Tuesday, January 23, 2007

وزن الحب

آخر قصص المجموعة
اتمنى ان تنال اعجابكم
الى الصديق الذي افتقد تواجده المتخيل الافتراضي بشدة ي..اتمنى ان تخفف عنك


بعد وصولنا الى لومي عاصمة توجو بوقت قصير قابلنا متطوع انجليزي يقوم بتدريس الرياضيات في احد القرى الداخليةفي توجو. وسرعان ما أخذ يرجونا كي نزوره و ننقذه من الوحدة والملل ولو لايام قلائل. حتى اننا احسسنا انه من الواجب ان نقبل دعوته. وهكذا , مع نهاية الاسبوع صعدنا في عربة نقل تستخدم كحافلة للانتقال بين المناطق الريفية في توجو واتخذنا طريقنا للشمال في رحلة تهز العظام. وكي نكون صرحاء لم يكن الاحساس بالواجب هو دافعنا الوحيد للقيام بهذه الرحلة , فقد كان هناك حافز آخر . هو الفضول. لقد تبل المدرس الانجليزي روبرت ,وهذا اسمه, دعوته بقوله ان علينا ان نرى زعيم القرية التي يعمل فيها والذي هو اسمن رجل في افريقيا, ان لم يكن على ظهر البسيطة و لا يقل وزنه عن 500كجم .

عندما وصلنا الى مبتغانا قابلنا روبرت وقادنا الى كوخه على اطراف البلدة , وهناك سألته ان لم يكن يبالغ بعض الشيء فيما يخص وزن الزعيم , واضفت اني اعتقد انه من المستحيل ان يزن اي شخص ما يقارب نصف الطن!!!! هز رأسه , لا انه لا يبالغ , وليس ثمة خطأ ايضا , في آخر مرة كان وزن الزعيم402كجم وبضعة جرامات. وكان هذا منذ زمن بعيد. الآن لم يعد بوسعهم وزن الزعيم , فقد تضخم لدرجة انه لا يستطيع الخروج من منزله ولا حتى بمساعدة اي شخص!!

وقد قام اهل القرية ببناء منزل جديد للزعيم وزودوه بباب جراج متحرك استقدموه من لومي خصيصا.وكأن القدر قد خطط هذا من اجلنا, يعتزم القرويون هدم المنزل القديم , ونقل الزعيم الى المنزل الجديد . وقد منح التلاميذ اجازة كي لا يحرمو من المشاركة في هذا الحدث الهام, سيرقصون ويغنون ويساعدون اهلهم في العملية. و ذلك لان نقل الزعيم عملية كبرى تحتاج لمجهود وفكر الجميع في القرية.

اهم شيء ان الزعيم كان يريد الخروج من المنزل لانه كان يود ان يزور زوجته المفضلة التي كانت قد عادت مؤخرا لبيت والديها في قرية قريبة. لا احد يعرف لماذا غادرت الزوجة الشابة منزلها, لكن القرية كانت تعج بالاشاعات. قال البعض ان الشابة قد وجدت انه من المستحيل ان تعيش مع رجل بهذه الضخامة . رجل لا تسطيع قدماه ان تحملاه من فرط سمنته. فكيف يستطيع مباشرة واجباته الزوجية؟ بينما ادعى البعض, وأكدوا ان لديهم مايثبت ادعاءاتهم. انه لا توجد مشاكل على الاطلاق فيما يخص قدرات الزعيم الذكورية, بل العكس صحيح على طول الخط فالزوجة المفضلة قد رحلت لانه لم يعد بوسعها احتمال رغبات الزعيم الجنسية المتزايدة.

كانت زوجته المفضلة هي التي غادرت المنزل , بينما بقت الخمس الاخريات.كن يجلبن له الطعام ويأخذن قاذوراته و يمروحن عليه ليجلبوا له نسمات الهواء ويبعدن عنه الذباب. وكن ايضا يزرعن حقوله , ويطعمن خنازيره التي كان يمتلك اكبر عدد منها .لكن ولاءهن كان امر مفروغ منه بالنسبة للزعيم , ولم يعد يلحظه او يأبه له.كان شوقه وغرامه منصبان على لاكثر زوجاته جمالا واصغرهن سنا. فلم تكن فقط ابرعهن في فنون الغرام , ولكنها كانت ايضا امهرهن في فنون الطبخ.

عند المساء أخذنا روبرت الى مبنى منخفض في وسط القرية قائلا انه المدرسة. ثم تابعن مشينا حتى وصلنا الى ميدان صغير بالقرب من النهر , حيث اشار روبرت لمنزلي الزعيم.لم يكن القديم اكبر كثيرا من المنزل القديم ولكن الباب المتحرك كان يكفي لادخال سيارة نصف نقل دون عناء.كانت زوجات الرئيس تعشن في اكواخ صغيرة على ضفة النهر ويعيش معهن اطفال الزعيم و كان عددهم وفقا لآخر تعداد 32.

سألنا روبرت ان كان يمكن ان نرى الرجل الضخم؟ قال روبرت انه للاسف تأخر الوقت , فنافذة المنزل القديم تفتح للناس فقط مابين الساعة الثانية والساعةالثالثة بعد الظهر . وفي ساعات العمل تلك يمكن للقرويين ان يمدوا رؤوسهم للداخل ويحيوا الزعيم. و يسألونه . ويطلبون خدمات منه, او يشتكون اليه .و المنزل محظور على اي فرد فيما عدا زوجات الزعيم و اقرب اقربائه . في طريقنا للعودة عرجنا على بار القرية لنطفأ ظمأنا قبل حلول المساء. وهناك حول اقداح الجعة سألت روبرت هل كان الزعيم دائما شديد السمنة؟

رد: لا. ولكنه كان سمينا بما يكفي لان يدير عقل اي امرأة جميلة ويسلب لبها.ففي هذا الجزء من العالم تعتبر السمنة من علامات الوسامة والقسامة, والثراء , والاحترام.وكان الرئيس يعرفتأثيره على النساء ولذا اضرب عن الزواج لفترة طويلة قائلا"لو كانت النساء يحببنني فقط لاني سمين ووسيم, فهذا ليس حبا حقيقيا على الاطلاق. لنفرض اني مرضت و هزلت , وصرت نحيفا مثل هيكلا عظميا؟هل ستتركني زوجاتي و اظل وحيدا بمفردي؟"

ثم حدث ان مر بعض بدو الفولاني(1) بالقرية . كانوا ذاهبين بمواشيهم الى السوق الكبير في لومي.وكان من بينهم رجل معه بناته الستة.كانت صغراهن في السادسة عشرة وكبراهن لا يزيد عمرها عن الخامسة والعشرين. وعندما رآهم الزعيم تصبب عرقا , وقرر اختيار احداهن لتكون زوجة له. ولكن نظرا لانهن كن على نفس الدرجة من الجمال لم يستطع ان يختار ولذا فضل ان يتزوجهن جميعا!!

لم يعجب هذا القرارأهل القرية, وعلق البعض قائلا: الزواج مثل البطيخ , لو كنت سيء الحظ ستعاقب وتحصل على بطيخة قرعاء معدومة الحلاوة , ولكن لو كنت سيء الحظ ست مرات ستحصل على ست بطيخات قرع!!!لكن بعض الخبثاء رأوا ان اهل القرية يقولون هذا الكلام بسبب احساسهم بالجرح من قرار الزعيم الذي لم يتزوج من اي من بناتهم, وهن بنات القرية الماهرات المؤدبات الجميلات. لكن لم يحاول اي من اهل القرية مراجعة الزعيم في قراره ولا معاتبته على ما فعله. ما هو مصير العالم لو عاتب القروي العادي زعيم القرية؟ او الافظع من ذلك لو لم يكن من حق الزعيم الزواج بمن يشاء وقتما يشاء. ولمدة طويلة سارت الامور على ما يرام فقد حبلت الاخوات وولدن اطفال اصحاء حسان ,بل ان اختين وضعتا في يوم واحد. وكالعادة مات بعض الاطفال ,عاش البعض الآخر القوي السليم ولو انهم لم يكونوا ماهرين حقا .ولكن هذا متوقع , فلماذا يحتاج ابن الزعيم للمهارة او التفوق؟

ثم مرضت احدى الاخوات وماتت مما ترك فجوة كبرى في حياة الزعيم.فما هو حاول لم يقدر الزعيم ان يتأقلم مع نقص عدد زوجاته وطباخاته!!فكلنا يعرف ان الاسبوع فيه سبعة ايام, وقبل موت الاخت كان بوسع الزعيم ان يرضي زوجة كل يوم و يرتاح يوم الاحد ليستعيد قدرته ويسترد طاقته إستعدادا لاستئناف العمل مع بداية الاسبوع الجديد. فجأة لم يعد الزعيم يجد ما يشغل ايام السبت . ولذا قرر انه من الضروري ايجاد البديل.

لم يكن الامر بالسهولة التي توقعها الزعيم. بالرغم من توافر الجميلات الراغبات . الى أن حدث المقدور , فذات يوم كان الزعيم في سوق في قرية مجاورة, وهناك ابصر فتاة جميلة خلبت عقله.انها ابنة المدللة لاحد التجار الاثرياء .كانت متعجرفة و متكبرة , لكن عين المحب عن العيوب كليلة , والزعيم عاشق. ابصرها احمل وارق مخلوقات الارض. ودون مضيعة للوقت ذهب الزعيم لزيارة ابوهاوعرض عليه ثلاث بقرات وستة خنازير. ووصلا لاتفاق غلى ضعف هذا العرض. لكن الابنة الجميلة رفضت اطاعة امر والدها. ففي نظرها لم يكن الزعيم سمينا بما يكفي ليحظى باعجابها. كانت شديدة الفخر بجمالها الفتان لذا طلبت ما كانت تظن انه حقها, باختصار افضل شيء في الوجود. وكانت قد اقسمت منذ امد بعيد الا تتزوج الا رجل عريض بقدر ماهي طويلة . وقد كانت طويلة حقا!!!

