الحمامات الملكية, قررنا ان نرتاح قليلا. جلسنا على خشبة كبيرة بالقرب من المدخل. كانت زوجتي قد اشترت بعض الموز و قررت ان تقدم شيئا منه لاوكي.

لم يكن مدركا تماما ماذا يفعل به. فضحك وضحك ثم اتخذت سحنته مظهرا جديا ثم ضحك ثانية. اخيرا حاول ان يشرح لنا ما يفعل وهويضع الموزة في الحبل المتآكل الذي يربط به سرواله"بررربربررجررإك"وبابتسامة خجلى افهمنا انه ينوي الاحتفاظ بالموزة ليأكلها في وقت لاحق. وفورا اعطته زوجتي موزة اخرى. واربكه هذا اكثر واكثر. حاول اولا ان يحتفظ بالثانية مع الاولى , ثم غير رأيه. اوهكذا ظننا ولكنه تردد مرة اخرى وكان من الجلي انه شديد الحيرة. اخذت زوجتي الموزة من يده, وقشرتها, وقسمتها نصفين ووضعتهما في يده. الآن لم يعد لديه خيار . كان يحمل نصفا في كل يد واخذ يأكل بشراهة واستمتاع واضحين.كان يقضم من كل نصف قضمة بالتبادل. وعندما انتهى امضى لحظات سعيدة اخري في لعق اصابعه باستمتاع شديد. ثم جذب الموزة الاولى من مكانها في سرواله واخذ يتأملها في نشوة وعلى شغتيه ابتسامة شاكرة. واخيرا اعادها لمكانها السابق وقال" جرررجررر برر" وبالتأكيد كان يقصد على المرء ان يفكر في المستقبل.

عندما وقفنا لنغادرالمكان انزلقت الموزة من مكانها وسقطت من فتحة سرواله الى الارض ولم نملك انفسنا من الضحك و بعد تردد قصير شاركنا اوكي في الضحك بدون ادنى خجل وكأنه يشكرنا على اتاحة الفرصة له للمشاركة في مناسبة سعيدة.

اخذ الموزة و تحول للجندي سائلا"جرررجرربرر,إك إك؟" كان يشير باصبعه نحو الباحة الخالية. وما ان هز الجندي رأسه موافقا حتى هرع اوكي واخفى الموزة خلف قطعة خشب كبيرة.ثم هرع الينا وقبض على ايدينا واخذ يشدنا نحو المخرج.

فجأة تكلم الجندي"يتيم" واردف" احترق منزلهم ومات الجميع ولم ينجو الا اوكي"

سألته زوجتي" اين يعيش؟"

رد الجندي ببساطة"في كل مكان" وتابع" احيانا عندما يكون الجو حار ينام هنا , احيانا تجدونه في السوق , اي مكان"

رحلنا لنكمل الفرجة, والزيارة. لكن كان من الواضح انه لم يعد هناك شيئا جديدا يستحق ان نراه. ايضا كان حماس الصبي قد بدء في الفتور.بدا متعبا و أخذ يتململ. كان يريد الحصول على مكافأته ليستطيع العودة لاصدقائه,ولمالم نجد اي قطع معدنية معنا ولاننا احببنا الطفل ولان العملة هناك بلا قيمة, اعطيناه ورقة نفدية من فئة العشرة روبيات. شحب لونه وانتفض جسده. وامسك بالعملة ومررها امام اعيننا متسائلا "جرررججرررربرر؟" هززنا راسينا ان نعم, الورقة من نصيبك. لم يكن يستطيع ان يصدقما حدث.اصرينا انها حقا ملكك.احتفظ بها اصرفها. ولاقناعه اننا نعني مانقول , اعطيناهورقة نقدية اخرى من فئة الروبيات العشرة.

الآن صار ارتباكه كاملا" برررجرررجررجرججر؟". اكدنا نعم الاثنان لك.خذهما. انفرجت اساريره لتعبر عن مزيج من الفرح والعرفان بالجميل. حمل ورقة في كل يد ورفع يديه عاليا واخذ يرقص عبر الميدان. وعرض الجائزة على اصدقائه المذهولين والذين التفوا حوله واخذوا يتبعونه على طول الطريق, والكل يصرخ وبضحك, يشرحون لكل من ينصت لهم كيف كسب اوكي كل هذا المال. وكانت الناس تبتسم وتربت على رأس الولد المحظوظ وكان اوكي يصحح وضع قلنسوته بين الفينة والاخرى مخافة وقوعها من على رأسه.

في هدوء ركبنا دراجتينا,وانطلقنا.وعلى مسافة حوالي ميل من البلدة, وفي منتصف تبة كنا نتسلقها فقدنا كل ماتبقى بنا من طاقة , ونزلنا من على الدراجات. وبعد عشر دقائق وعلى قمة التل التفتنا خلفنا كي نلقي نظرة اخيرة على باتان. ورأينا خلفنا على مسافة بضعة امتار الصبي الصغير الاصم الابكم . كان محتقن الوجه من الاعياء و الاحساس بالذنب والخجل. وظل ينقل ناظريه بيننا منتظرا رد فعلنا والى اي شيء ستتحول دهشتنا : الفرح ام الغضب. ثم وف ي محاولة منه لمساعدتنا اطلق ضحكة رعناء خجلى تبعها بمحاولة بائسة للتفسير"جرر,جاجا بررجر"

وببطء تحولت النظرة المتسائلة في عينيه الىنظرة حزينة. كان متعبا , وكانت خصلات شعره المجعد تبدو من تحت قبعته مبتلة من العرق. حاولنا ان نقنعه بالعودة لباتان بأستخدام كل الاشارات التي نعرفها. كاتماندو كبيرة جدا و قد يتوه هناك. وسنذهب للهند ولن يكون بوسعنا ان نعتني به ولا نستطيع ان نأخذه معنا.كان كل ما وصله هو اننا نعيده للبلدة و نرفضه.

فجأة لمعت عيناه وهرع نحوي وخلع قبعته واستخدمها لمسح حذائي ثم اتجه لزوجتي واخذ يمسح نعليها و اخيرا قلبها واخذ يلمعالاجزاء البراقة المصنوعة من الكروم في دراجتينا.

قلنا"للاسف,لابد ان ترجع". واعتلينا دراجتينا و انطلقنا. لكن صوت القدمين الصغيرتين تعدوان على الحصى المدبب , رقق من قلوبنا. ولابد ان الصبي كان يعرف ان هذا سيحدث. انتظرناه حتى لحق بنا. وعندما وصل الينا خانته قدماه وانهار على الارض.لم تعد ثمة قوة في جسده النحيل الا ليغمغم سعيدا" بررر جرررإكإك"

حملته على قضيب الدراجة وانطلقنا صوب كاتماندو . التفت الي , وكانت عيناه ممتلاتين بالراحة والعرفان بالجميل. ولكن كان ثمة شيء آخر فيهما. شيء صدمني واذهلني . وكأنه الحب الخالص. ومرة اخرى قهقه ضاحكا سعيدا.

كنا نزمع اخذه الى كاتماندو , وجعله يشاهد المدينة ثم نشتري له طعاما و عند المساء نعيده الى باتان.لكن فرحته بالتواجد في مدينة كبيرة كانت اكبر من الوصف ولذا قررنا ان نبقيه معنا لمدة ليلة. فأخذناه لفندقنا , واعددنا له حماما, وخلعنا ملابسه, ووضعناه في البانيو. كان مرعوبا في البداية, وحاول محاولة بائسة ان يقفز من البانيو , لكنه هدء شيئا فشيء , بدء في الاستمتاع بالتجربة الجديدة.وبعد قليل كان يصرخ فرحا مستمتعا بالحمام وينثر الماء في كل مكان.

أخذناه الى اقرب محل ملابس وابتعنا له قميصا جديدا و بنطالا جديدا وحذاءا من الجلد الطري.

انقلبت سحنته وتجهم وجهه بشكل غير طبيعي.كان يحس بالغربة في ملابسه الجديدة.و اعترض بشدة عندما جمع البائع اثماله المهلهلة ووضعها في كومة لرميها في القمامة.صرخ فيه قائلا"جرررججرررجررر".