و لارضاء والدها قبلت نوع من الحلول التوفيقية , ستبحث عن الزوج الملائم لها لمدة عام واحد فقط!! وإن لم تجده في غضون هذا العام ستتزوج الزعيم.

لكن العام في نظرالعاشق يمر كالف عام مضروبة في خمسة. والزعيم عاشق متيم. لذا قرر , لا لن انتظر , ساحشو نفسي بالطعام الى ان اصل لعرض يعادل طولها. وبدأ في الاكل. و استقر بجسده الضخم على وسادة مريحة وأكل , وأكل , وأكل.كانت زوجاته الباقيات تعرفن ما يحدث وكان عليهن ان يطبخن له طوال الاربع والعشرين ساعة, ولم يكن على استعداد لتقبل الشابة اليافعة المعتزة بجمالها والتي جعلت ازعيم يهجرهن حتى من قبل ان يتزوجا. ذهبن الى ساحر فاخبرهن بماذا عليهن ان يفعلن. وهكذا بدأن في اضافة عشب سام للطعام, ادى هذا الى ان يفرغ الزعيم كل مافي جوفه بعد كل اكلة.لكن يبدو ان شغفه بالفتاة كان اكبر من اي شيء واقوى من كل السموم. فبعد فترة قصيرة اعتاد على السم وازدادت شراهته للطعام. ولذا بدأت الزوجات اغيورات في اعداد أكل حتى الخنازير تفكر مرتين قبل انتقدم على التهامه. لكن الزعيم كان قد فقد حاسة التذوق من امد بعيد. كان كل ما يهمه هو كمية الطعام. كان يحشو جوفه ثم يحشو جوفه ثم يحشو جوفه. واصبح سمينا جدا لدرجة ان قميه لم تعودا تقويان على حمله.ولكن بعد 3شهور حمله اقرباؤه على سيارة نقل و قاده اخوه للقرية المجاورة. وما أن رأته العروس المتكبرة حتى وقعت في غرامه. و لمجرد الفضول قاست عرضه ولدهشتها وسعادتها وجدت ان عرضه اكبر من طولها!!! وتزوجا.وكان الزعيم اسعد الرجال على ظهر الارض. واختفت زوجاته الاخريات من امامه. كانت زوجته الجديدة الصغيرة اكثر جمالا منهن و امهر في الطهو , ولذا لم يعد يأكل الا متصنعه يداها ولم يعد ينام الا معها. ولانها كانت طاهية ماهرة ازدادت سمنته و زاد وزنه مع الايام. ولم يعد قلبه يستطيع تحمل اعباء الحياة الجديدة تلك ولا هذا الوزن الخرافي. وذات يوم اصيب الزعيم بذبحة صدرية صغرى, و تم احضار الطبيب الذي اخبر الرجل الضخم في صراحة ان عليه ان يفقدنصف وزنه على الاقل والا مات و انمحى في غضون خمسة اشهر.

بعد هذه الحادثة بدأت الاخوات الغيورات من الفولاني في نشر الشائعات عن زوجته الجديدة وكيف انها تبغي الخلاص منه وقتله بطبيخها المتقن. عندما وصلت الشائعات لمسامع الزوجة الجديدة غضبت بشدة وحملت امتعتها وعادت لقريتها. لم يعرف الزعيم لماذا رحلت ولكنه بدء يفتقدها بعد اسبوع من غيابها. ولذا امر اقرباؤه بان يقلوه للقرية المجاورة حيث نجح في اقناع الجميلة الغاضبة بالعودة معه للمنزل. لكن الزوجة الشابة لم تستطع نسيان الشائعات ولذا كانت تحاول تجنب المطبخ كلما امكن. لكن الرئيس بدأ يحس ان الطعام الذي تطهوه الاخوات الفولاني بلا طعم ختى انه توقف عن الاكل وبدأ يفقد وزنه, وصار دائم التوتر , وبائسا , وسريع الغضب.

و سرعان مابدأت الاخوات ينشرن اشاعة جديدة مفادها ان الزوجة المدللة ترفض الطبخ لانها تريد ان يموت الزعيم من الجوع. ومرة اخرى لملمت الشابة حوائجها وعادت الى بيت ابيها . وبسبب فرط تعاسته عاد الزعيم للأكل مرة اخرى . وأخذ يأكل دون توقف ولانظر . أي شيء :

بط, دجاج,ماعز,ارز,بطاطا, بطاطس, موز,والخلطات المقرفة التي تصنعها الاخوات الفولاني. اي شيء يوضع امامه كان الزعيم يلتهمه. وسرعان ما ازداد وزنه حتى لم يعدبوسعه الخروج من منزله. وكانت الفولانيات غاية في السعادة , اخيرا سينسى الزعيم زوجته المفضلة.

ولكن ما احزنهن حقا هو ان الزعيم اعلن على الملأ انه لايستطيع العيش دونها. وطالب اهل القرية ببناء منزل جديد له وله باب واسع يتيح له فرصة الدخول والخروج وقتما يشاء. وبالطبع وافق القرويون على الفور. وختم روبرت قصته قائلا: ان الزعيم امر باحضار عربة نقل في صباح الباكر عندما يتم تدمير المنزل القديم من حوله. وسيقوده اخوه الى القرية المجاورة حتى

يستعيد زوجته.

للاسف كنا قد شربنا الكثير من زجاجات الجعة , ولذا استيقظنا متأخرين بعض الشيء في الصباح التالي , وعندما افقنا كانت الساعة قد تجاوزت الحادية عشرة. هرعنا للميدان لكن المنزل القديم لم يكن موجودا , ووسط حطامه جلس الزعيم وهو ايضا محطم. ولدهشتنا , انا وزوجتي , لم يكن بالسمنة المفرطة التي توقعناها. لكنه كان ضخما , طوله يتجاوز المترين. وكانت طيات بطنه مختفية تحت رداء قرمزي.وكان اعل القرية متحلقين حوله في دائرة مفتوحة.اكن الزعيم يجلس وسط الصمت المحمل بالمعاني و وتيدو عليه بجلاء معالم الاسى والحزن المأساوي العميق. وكان من الواضح ان امرا جللا قد وقع.

قام روبرت ببعض التحريات و ثرر بعض الصبية بشيء من الاسرار.كانت السيارة التي طلبهاالزعيم متوقفة بالقرب منا. وعندما عاد روبرت اخبرنا ان الزعيم قد ذهب بالفعل للقرية المجاورة. ولكنه لم يتم مهمته. اعلن اخوه الاصغر للملأ ان الزوجة الصغيرة الجميلة المدللة رفضت العودة. قال لها الرئيس انه سيتخلص من زوجاته الفولانيات وانه سيرسلهن لاهلهن في الشمال. ولكنها اخبرته انهن لسن الشبب الرئيسي لقرارها هذا. بل ربما لسن سببا على الاطلاق.

السبب الحقيقي وربما الوحيد هو ان الزعيم صار سمينا جدا. لم يصدق الزعيم اذنيه, الم تقل له منذ حوالي عام ونيف انه ليس سمينا بما يليق بها ؟ ردت نعم قلت هذا , والآن لا احب الرجال شديدي السمنة, لقد غيرت رأيي. ووعدته بالعودة فقط لو انقص من وزنه ليصل الى 300 كجم فقط. ماذا كان يجول بفكر الرجل السمين المهجور؟ فوائد الزواج من واحدة فقط؟. لا احد يعرف,

كل ما كان بوسع القرويين قوله هو انه رفض افطاره المعتاد والمكون من سبع قطع كبيرة من لحم الخنزير الدسم, واقسم الا يمس الطعام الا إناء الليل , وسيأكل عندئذ نصف موزة فقط.

وبالنسبة للمنزل الجديد فقد رفض الانتقال اليه , قائلا انه يفضل البقاء وسط الاطلال لانه صار حطاما. كان الجميع يعرفون سبب شرط الزوجة الجميلة الا الزعيم. لم تكن تفعل هذا بسبب نزوة او رغبة طارئة. لا, فقبل زيارة الزعيم لها ببضعة ايام , قام كبار القرية بزيارتها, واخبروها انها الوحيدة القادرة على انقاذ الزعيم من موت محقق. فلو كانت تريده عليها ان ترضى بنصف وزنه والا فقدته كله. فنصف الوزن هو الحد الاقصى الذي حدده الطبيب لوزن الزعيم. ولانها تحب الزعيم , وافقت.


Monday, January 15, 2007

بوابة على الافق

احيانا يحتاج الانسان لصدمة ليتذكر انسانيته....قصة حقيقية صورها بقلمه الفذ الصديق ايفالد فليسار
في افريقيا ولكن الابطال اوروبيين...في اطار المشاكل والفوضى والافلاس نرى بصيص نور وتنفتح امامنا بوابة على الافق

الى الصديق العزيز احمد والي
والصديق العزيز عصمت النمر و الصديق العزيز وليد عبد الله




وصلنا بولجاتانجا بعد رحلة شاقة مرهقة عبر السافانا, اول بلدة متوسطة الحجم في شمال غانا. انزلنا سائق الاجرة امام فندق النجمة السوداء, حيث كنا نزمع الاقامة لمدة ليلة. قال الصبي على البوابة " عدا ان كل شئ لا يعمل فكل شئ تمام" و اردف" تكييف الهواء لا يعمل , لا توجد كهرباء" . ولكن عندما دخلنا الغرفة وجدنا مفاجأة جيدة ,تكييف الهواء يصدر ضجة عالية. كان الصبي على خطأ. ربما كان يريد ان يخبرنا ان الحمام لا يعمل , فعندما جذبنا سلسلة الحمام فاضت المياه واغرقت الحمام وجزء من الغرفة.

كنا جوعانين وعطشانين فهرعنا للمطعم. كان بلا تكييف و الهواء حار خانق. كانت مراوح السقف صامتة متوقفة

كانت قائمة الطعام مكونة من ثلاث صفحات . كانت اسماء بعض الاطباق مغرية جدا يسيل لها اللعاب. و لكن عندما اخترنا ما بدا انه الاكثر اثارة للشهية , قال لنا النادل ان كل ما لديهم هو الدجاج بالارز .قلنا " حسنا" لم يكن امامنا الا قبول الضرورة واضفنا " اثنين من عصير البرتقال"

صرخ النادل ولوى عينيه نحو السماء" كل ما لدينا هو الجعة, الجعة فقط يا سيدي"قال بطريقة من مل من الاسئلة الغبية. سألنا" الا يوجد لديكم أي مشروبات غير كحولية؟" و كررنا السؤال بالتفصيل" ليمون , كوكا كولا, مياه معدنية؟" رد في سأم" مياه الصنبور" طلبت جعة . وقررت زوجتي ان تجرب مياه الصنبور . لكنها اضافت " لابد ان تكون باردة"

كان النادل قد غادرنا قبل العبارة الاخيرة ولكنه استدار وعاد للطاولة " كيف يمكن ان تكون باردة؟"واردف" لا توجد كهرباء, الكهرباء مقطوعة منذ اسبوعين, الثلاجة لا تعمل.الماء دافئ و الجعة دافئة , الشمس دافئة. لكن المستقبل صدقوني او لا تصدقوني ليس دافئ اطلاقا"

كان الارز معجنا و بلا طعم و محروقا. وبدت رجل الدجاجة بلا رجل. كانت الجعة الدافئة ذات طعم معدني مسموم و جعلتني احس بالغثيان. كانت المياه افضل الموجود , لكن هل كانت حقا مغلية كما اكد النادل فهذا امر آخر.

سرعان ما ادركنا اننا لا نستطيع ان نصدق أي فرد. قال الصبي في الاستقبال انه لا توجد حافلات لاي مكان لانها كلها معطوبة. ولا توجد قطع غيار. لكن النادل اخبرنا ان الحافلة المتوجهة الى تامال تغادر في السابعة صباحا. قاطعه نزيل كان يجلس على طاولة بجوارنا قائلا ان تلك كذبة . الحافلة تغادر في الخامسة , وليس في السابعة, لكنه ينصحنا نصيحة خالصة بان نذهب للمحطة في الرابعة, هذا لو اردنا ان نجلس لان المسافرين كثيرين والزحام شديد ولا توجد حافلات كافية. وقد توقفوا عن قبول الحجوزات. الآن اولئك الذين يمتلكون مرافق حادة و اذرع طويلة هم من يحصلون على المقاعد. قالت امرأة تجلس على احد الطاولات في هذا الفندق يقولون لك دائما ان الحافلة تغادر بعد موعدها , هم يريدون الا تركب كي تمضي ليلة اخرى.

كان صبي الاستقبال على حق. لا توجد حافلات.

قررنا الخروج لرؤية البلدة . بعد بضعة خطوات داهمنا إحساس بأننا قد وقعنا في مصيدة زمنية نقلتنا إلى عالم آخر موازي. تعطيك بولجا تانجا الإحساس بأن سكانها الأصليين قد غادروها مسرعين وهم في رعب شديد , وأن الحياة العادية قد توقفت عند لحظة هروبهم تلك. كان بوسعنا أن نرى علامات هروبهم المفاجئ في كل مكان. منازل غير مكتملة البناء, بلا نوافذ أو أبواب,تشبه هياكل عظمية ضخمة حمراء من آجر تركت لتحترق تحت الشمس الاستوائية ., علامات كبيرة كانت بيضاء مكتوب عليها بخط لا يقرأ "سوبر ماركت" او "بنك" او "مدرسة". بوابات الحوانيت المتربة التي تتعلق في اطرها المكسورة وكأنها تصرخ طالبة الغوث.

وكان الناس الذين يحيون وسط هذا الخراب يعطون انطباعا انهم يخيمون في هذا المكان. وكأنهم من الهون في شوارع بلدة اخلاها الرومان. لا توجد منازل تبنى , ولا طرق تعبد , ولا جدار يدهن من جديد. لم يكن بوسعنا رؤية أي شخص يغير اطر النوافذ المكسورة. كل شئ كان مغلقا . لا يوجد ما يباع او يشترى. تقف الاكواخ مهجورة في ظلال العلامات الارشادية على الطريق المغبر . بداخل الحوانيت ترى الارفف المظلمة فارغة . بين الفينة والاخرى نقابل امرأة تبيع ثمار المانجو المغضنة او برتقالات فجة او موز اسود اللون.كانت كل العربات التي رأيناها وهي جد قليلة قديمة وتحتاج للرمي في مقابر السيارات. سألنا طفل بشوش في ساحة الفندق المركزي " اين يمكننا ان نشتري زجاجة من الكوكا كولا؟" نظر الينا كما لوكنا قد قدمنا لتونا من القمر. في الفندق لا يوجد شئ ولا حتى الماء او الجعة. لم تصلهم أي طلبات منذ اسبوع. و ببساطة اغلقوا البار والمطعم.

واردف الصبي " ربما هناك شئ يشرب في كوماسي او اكرا"

لكن البلدين كانتا على مسافة مئات الكيلومترات الى الجنوب .و لانه عاجلا او آجلا كنا سننطلق في هذا الاتجاه ذهبنا الى اقرب محطة تاكسي غابات لنستعلم عما هو متاح.تاكسي الغابات في غانا يدعى ترو ترو او سيارة مامي. اعطتنا السيارات المتوقفة امام محطة بنزين خاوية إنطباعا انها قدمت من كوكب آخر. صحيح انه كان لكل منها اربع عجلات و اربع اطارات( ممسوحة ملساء لدرجة انها يمكن استخدامها كمرآة) ولكل منها مقودو قمرة قيادة عليها علامة متفاخرة بأسم الشركة المنتجة للسيارة , اوستين , شفروليه , بدفورد. لكن الاضافات التي ربطت بقمرات القيادة تعطيك انطباعا انها من فعل مساعد شرير يريد الاضرار برئيسه فثمة عوارض خشبية مدقوقة بطريقة عشوائية, مغطاة بقماش مرقع , وتحتها تقعي دكك خشبية حرة في مهب الريح . كانت بعض العربات ناقلات ضخمة من حمولة خمسة اطنان , وكان البعض الآخر صغيرا يميل بشدة الى احد الجوانب,على حافة المحطة كانت احدى العربات مهشمة تماما.

لكن اغرب ما في الامر ان كل شيء كان شديد الهدوء فلا حس ولا حركة. حتى في المكان الذي تتوقع ان تجده مزدحما يعج بالناس و الضوضاء , كان العالم قد توقف , وخلال ربع الساعة التي امضيناها في تفحص اعجب وسائل المواصلات تلك, لم تصل سيارة ولم تغادر سيارة. وبالقرب من احدى السيارات كان ثمة جماعة واقفة وكأنها تتهيأ للقيام برحلة..

ثم , وبالقرب من المخرج , شاهدنا مشهدا عجبا. كانت هناك شابة اوروبية صغيرة تجلس على حقيبة ظهر متربة , كانت مستغرقة في حالة من الانكفاء على الذات , تعبث في عصبية بخصلات شعرها البني غير المغسول وغير الممشط . ولو كنا عبرناها دون اننتفوه بشيء ما كانت لتحس بوجودنا لكنها ما أن سمعتنا نقول"اهلا" حتى انتفضت وكأنها رأت شبحا.

تنهدت قائلة "آه" في صوت كانت نبراته مزيج من الارتياح والدهشة." آه , كم انا سعيدة برؤياكم" وما أن قالت هذا حتى انتصبت واقفة على قدميها, وهي تمد يدها باحثة عن يدينا." ارجو ان تسامحوني لكني لم ار وجوها بيضاء منذ اكثر من اسبوعين" كانت على وشك ان تحتضننا.

قدمت نفسها " ايرين" وتابعت" من سويسرا, لكني ارتحل في افريقيا منذ اكثر من ستة اشهر.وانتظر مواصلة لكوماسي منذ اكثر من اسبوع"

قلنا اننا نأمل ان نسلك نفس الاتجاه, رغم انه يبدو ان المواصلات قد لاتتوافر في حياتنا, واننا قد نتوفى , ليس من مرض استوائي غريب, لكن من العطش, حيث يبدو انه لايوجد ما يشؤب الا الجعة, الساخنة بالطبع.