جمع اوكي حاجياته بعناية وضمها لصدره بقوة.كان العالم العجائبي الذي دخل فيه يخيفه بشدة.و كانت تلك الاثمال هي رابطته الوحيدة مع ماضيه, كل ماتبقى لديه من ذكريات ذلك العالم الذي تركه خلفه.

قرب العشاء اصطحبناه الى مطعم صيني. في البداية رفض ان يصدق ان الاطباق الساخنةالتي يتصاعد منها البخار هي طعام حقيقي. اخذ يفحص كل طبق فحصا مدققا باطراف اصابعه. وعندما بدأنا الاكل صح لديه اليقين ان الطعام الموضوع امامنا هو لي ولزوجتي فقط. وفقط عندما غرفت له زوجتي من كل الاصناف في طبقه استجمع كل شجاعته و امسك بالملعقة .

لكن ما ان بدأ الاكل لم يعد من الممكن ايقافه.

كان يحمل الملعقة وكأنها سكين, وكان يأخذ الطعام من الطبق الى فمه بشكل متعرج حيث فمه هو الهدف الصعب والذي كان يخطئه اكثرمما يصيبه. وبعد قليل كانت الشعرية وقطع اللحم الصغيرة تغطي وجهه ,وقميصه الجديد و بنطاله.وفجأةتعب اثناءطبقه الثالث وانحنت رأسه على طبقهونام دون ان يترك الملعقة تفلت من يده.

حملناه للفندق.ونزعنا عنه ملابسه وغسلنا يديه ووجهه, ووضعناه في الفراش. فنام مثل قطعةالخشب. واستيقظفي منتصف الليل.كان شديدالانزعاج وصرخ"جررررجررربربربرربر"

لم يكن يعرف اين هو. وبأت اصابعه الصغيرة تستكشف الجو المحيط بها. وعندما وجدتا ذراعي توقفتا للحظة ثم استمرتا . فوجدتا رسغي, واناملي , وابهامي وبعد تردد قليل لف اصابعه حول ابهامي بشدة.واقترب وجهه حتى صرت قادرا على الاحساس بنفسه الدافيء الذي مايزال معبقا برائحة الطعام الصيني.و همس في اذني مرتاحا"إك إك جررر برر"

في الصباخ اخذناه في نزهة ليتفرج على المدينة. شاهد القصر الملكي . خرجت ثلاث فيلة ضخمة جميلة مزينة بالحلي من البوابة الرئيسية . صرخ اوكي فرحا. وكان علينا اقتفاء خطوات الفيلة لمدة عشر دقائق. وبينما نحن نتمشى في وسط المدينة اندفع وكأنه ممسوس وأخذ يقفز في الهواء ويشيرلهذا وذاك ويضحك ويشرح و يتعجب.في لحظةصار هو دليلنا في كاتماندو.

استأجرنا ريكشو(1) . وبينما اخذ السائق يناور وهو يشق طريقه في شجاعة وسط الزحام , كان اوكي يستحثه و يصرخ فيه وكأنه يعطيه تعليمات. كان يقفز و يتحرك وينط في كل مكان حتى صار من العسير منعه من السقوط. كان يصرخ ويصفر و يضحك في آن. كان العالم , ذلك العالم الواسع المدهش بدور من حوله مثل حلزونة كبيرة في مدينة الملاهي. كان اسعد انسان على ظهر الارض. وبقى معنا ليلة اخرى.

فيالصباح التالي ركبنا الدراجات لنزور معبد القرد(2).تأثر اوكي بالقبة الذهبية تأثرا عميقا فظل صامتا يتأملها في خشوع لمدة عشر دقائق. استمتع بمشاهدة القردة ايما استمتاع, ولكن ما ان انفلت احدهم من المجموعة واخذ يقترب منه ,صرخ وارتمى في حضني . كان سعيدا عندما اتجهنا نحوالدراجات التي كنا تركناها على سفح التل.