على الفور حاولت المساعدة " انا اعرف مكانا قد يكون فيه شيئا ما, فندق الدولة. انه بيت الضيافة الرسمي. لكنه خارج البلدة , والمسافة بعيدة من الصعب الوصول اليها مشيا"

استقلينا سيارة اجرة متهالكة اخذتنا عبر شوارع البلدة, ومن خلال حي من العمارات الخراسانية المتشابهة التي تعطي انطباعا ان لا احد قد سكنها الا الكلاب الضالة والجرذان, الى طريق ترابي يقود الى الشمال . اخذ الطريق يتلوى عبر حقول مهملة , ثم القى بنا امام مبنى فندق الدولة الذي لم يكن مكتملا وجديدا فقط, بل كان مدهونا منذ فترة قريبة . قالت ايرين" في هذا الفندق , لديهم كل شيء." كان من الواضح انها قد زارت المكان من قبل.

قادتنا الى الاستقبال, حيث لم نجد نفسا يتردد. كان من الصعب الا نحدس ان الفندق خاو ليس به نزيل واحد., وان العاملين , إن وجدوا قد تشغيلهم لغرض وحيد هو الابقاء على نظافة و اناقة المكان ترقبا لوصول أي موظف في الدولة رفيع المستوى. تابعنا طريقنا فوجدنا انفسنا في ساحة مفتوحة صخرية بها صفوف من الكراسي الخشبية امامها شاشة سينما كبيرة مثبتة باطار معدني.اخبرنا البواب الشاب الذي كان يعبث في احد الاركان بآلة عرض سنيمائي قديمة , انهم سيعرضون فيلما في الثامنة مساءا . بعدئذ سيأخذون الكراسي كي تصير الساحة حلبة رقص. ولا حظنا في ركن آخر من الساحة ان ثمة ثلاثة شبان آخرين يعدون ميكروفونات ومضخمات صوت و على مسرح صغير. لاشك ان الفندق له مولد كهربائي خاص , فقد كانت الكهرباء موجودة. بالتأكيد ان الثلاجات تعمل. سألنا البواب الشاب ان كنا نود القاء نظرة على صالة الديسكو. ردت ايرين" اولا , نريد مشروبا"

عرفنا انه بالامكان الحصول على جعة, لكن في البار فقط وهو مفتوح من التاسعة مساء. كانت الساعة السادسة.

اما بالنسبة للماء ,فهو متاح في المطعم الذي يفتح في السابعة. وحتى هذا الوقت يمكننا القاء نظرة على صالة الديسكو.

قلنا حسنا. كان واضحا انه يريدنا ان نشاهد شيئا يعتز به بشدة. حالما فتح اقرب باب , وقادنا نازلين الى مخزن تحت الارض احسست كما لو كنا قد سقطنا في ثقب اسود قادنا الى منطقة خارج افريقيا , تبعد ملايين الاميال عن

الواقع المؤلم الذي تركناه في الخارج. كنا في كهف كبير تتوسطه حلبة رقص دائرية , به مناضد وكراسي جلدية في اركان محددة مختفية, به اضاءة رومانسية وديكور على الحائط. تعلو حلبة الرقص حجرة زجاجية مغلقة يمكن الوصول اليها عبر سلالم حلزونية " هذا الصندوق المعلق مملكتي" قال البواب بفخر " انا الدي جيه".

دعانا كي نتبعه على السلالم الحلزونية .و هناك في صندوقه كان يمتلك احدث الانظمة الصوتية , وافضلها في العالم في هذا الوقت.ادخل اسطوانة مدمجة(سي دي) و ضغط على زر , فأخذ الكهف يرتجف راقصا على ايقاع موسيقى الروك الصاخبة المتوحشة. ضغط على زر آخر وفاض المكان باضواء متراقصة ذات الوان مختلفة حمراء وزرقاء و صفراء كأنها نتف ثلجية ملونة على ارض الكهف وجدرانه.أخذت اتخيل تجمع من الاجسام الابنوسية المبللة بالعرق و الملتحمة والمنخرطة في حركات محمومة , وفي ركن قصي معزول زوج من الشباب من الجنسين . " الرومانسية " واحدة في كل انحاء العالم.

فجأة, ظهرت أمرأة شابة على حلبة الرقص . كانت في بؤرة الاضواء المتقاطعة تنتفض على نغمات الموسيقى في ايقاع جسدي منتظم. , بدا ذراعيها وكأنهما طرفا اخطبوط مجنون يتلويان بحثا عن فريسة يقبضان عليها. وكأنها تحاول انتزاع ذاتها من ذاتها, الهرب من ذاتها, ترك ذاتها على حلبة الرقص, ترك الجسد المرتخي بلا حياة , والتحليق بروحها عاليا فوق العالم, والتحديق فيه من عل وكأنه ماض اليم . ادلكنا بعد برهة ان المرأة على حلبة الرقص هي ايرين, التي كانت قد تسللت نازلة على السلالم دون ان ندري. " ارجوك لا تذهب" صدح صوت المغني عاليا فتجاوز دقات الطبول و نغمات القيثارات" ارجوك لا تذهب".

كانت ايرين , التي ملأتنا رغبتها العدوانية في الصداقة باحساس اكبر من عدم الراحة , ربما بالغضب غير المفهوم, ترقص وكأن كل حركة من حركاتها هي جزء من حربها في سبيل البقاء. كانت انتفاضات جسدها الرفيع الصبياني العنيفة تتحول شيئا فشيء الى استغاثة حسية تدعو يد متفهمة كي تنتشلها من الرمال الناعمة قبل ان تلتهمها و تبتلعها تماما.كانت تنورتها البنية الطويلة المتجعدة الممزقة في بعض اجزاءها تلف حول كعبيها تارة هنا وتارة هناك , ولكن في اتجاه معاكس لاتجاه دوران شعرها الملبد المشعث الذي كان يطوق رأسها وكأنه هالة امرأة مقدسة وقعت في مصيدة ابليس. وقبل انتهاء الموسيقى بقليل انهارت وسقطت على الارض لا حراك فيها.

هرعنا اليها وانحينا نراها. فتحت عينيها ونظرت الي اولا ثم الى زوجتي وقالت" أنا آسفة" بصوت هامس ضعيف" لم آكل أي شيء منذ اربعة ايام!!"

ساعدناها على الوقوف . واتكأت على كتفي فاستطاعت صعود السلالم وعبور الساحة ومنها الى الاستقبال وعبره الى المطعم حيث انهارت على كرسي على اول طاولة صادفتها . احضر لها البواب الشاب حقيبتها. كانت الساعة السابعة الا الثلث, لكن البواب همس بشيء ما للنادل., الذي قال ان بوسعنا انم نطلب. كل ما كان عندهم هو الارز ويخني اللحم . قالت ايرين" ارجوك ارجوك" كانت ترتعش من الارهاق. فتوسدت ذراعيها اللتان كانتا تفترشان المائدة.

ماء بارد؟ نعم لكن للاسف في البار فقط وهو يفتح في التاسعة. جعة؟ نفس الشيء.الشراب الوحيد المتوفر هو الماء العادي.تركت زوجتي وانا كذلك معظم الطعام في الاطباق. كانت اللحم عسيرة المضغ. لكن ايرين اكلت كل شيء , بما في ذلك قطع اللحم التي لم تكن تمضغها وانما ببساطة تبتلعها. في النهاية امسكت الطبق بيديها الاثنتين ولعقته.

سألتها" اتريدين طبق آخر؟" ردت"نعم اريد" ولم يبد عليها ادنى حرج. اختفى الطبق الثاني مثلما اختفى الاول, ولكن بوتيرة اسرع. وفي هذه المرة ايضا لعقت الطبق وكأنها طفلة.تنهدت في ارتياح"آه" ومسحت فمها بظاهر يدها.

دفعت , وودعناهم. لم نكن نريد الانتظار حتى التاسعة , كنا شديدي التعب. كان الظلام قد حل.لكن لا يوجد أي ضوء في المدى المنظور. اخبرنا البواب الشاب ان الهاتف معطل في الفندق. لذا ليس بوسعه طلب سيارة اجرة. ومن غير المحتمل ان تأتي سيارة قبل التاسعة. لحسن الحظ كانت زوجتي تحمل معها مصباح كهربي صغير في حقيبتها. ولذا انطلقنا على الطريق المتعرج عبر الحقول.آملين ان نصل الى فندق النجم الاسود. في الطريق تخلفت ايرين وارجعت طبقي اللحم و افرغت كل ما في جوفها.عندما وصلنا الفندق , وكنا على وشك ان نقول الى اللقاء قالت " انا جد ممنونة لكم . هلا شربنا مشروبا اخيرا؟"

ذهبنا للمطعم و اقتربنا من البار قلت"جعة" لم تجادل الامرأتان وطلبتا المشروب اللتان كانتا متأكدتان انهما ستحصلان عليه. لكن النادل انحنى للخلف وقال بلهجة من يدلي بتصريح خطير"غير ممكن" وادف " الجعة نقدمها وقت الغداء فقط".

سألته" حسنا ماذا لديكم نحن عطشى" لوح النادل مشيرا للارفف من خلفه" ويسكي , روم" فجأة كان هناك نور في الفندق. شرح لنا النادل لأن اليوم السبت. ولذا لا تعمل المراوح . لو عملت لانطفأ النور والعكس صحيح.

انتقلنا الى طاولة في الركن وطلبنا ثلاثة اقداح من الويسكي.كنت جد قلقا من الا تتحملمعدة ايرين الفارغة هجوم المشروب الروحي الخالص. ولم يكن من المتوقع ان تكون قد برأت تماما من الترجيع العنيف الذي مرت به. لكنها افرغت القدح على مرة واحدة. وفي تواضع سألت إن كان بوسعها ان تطلب قدحا آخر. ورغم انه لم يكن يساورني ادنى شك في انني سأدفع الحساب فقد طلبت لها قدحا آخر.لم تسارع الى افراغ القدح الثاني مثلما فعلت مع الاول, لكنها اخذت تديره بأصابعها وكأنها تبحث عن الكلمات المناسبة لنوع من انواع الاعتراف.أخذت عندما سألتها زوجتي في أي فندق تنزل؟

ردت بلهجة محملة بالامتنان " هذا ما كنت اود ان اقوله لكم"وتابعت" منذ فترة مضت كنت انام بشكل مرهق فقد نفدت نقودي.هل اطلب الكثير لو طلبت منكم ان تسمحوا لي بالاغتسال في غرفتكم؟"

نظرت الى زوجتي التي ردت دون ادنى تردد "بالطبع يمكنك, لا توجد مشاكل. لماذا لا نذهب على الفور؟ " ونظرت الي قائلة " وانت ادفع" ثم غادرتاني سويا.

طلبت قدحا آخر من الويسكي و أخذت احاول ان أفكر في الامر بهدوء. كانت الامور تتحرك بسرعة اكبر مما احتمل.لقد قابلناها منذ اربع ساعات فقط في محطة سيارات الاجرة , ولكني احس كما لو كنا امضينا سويا خمسة ايام. ملأ وجود ايرين حالة الاقفرار التي تسود المكان , ورحلتنا المملة في افريقيا بشيء كان يبدو محملا بنذير شؤم مظلم وخطر بالرغم من اننا لم نتفوه بحرف عنه. ارتجفت من فكرة اننا لا نعرف شيئا عنها. دفعت الحساب.

والتقطت حقيبة ايرين التي كانت قد تركتها على المقعد. لم يكن من المأمون تركها . حملتها على ظهري , وفي خطوات ثقيلة اخذت ارتقي الدرج وانا شديد التوتر كي اصل للطابق الثاني.

كان باب الحمام مواربا وكان بوسعي سماع خرير الماء الجاري, وصوت ارتطام الجسد بالماء.كانت زوجتي تعد الفراش . تنظم الملاءة , وتضعها تحت المرتبة. قالت"حسنا انك لم تنسى الحقيبة" تلى ذلك مناقشة حامية كان من الصعب علينا جدا ابقاءها تحت المستوى التي يجدر بنا عندئذ ان نسميها خناقة. كنت اردد دوما اننا لا نعرف عنها شيئا.لا شيء على الاطلاق. دعيها تستحم وتذهب.

قالت زوجتي" اسمع , انها متعبة وحزينة. لقد حدث لها شيء ما.شيء مرعب. هذا ما اظنه. لكن ليس لدي اية نوايا لكي استكشف ما هو ولا لديك انت ايضا. دعها تنام هنا. ان السرير كبير بما يكفي ثلاثتنا. ليس بوسعنا القاءها في الشارع"

قلت لها المسألة ليست القاءها في الشارع. فوفقا لما ادعنه هذا هو المكان الذي كانت فيه. ولا ادري لماذا ؟ وهناك التقيناها. ولو لم نكلمها ما كانت رأتنا, وكانت ستظل حيثما كانت وحيثما ستذهب بعد ان ترتدي ملا بسها وتغادر غرفتنا, حتى نستطيع الذهاب للفراش لأننا متعبون كما هو واضح.

اعترفت زوجتي باننا قد نكون متعبين. ولكنها متعبة ايضا لكن من الواضح انها منهكة تماما مائة ضعف تعبنا.

هل حولتني افريقيا الى شخص مصاب بجنون التآمر ؟ ماذا يمكن ان يحدث لنا لو سمحنا لها بالبقاء وقضاء الليلة في غرفتنا؟ ولو لم اكن اريد هذا بوسعنا ان نستأجر لها غرفة فلا يبدوالفندق ممتلأ. لكننا لن نرسلها للشارع في الليل. وهذا هو القرار النهائي. الا لو كنت اريدها ان تذهب ايضا.

قطعت ايرين مناقشتنا الحامية, دخلت من الحمام. كان شعرها المغسول مفرودا ناعما براقا. بدت مختلفة تماما.

كانت تلف نفسها في فوطتي.تنهدت " يا لها من راحة, وكأنني اولد من جديد" ثم لاحظت حقيبتها وتملكتها نوبة جديدة من الفرح. لم يكن ثمة ادنى قدر من الادعاء كان الامر حقيقيا. ربما طفوليا في وضوحه. فتحت الحقيبة وجاست فيها" كل شيء متسخ, ليس لدي ما البسه"

احسست بالرغبة في ان اهرب من كل هذا لذا دخلت الحمام كي استحم. وتحت المياه المنصبة على رأسي التي مازالت دافئة من اثر حرارة اليوم, أخذت احاول ان استكشف ما اشعر به حقا. هل كان الغضب؟ ام هل كان التوتر؟فجأة اقتحم شخص ثالث رحلتنا التي كانت قد بدأت تفقد غرضها, وحياتنا التي كان اقفرار افريقيا قد بدأ يصيبها بجروح مؤلمة, جلب هذا الشخص معه شيء جديد بيد انه مألوف, شيء افتقدناه طويلا, انه الاحساس بأن مصدر طاقة الحياة الوحيد هو العلاقة بالآخر, وان اكبر مصدر للالم هو اكبر مصدر للخلاص.

وحالما اقفلت الصنبور ومددت يدي امسك بالفوطة وجدت نفسي في ظلام تام. انقطعت الكهرباء. جففت نفسي ولففت الفوطة حول خصري. وتحسست طريقي خارجا من الحمام. ارتطمت اولا بالدولاب , ثم بالباب الذي كان مواربا. وعندئذ كان بوسعي ان اتحرك بمحاذاة الحائط حتى الطاولة الصغيرة التي كنت اعرف انها قبالة السرير. في لحظة ومض البرق وعلى ضوئه المرتعش رأيت ان زوجتي وايرين قد نامتا , زوجتي على الجانب الايسر من السرير وايرين في منتصف السرير, تركتا لي الجانب الايسر.

ولتجنب الارتطام بشيء آخر انتظرت البرق وحالما ومض هرعت للسرير وبحرص كيلا اوقظهما تمددت على الجانب المخصص لي . هل كان هذا اتفاقا ؟ لكنهما كانتا نائمتين. يالها من فكرة سخيفة! حاولت النوم بأسرع ما يمكن.

فجأة توقف جهاز التكييف الصاخب.وفي الصمت الذي ملأ الغرفة كان بوسعي سماع صوت تنفس المرأتين. رافق الرعد البرق, وهبت عاصفة هوجاء على البلدة. وتسللت الريح عبر ثغرات النوافذ. احسست بالطراوة فاردت فتح النافذة واتجهت اليها .كان بوسعي ان ارى البرق يصنع اشكالا مذهلة من النور تتراقص على الوديان وتملأ الافق. تساقطت قطرات المطر الاولى على سقف الفندق الصفيح وكأنها حمامات ميتة.تحول صوت المطر الى سيل . انتقل الرعدمن مكان الى آخر وكأنه عملاق مخمور يرتدي حلة معدنية.

عندما تحولت الى السرير سمعت ايرين تقول " اني جد خائفة . هل يمكن ان تحتضنني؟" في ومضة برق رأيت انها مستلقية على ظهرها, مرتكزة على مرفقيها تحدق الى خارج النافذة. رأيت ايضا أن الفوطة التي كانت تلفها حول نفسها قد انحلت و انها كانت مستلقية على الفراش عارية تماما. كان الرعد شديدا لدرجة ان زوجتي لم يكن ممكنا ان تكون نائمة!!لكنها كانت تدعي انها لا تدرك ماذا يحدث. قررت ان افعل مثلها.لكن بعد قصف الرعد التالي ارتجفت ايرين وكررت" انا جد خائفة . ارجوك ارجوك احتضنني"

بدأت في النحيب.لم تكن تدعي , كان عويلها خنوعا و صادما بحق.كانت زوجتي هي اول من استسلم للحزن اللانهائي الذي يملأ نحيبها اللاهث. طوقت خصر ايرين بذراعها , وجذبتها برفق نحوها. وقالت لها بصوت حنون " كل شيء سيصير جيدا"كانت كمثل أم مع طفلها. التفتت ايرين لها ووضعت ذراعها الايمن حول كتف زوجتي وقالت " كلاكما , يجب ان تحضناني كلاكما"

حل صمت حيث اضاءت ومضة برق استمرت طويلا امرأتين متعانقتين في فراش واحد و الى جانبهما يتمدد رجل لا يعرف ماذا يفعل.لو لم تكن المرأة في المنتصف عارية, ولو كان هذا العري صدفة وليس محسوبا كي يبدو صدفة كما احسست, لما ترددت طويلا . لكن الموقف ككل كان شديد الغرابة بالنسبة لي. وكنت افقد توازني بسرعة, و اتساقط في فراغ مظلم حيث لا احس بشيء و لا شيء سيمنعني من اختراق الحجاب الفاصل بين السواء والجنون, لأجد نفسي في موقف حيث تتحول كل الافكار والاراء و الاخلاق التي تعلمتها في حياتي الى مجرد ذكرى.