قال بينما كنت اضعه على قضيب الدراجة"جرررجررربر". تركنا طريق كاتماندو و اتجهنا الى الجنوب على طريق مترب غير ممهد. لم يبد اوكي اي علامة على انه قد تعرف على الطريق.ولا انه عائد معنا الى باتان.بدأ يدرك العلامات المألوفة فقط عندما دخلنا في ازقة جانبية ضيقة. بدا مندهشا, وفرحا . فما زال العالم القديم هناك. كما كان لم يتغير. عندما وصلنا لباحة السوق لمح مجموعة من اصدقائه. انفجرصارخا"جرررجرربررربرر" واخذ يلوح بيديه في جنون. تعرف عليه الاطفال و اندفعوا نحوه وهم يرحبون به صارخين فرحا. وعندما ترجلنا كنا محاصرين تماما.كان الاطفال متلهفون على لمس قميصه الجديد وبنطاله النظيف و يريدون التأكد من حذائه. ذكروني بسلوك اوكي في المطعم الصيني , كان مثلهم يريد لمس الاطباق قبل ان يأكل لبتأكد انها حقيقة واقعة.كان اوكي سعيدا لاعجاب اصدقائه به . كانالفخر مرسوما على وجهه بعناية فائقة, لقد انجز,لم يكن ثمة اي نوع من التعالي في سلوكه , ظل صديقا ودافئ.

ثم بدأ في شرح مطول سريع حيث كانت الاصوات تتدفق من فمه وكان ذراعيه لا يهدآن محاولا ان يرسم في الهواء كل العجائب التي رآها , الافيال و القرود, والقصور وكل شئ, كل شئ.

وفي حذر, ارتقينا دراجتينا و بدلنا خارجين من الباحة. اوقفتنا صرخة تقطع القلوب. وبعد لحظة كان اوكى الى جانبي , يشد بنطالي محاولا ان يجعلني اترجل.كان يحملق في غير مصدقا لما حدث.ثم اندفع نحو زوجتي ليجعلها تنزل عن الدراجة. ثم عاد الي و امسك بالمقود وبخفة وضع نفسه على القضيب.كان يريد ان يظل معنا ويذهب معنا الى كاتمندو,و كل مكان .

استعطفنا قائلا"جرررجررربرررر"

حاولت ان اجعله ينزل, لكنه كان يرفض ان يترك المقود. كانت كل قوته قد تركزت في اصابعه الصغيرة. واخيرا نجحت في ابعاد احدى يديه عن المقزد.لكن ما ان بدأت انزل الاخرى عادت الاولى لوضعها قابضة على المقود بقوة.

ثم و بشكل غير متوقع خضع.كما لوكان بالونا قد خرج منه الهواء . صمت وارتخت يداه ونزلتا الى جانبه. ولم يعارض عندما وضعته على الارض. للحظة ظل في مكانه محاطا باصدقائه المندهشين.محملقا في قدميه. ثم ببطء رفع رأسه وحدق في وجهي .

هل تلك هي النهاية حقا؟ وما ان ادرك انها كذلك, خفض رأسه مرة اخرى واستدار و مشى عبر الميدان نحو اقرب حائط.وعندما وصل هناك استراح بظهره عليه و اسند راسه على الحائط , واغلق عينيه واشاح بوجهه بعيدا عنا. وظل في مكانه دون حراك.

ذهبت زوجتي لاقرب دكان واشترت موزا . واعطت الموز لاوكي واضعة الحمل في حجره. فتح عينيه و غمغم شيئا "جرررجرجررجرر" ثم اغلقهما مرة اخرى . مشيت نحوه وانحنيت عليه ووضعت في يده ورقة من ذات المائة روبية. نظر اليها بلا مبالة.وظلت يده جامدة بلا حياة.فوقعت الورقة النقدية على الارض.داعبت ذقنه كنت اريد ان ارفع من روحه و اداعبه. كنت اريد ان اراه يضحك. رفض ان ينظر الي . قبل ان نغادر الميدان استدرت ونظرت اليه.كان مستندا على الجدار وكأنه سجين اطلقت كتببة الاعدام عليه الرصاص.