ثم سمعت صوت زوجتي " لماذا هذا البرود؟"قالت وفيه رنة من توبيخ " لماذا انت...." بحثت عن الكلمة الملائمة" بخيل؟"

حسنا , فكرت . لو كانت زوجتي ترى الكرم في استعدادي لمعانقة امرأة عارية ترقد بيننا, فسأفعل هذا, ولتتحمل مسؤولية أي شيء يحدث بعد ذلك.استدرت ووضعت ذراعي اليمنى اولا على خصر ايرين ,فوجدت ذراع زوجتي ,فنزلت قليلا ووضعتها على فخذها.

احسست انها قد حركت جسدها بعض الشيء بحيث تلتصق بي , ضاغطة عجيزتها على رجلاي. مع تحرر ذراعي رفعتها لاضعها حول كتفيها, لكن مع هذه الحركة وقبل اتمامها , رفعت ذراعها اليمنى بما يكفي لكي اجد ذراعي على صدرها. وقبل ان استطيع سحبها , وضعت يدها اليمنى على ظهر يدي اليمنى وضغطت عليها بطريقة جعلت كفي تستريح على ثديها الايسر.

قالت " الآن استقر الامر, ويمكن للعاصفة ان تستمر للابد".

كان ثدياها صغيرين , لكن الحلمتين لم تكونا كذلك: كانتا منتفختين , منتصبتين, ممتلأتين وكأنهما تستصرخان العصر العنيف, والدعك اللطيف , و تقدير تهيجهما الذي نجم عن استجابتهما لملمس جلد شخص آخر.

في الخارج كانت العاصفة قد خفت حدتها. واختفى الرعد عبر السهول.و استقرت الامطار على همس رتيب .كان بوسعي الاحساس باصابع ايرين على اصابعي, واصابعي على صدرها ,وبمرفقي كنت احس بذراع زوجتي التي تطوق بها خصر ايرين. وبها كانت تلامس الجلد العاري عند وسطي فقد انزلقت فوطتي ايضا وكان هذا على بعد سنتيمترات من منطقة التصاق عجز ايرين بجسدي. وهكذا كنت الامس بجلدي جلد امرأة غريبة تحتضنها زوجتي بشدة وكأنها تريد حمايتها.أمني كانت تحميها أم من رغباتها المتراكمة بداخلها و المكتومة بالكاد؟

همست ايرين في الظلام"لقد كنتما شديدا العطف علي.واود ان ارد بعض من جميلكما . انتما الاثنان. انا لكما ان اردتماني"

صمت.مازال الرعد يقصف في مكان ما غير بعيد. لكن ومضات الضوء المتباعدة كانت اضعف من ان تقوى على انارة الفراش الذي كان ثلاثتنا يرقدون عليه في انتظار حل.كنت مندهشا من الفرق الرفيع بين النهار والليل

, ومن السرعة التي انقلب بها العالم رأسا على عقب, ومن الهوة بين الرغبات والاحكام.والتي ما انفكت تذكرنا بأن ما يحدث ليس مجرد استجابة لدافع آني لا يقاوم , ولكنه ثمرة قرار اتخذ بعد تدبير وتفكير وروية
قرار كنا نحتاج لشهرين على الاقل للوصول اليه وربما لثلاثة اشهر.

استمرت ايرين " احبكما انتما الاثنين كثيرا" و ضغطت برفق على ظهر يدي التي براحتها كنت احس خشونة حلمتها المتورمة.

بعد فترة كانت زوجتي اول من تكلم.

"نشكرك كثيرا. من الصعب تخيل هدية الطف. لكنك لنا منذ فترة. لو اردنا منك اكثر ربما انتهى بنا الحال الى فقدانك, وهذا لن يجعل أي منا نحن الاثنين سعيدا, كذلك قد نفقد بعضنا البعض, وهذا لن يجعلك سعيدة ايضا. اليس كذلك؟"

لابد ان عشرين دقيقة قد مرت قبل ان ترد ايرين هامسة" صحيح" وسرعان ما استغرقت في النوم آمنة في احضاننا. كانت العاصفة قد تلاشت اخيرا. و انتهت آخر قعقعات الرعد البعيدة. وذهبت آخر ومضات البرق. وسكتت آخر دفعات الريح. وتوقفت آخر قطرات المطر.صمت. ومرة اخري اخذت الحرارة القابضة تتسلل عائدة الى الغرفة. وفي اقل من نصف ساعة كنا جميعا غارقين في العرق. وكان هذا سبب آخر مقبول جدا كي نتفرق ثلاثتنا, ونتباعد كل في اتجاه آملين ان نحظى ببعض النوم.

في الصباح التالي لم يكن هناك أي دليل على السيول المنهمرة بالامس. لقد امتصت الارض العطشى كل قطرة رطوبة في الجو. استقلينا سيارة أجرة و انطلقنا صوب كوماسي. كانت ايرين سعيدة لانه لم يعد عليها ان تظل في البلدة تنتظر سيارة نفل متجهة للجنوب.كانت قد امضت احدى عشر يوما في بولجاتونجا , ورغم انه كانت ثمة سيارات منطلقة نحو الجنوب في هذه الفترة , الا ان أي منها لم يكن يشجع حقا على استقلاله. والوثوق به وخاصة بعد حريتها الجديدة الطازجة. لم نكن نريد ان نستفسر عما ارادت ان تقوله بالضبط من خلال هذه الكلمات . كنا نأمل انها ستود فيما بعد أن تفسرها.

كان الطريق يتدهور بمعدل مزعج. الحفر الصغيرة تتحول لحفركبيرة. وبعد فترة ليست بالطويلة كان على السائق اللجوء لحيل المتزلجين على الجليد في مسابقات التعرج الالبي لتجنب هذه الحفر. لكنه كان كسولا وخائبا او ربما متعبا لدرجة انه كان عادة يدخل في الحفرة التي يريد تجنبها بالذات.

في الرابعة بعد الظهر ظهرت سيارة نقل كبيرة امامنا. ورآها السائق في وقت متأخر, حول عجلة القيادة بعنف الى اليمين فتركنا الطريق واندفعنا في السهول لننتهي في حفرة بها شجيرات عوسج كثيرة. لولا العوسج والحفرة التي اوقفت اندفاع السيارة لما توقفنا فقد كان السائق قد نسى حتى استخدام الفرامل.كانت الحفرة جد عميقة يستحيل على السيارة الخروج منها دون معاونة . قال السائق ان علينا ان ننتظر المساعدة من احد المارة. لم يبدو عليه التعب او القلق. خرجنا من السيارة و تمطينا ننفض الكسل عنا.

دخلت ايرين في حقل خاو متجهة نحو شمس الظهيرة المتأخرة التي كانت تخترق الغيوم الممطرة و تصبغ الافق بلون حزين مضيء. كانت تمشي ببطء وراسها منخفضة و يداها تتأرجحان إلى جانبها في خمول . بعد حوالي مائتي متر توقفت. ظلت متوقفة لفترة وكأنها لا تدري ماذا تفعل. ثم انهارت على ركبتيها مقعية.ودفنت وجهها في كفيها , وبدأت في الارتجاف وكأنها تبكي. نظرت زوجتي الي ونظرت لها. وللمرة الاولى منذ الليلة الماضية التقت عيوننا دون ان نحاول تجنب النظر لبعضنا البعض. رغم ان النظرة لم تستمر لاكثرمن ثانيتين . لكنهما كانتا كافيتان , لحقنا بايرين في الحقل. و اقعينا بجانبها كل منا على جانب , ووضعنا اذرعنا حول كتفيها.

مسحت دموعها من على خديها بظهر يدها وسألتنا" هل يمكنكم رؤية البوابة على الافق؟" اشارت عبر السهل القحل المقفر بلا شجر ولا قرى. وقالت " لابد ان تكون هناك بوابة فى اعلى. لكني لا استطيع رؤيتها. بعض الناس تستطيع. من خلال هذه البوابة يمكننا ان ندخل عالم مواز, حيث كل شيء قد انقلب رأسا على عقب. في هذا العالم يظلم من يظلمون الآخرين, والعكس صحيح. كنت قد اعتدت ان اطلب ان اجد هذه البوابة و ان اعبرها. لكني لا اريد هذا الآن. الآن اعرف انه من السهل ان نعاني عن ان نجعل الآخرون يعانون".

وبينما كنا نخرج الى الطريق, كانت سيارة نقل عابرة تحاول جر سيارتنا من الحفرة باستخدام حبل معدني, وتكلمت ايرين كما لو كان عليها ايضا ان تجر نفسها لتخرج من حفرة كانت قد سقطت فيها.كانت تتكلم بسرعة كما لو كانت في سباق مع الزمن. كانت تفر من زوجها, صعلوك فرنسي , كانت قد عاشت معه في نيامي عاصمة النيجر. كانا قد التقيا عندما كانت تقضي اجازتها في الريفيرا الفرنسية. احبته لأنه كان ظريفا سريع البديهة, جريئا , مغامرا , كان به كل ما كانت تتمناه في رجلها هذه الايام. وعندما قال انه لا يمانع في قضاء بضع سنوات في افريقيا, سافرت معه. لكن مشاريعه التجارية فشلت , وبدا في بيعها لغيره من رجال الاعمال و كبار الموظفين المحليين. كان يسجل اللقاءات في غرف الفنادق بواسطة كاميرا فيديو خفية, ومن ثم كان يبيع الاشرطة لاولئك الذين كان يمكن افساد حياتهم ومستقبلهم واسرهم من جرائها. وكان يعدها دائما ان هذا لن يستمر كثيرا. كل ما يحتاجانه مال يكفيهما كي يعودا لاوروبا , ويفتتحا محلا للعاديات الافريقية, ومن ثم يبدءا في عيش الحياة العادية. مر عام , ثم عام آخر , ثم ثالث ,ولم يتوفر المال الكافي.في هذه الاثناء كان قد اعتاد على ضربها. كان لا يحتمل ادنى معارضة, كانت كل شكوكها , واحساسها باحتقار الذات , و توسلاتها اليائسة تدفعه لجنون قاتل مدمر., لا يمكنه اغراقه الا بالخمر.

ذات يوم توقفت على الجسر المقام على نهر النيجر, جسد مائي مترهل كسول خامل متسع لدرجة ان المرء قد لا يستطيع رؤية الضفة الاخرى. وقفت تتأمل النسوة اللواتي كن يغسلن ملابسهن وهن يخضن في النهر حتى ركبهن.احست برغبة ملحة مفاجئة بأنها تود لو غسلت بالصابون , ودعكت , وجففت , وكويت مثل احد الاقمصة في يد اولئك النسوة الغسالات. كانت تود ان تبدو جديدة دون ادنى بقعة من الادران القديمة.على الضفة الاخرى كانت السافانا تمتد الى بوركينا فاسو , ومالي , والسنغال.حدقت في الفراغ المجوف امامهاوتخيلت ان في نهايته ثمة بوابة يمكنها منخلالها ان تترك هذا العالم الذي كانت تحس انه لامكان فيه يمكن ان تهرب اليه.في النهاية اقنعت نفسها ان هذه البوابة موجودة , وأنه لا يمكنها ان تراها لأنها بعيدة جدا. وذات يوم القت بعض الملابس في حقيبتها , وانطلقت نحو الافق.لكن البوابة الخفية استمرت في الابتعاد عنها ولم ترد ان تنتظرها.

همست"سامحاني. في رفقتكما شعرت بأن الخير مازال موجودا في العالم ولاول مرة احسست بهذا منذ خمسة اعوام. ولذا عرضت نفسي عليكما, اعتقدت ان الحب في حضن الخير سيطهرني وينظفني. الآن رأيت انني كنت اريد استغلالكما. انا آسفة"

استمرينا في طريقنا. كان باب السيارة معطوبا, و جسمها مخدوشا, ونورها الامامي مكسورا. ولم يكن السائق سعيدا. وكان الليل قد اعلن عن نفسه, ولكنه كان يتقدم ببطء وثقة. وفجأة تغير كل شيء.!! فعلى جانبي الطريق انتصبت غابات الآشانتي العظيمة وكأنها جدرانا خيالية. أخيرا تلاشت السافانا ذلك الفراغ الاصغر المجوف. هنا يحيطنا النمو. الخضرة اليانعة, والرطوبة الدافئة. كان الغسق يتحول الى الظلمة , وأخذ الافق يقترب,معه اقتربت البوابة الخفية , التي كنا نود ان نخترقها زوجتي وانا لندخل في العالم الموازي, او عل

الاقل كي نعود لفندق النجمة السوداء , ولمعانقة منتصف الليل التي ربما استطاعت فيها روح رفيقتنا الجوالة الى حالة من الطهر.


Tuesday, January 02, 2007

خيبة امل

تجري احداث هذه القصة في لندن .الا انها تنتمي في رأيي الشخصي إلى افريقيا ولذلك اضفتها ألى افريقيا او بالاحرى بدأت بها افريقيا او رحلات الكاتب في افريقيا وها نحن نقترب من نهاية رحلات التجوال ...ارجو ان تكونوا قد استمتعتم بها
إلى ي..الصديق العزيز الذي لم اقابله....البقاء لله وحده
الحزن من نعم الله على الانسان لأنه يقينا شر اليأس. والدوام له جل جلاله


أستيقظ عليم وحملق في الظلام. ثمة شئ خطأ, الأمور ليست على ما يرام ,كما ينبغي لها ان تكون, أحس بتوتر شديد. تسللت ضوضاء مخيفة غير مألوفة عبر جسده , و جمدت الدم في عروقه. ما هذا الشيء الذي منع عنه النوم والأحلام؟ هو الذي كان دائما ينام بعمق ويحلم احلاما سعيدة؟

تتراقص أشكال شاحبة من الضوء الخافت على جدران غرفته. اخذ يراقبها : كانت تنتقل من اليسار إلى اليمين, ومرة أخرى من اليمين الى اليسار, وتتقاطع وتتكسر وتتصل وتنفصل. و تحيك من نفسها أشكالا لانهائية. من أين يأتي الضوء؟ قام من سريره ولمس هذه الأشكال. أخذت ترقص على ظهر يده. كان يحس بالاختناق , فمشى مترنحا الى النافذة وفتحها.

وهناك , على بعد سحيق , وكأنه أخدود عميق , كان بوسعه رؤية نهر من الاضواء المتراقصة , نصفها يتدفق الى هذا الجانب والنصف الآخر الى الجانب الآخر, اضواء كانت حمراء متلألأة اصغر حجما في هذا الجانب , بينما على الجانب الآخر كانت براقة تخترق العيون , بعضها سريع وميضي , والبعض الآخر متردد بطيء بحاثة.كان التياران المتدفقان من النور يهدران في ضجة صاخبة لا تشبه هدير انهار أفريقيا , لكنها اقرب إلى صرخات الحيوانات المتوحشة تهرب من الحريق المشتعل في أحد الغابات.

ثم تذكر عليم . أنه في لندن. في حجرة مربعة صغيرة في الطابق العاشر في أحد الفنادق المطلة على أحد الطرق الرئيسية. كان متعبا جدا ,كان كل ما يريده هو النوم , النوم العميق. لكن الضجة كانت ترفض أن تسكن. كانت تقفز على عتبات النوافذ. ومنها تصل إلى الوسائد وتخترق اللحاف الذي كان عليم قد غطى به رأسه, كانت تأتي من الحمام حيث دخلت من فوهة التهوية . حيثما ذهب عليم محاولا الهروب منها كانت الضجة تفرض نفسها . أنها من أهل البلد الأصليين . هذا مستقرها. أخيرا اجبرت عليم على الخروج من الحجرة , والذهاب الى الممر ومنه الى المصعد. وعبر البوابة الى الشارع في وسط الزحام , في قلب الضوضاء.

كانت الناس تمرعبره , وكأنه خفي. كانوا يخبطونه , ويدفعونه بعنف من طريقهم , لم يكونوا يتعمدون هذا – لو فعلوا لعرف كيف يتعامل معهم, ولكان بوسعه الرد بالمثل- لكن كانوا يفعلون هذا وكأنهم لا يرونه على الاطلاق, وكان هذا هو الشيء المرعب حقا. كانوا يتعاملون معه وكأنه بلا أي اهمية , بلا وجود في نطاق وجودهم واهتماماتهم. التصق بنافذة احد المحلات كي لا يدهسونه. وعند اول ناصية , هرب الى داخل مطعم ذو اضاءة خافتة. طلب قهوة وهو يحتمي بظلام اشد اركان المكان عتمة. وجلس هناك مدعيا انه يقرأ جريدة.

لقد جاء الى لندن من السافانا الافريقية تحت الصحراء الكبرى تحدوه قناعة راسخة انه سيستحم بشدة في بركة التاريخ الذهبية, وسينغمس في الحب والمغامرات والبهاء وسينخرط في تجارب لا تنسى. كان مقتنعا بنفس الدرجة ان الذهب سيلتصق به , وانه سيكر عائدا الى موطنه مسربلا بالفخار والمجد.شخص شاهد الجنة وعاش فيها وتنعم بمباهجها. عاد الى الفندق وجذب اللحاف على رأسه. وفي هدوء, بدء يغني لنفسه اغنية من اغاني الفولاني الرعوية, لكنها لم تهدهده كي ينام. ففي عين عقله استمر نهر الاضواء المتراقصة في الاندفاع الصاخب طوال الليل. غدا , ظل يعد نفسه, غدا, سيقفز ويغوص في اعماق الحياة.

كان في العشرين من عمره . وكان يحيا دائما في حمى قناعة راسخة بأن الحياة قد اعدت افضل ما لديها من اجله. ليس اقل مما ينبغي للمختارين من النخبة. لم يفكر على الاطلاق في تفاصيل ما ينبغي ان يحدث لتحقيق الرغبات الساخنة الحارقة التي تعتلج في صدره , ولا يعرف كيف يحددها.كل ما كان يعرفه هو ان العالم الفسيح الكبير كان مرتبطا بالسعادة العظمى التي كان يعرف انه يستحقها وانها في انتظاره. كان في سن يصعب فيه الا يستسلم لغواية روحه المتقدة التي كانت تطلب منه ما كانت السافانا اللانهائية تعدها به: التحديات, والمغامرات , الانتصارات حتى الارتواء التام. مثله مثل كل شاب مر بلحظات شك و رفض. لكنه كان في مجمل حياته ايجابيا متطلعا للمستقبل وسليم البدن والذهن مما كان يملأه سعادة وحبور.

كانت سعادة والده اكبر, فقد كان والده زعيم من زعماء الفولاني ويمتلك الاف الابقار, وكان يرى في عليم ليس فقط مجرد ابنه المفضل , لكن ايضا الوريث المحتمل لثروته الضخمة والشخص الذي سيكمل مسيرة حياته. كانت قطعان الابقار التي تحمل ختمه ترعى عبر السافانا الشاسعة التي تمتد جنوب الصحراء الكبرى. كان عليم قد بدء في الاستعداد لتحمل مسؤوليات حياة البالغين مبكرا: كان لديه حصانا اسودا يعدو ممتطيا اياه في السهول متنقلا بين القطعان , مشرفا على الرعاة ومساعدا لهم. وقد شارك مرتين في سباقات الخيل التي كانت تقام في سكوتو ونال جائزة في كل مرة. كان جذاب المظهر و له شخصية جذابة. كان يحترم الكبار دائما, ونادرا ما تفاخر امام اقرانه, حقا كان يحب ان يعاكس الفتيات و يغيظهن, لكن لم تشتك منه فتاة واحدة. لكن كانت افضل خصاله بلا شك هي انه مطيع لابيه- بالرغم من التعليم الذي حصل عليه في المدرسة الثانوية في سكوتو.

كان التعليم يؤدي في الاغلب الاعم الى حدوث فجوة بين الآباء و الابناء.لكن التعليم لم يغير من عليم. لم يحدث هذا لانه رسب في الامتحان النهائي , و لا لانه لم يكن يفقه شيئا في الرياضيات واللغات , ولا حتى لانه كان يشعر بأنه اسعد الف مرة لو كان على ظهر الجواد مما لو كان في الفصل. لا التعليم لم يغيره لسبب واحد اوحد: لانه كان يحب اباه ويحترمه, لانه كان ولد مطيع وابن بار.

ولانه كان متميزا لم يكن ممكنا ان يهديه والده في عيد ميلاده العشرين هدية اقل من هذه الهدية . عندما كان عليم مجرد صبي جلب معه من المدرسة ذات مرة, كتابا ضخما به صور فوتوغرافية لقصور مذهلة تأخذ بالألباب و كاتدرائيات فخمة , و اثار , و جسور , كان يقلب صفحات الكتاب ببطء شديد وفي فخر اشد, كان يريد انيعرض على ابيه كل تفصيلة دقيقة في الكتاب. كان واضحا ان عليم يريد ان يشاركه في احساسه بالسعادة. قال لابيه تلك هي مركزالعالم. كل ما يمكن حدوثه في هذا العالم يحدث في لندن. ظل ابوه يهز رأسه, كان سعيدا لان ابنه اكتشف العالم الكبير , ودون ان يؤدي هذا الى الخجل من عالمه.

بعد ثلاثة اعوام , وكان عليم قد توقف عن الذهاب الى المدرسة , اكتشف ابوه الكتاب المصور الكبير خلف عمود خشبي في اسطبل الخيول. كانت هي المرة الاولى والوحيدة التي احتفظ فيها عليم بشيء ليس ملكه.وعندئذ فقط فهم ابوه ماذا تعني المدينة الكبيرة بالنسبة لابنه: لقد صارت مقياسا لكل شيء يستحق ان نعيش لأجله. فهم ايضا ان عليم لن ينضج حقا الا لو تحقق حلمه. ولذا في عيد ميلاده العشرين قدم له :هدية تذكرة طائرة , وقاده الى المطار البعيد.

ظل عليم في الفندق لا يغادره طوال اليومين الاولين. مرت عليه الساعات وكأنها تمرين في الملل والرتابة: افطار , غداء , عشاء. جعة في البار , قهوة في الكافيتريا. لم يعره احد أي اهتمام, لم يقترب منه احد , ولم يكن يريد ان يتدخل في أي شيء. كان كل شيء يحدث وكأنه يحدث لشخص آخر بعيد عنه , بنعومة, بنظام , وبدون ادنى تدخل شخصي. في اليوم التالي لوصوله بدأ يحس انه ليس هو, بدأ يخاف من فقدان ذاته, بدأ يحس برغبة شديدة ليخبر أي شخص , مهما ان كان عن ماهيته, من هو , وهكذا يستعيد ثقته بذاته ويعرف انه ما يزال هو.

قال لخادمة الغرفة وهي ترتب السرير وتنظف الحمام" أنا من نيجيريا, ابي زعيم من زعماء قبائل الفولاني, نحن نمتلك 5000 رأس من الماشية"

ردت دون ادنى تعبير مرئي عن الدهشة" حقا, اذن لن ينقصكم اللبن ابدا"

في اليوم التالي لاحظ اعلانا عن غرفة خالية على لافتة اعلانية على جدار مبنى في الشارع التالي لشارعه. غرفة انيقة , في مكان هاديء تطل على الحديقة. 50 جنيها في الاسبوع , فكر :الايجار يعادل ايجار الفندق في اليوم . لم يتردد , وبيد مرتعشة طلب الرقم , وسأل هل ما تزال الغرفة شاغرة؟ رد صوت انثوي منغم" للأسف لا" ولكن هناك غرف أخرى بنفس المستوى وربما افضل , واعطته العنوان الذي يجب ان يذهب اليه.

على الباب كانت هناك لوحة مكتوب عليها "وكالة عقارات" استقبلته السيدة ذات الصوت المنغم , وبدت عليها الدهشة حين دخل, لكنها سرعان ما تمالكت نفسها , وطلبت منه الجلوس . لا عليك قالت له. ربما كان الامر صعبا بعض الشيء , لكنه لن يكون اول واحد من صنفه وجدت له سكنا. لم يفهم عليم ماذا تعني بقولها" صنفه"

وأخذ يشرح لها في فخر شديد أنه ابن زعيم من زعماء الفولاني و انهم يمتلكون 5000 رأس من الماشية. حملقت المرأة فيه في رعب.

قالت له" من الافضل الا نذكر هذا . سنقول انك طالب"

بدأت في عمل اتصالات هاتفية. هنا وكالة العقارات , على الفور اتخذت نبرة عملية و متعالية. لدينا طالب مؤدب هادئ , مستأجر مثالي
. للأسف نعم . حسنا لا عليك. انا متفهمة شكرا. طلبت رقما جديدا. صباح الخير , وكالة العقارات ..............

كانت كل محادثة تنتهي باعتراف ملتوي مفاده ان الطالب الشاب ذا بشرة داكنة بعض الشيء. انه ابن زعيم من الفولاني , يمتلك 5000 رأس من الماشية بيد أن المرأة لم تتأثر , على العكس ارتعبت. اراد ان يقوم ويخرج. لكنه فجأة احس انه لا يمتلك القوة اللازمة.

طلبت المرأة 25 رقما آخر. بدأ شيء يومض في عينيها. كانت منهكة , لكنها لن تستسلم.رقم آخر , ظلت تردد.رقم جديد. وأخيرا حجرة !!! كتبت له العنوان على ورقة.كل شيء ممكن لو لم نيأس. منحته نصيحة مجانية.لكن كان عليه ان يدفع 50 جنيها نقدا نظير خدماتها.

وجد الميدان , ووجد المنزل. كان يشبه كل المنازل الأخرى في الميدان طويل و أحمر ومتهالك.وعلى بابه وفرة من الاسماء والاجراس. كانت رائحة المطهر الرخيص تملأ المكان . وكانت السلالم مغطاة بشريط ضيق من السجاد المتآكل الذي تفوح منه رائحة العطن. لم يكن هناك مصعد. قادته مديرة المنزل , عجوز قبيحة عديمة الاسنان تحمل حلقة مجلجلة من المفاتيح في يدها, الى الطابق السادس وفتحت بابا. كانت الحجرة مترين في ثلاثة امتار تكفي بالكاد لتحتوي على سرير صغير , ومنضدة شبه مهشمة , ودولاب متآكل , وموقد غاز صغير. كان بوسعه ان يرى من خلال النافذة سقفا تغطيه الطحالب, ومدخنة مشققة , وماسورة مجاري تشكل خطرا على المارة لانها طلقة غير مثبتة.

اغلق عليم الباب واستلقى على السرير.از السرير واصدر صريرا مزعجا. اغلق عينيه , وسحب الغطاء المرتق على وجهه. ومن الظلمة الحالكة خرجت المشاهد التي طالما حلم بها في لندن. قدمت نحوه مشاهد جميلة خارجة لتوها من الكتاب المصور المخفي خلف العامود الخشبي في الاسطبل الذي يحوي مهره العربي الاصيل.

غلفته الجهالة وكأنها ضباب كثيف. كان كل يوم يذهب للميدان , حيث يجلس لمدة ساعة على احد المقاعد الثلاثة الخشبية في منتصف بقعة معشوشبة , يراقب الحمام.ثم يذهب لحانة على الناصية ويطلب قهوة , وينكفئ على نفسه في ركن قصي مدعيا أنه يقرأ جريدة. ثم يذهب الى حانة اخرى على ناصية أخرى , ويطلب قدحا من الجعة و شطيرتين بلا طعم. يظل هناك حتى الثانية, ثم يجلس على المقعد لمدة ساعة أخرى .في المساء يذهب للحانة على الناصية الثالثة , وهناك يطلب شطيرتين اخريين , ويجلس ويرشف القهوة ببطء ويحملق في المارة . في التاسعة يعود لزنزانته وينزوي تحت الغطاء.

من خلال الفاصل الكرتوني الرفيع الذي يقسم الحجرة ذات الحجم العادي الى زنزانتين, كان بوسعه ان يستمع الى السعال الذي لا ينقطع الصادرمن حجرة جاره. لم يكن قد رأى الرجل قط. لكن لابد أنه كان عجوزا , عجوزا جدا. كان يقابل سكان الزنازين الاخرى على السلالم , لكن لم يكن احد يكلمه, لم يعتبره احد منهم, حتى لم يكن جديرا بمجرد نظرة عابرة. مرت الايام في توال رتيب القهوة, الشطائر بلا طعم , المقعد الخشبي في الميدان. في البداية كان يخطط كي يذهب ويشاهد كل العجائب التي بهرته صورها في الكتاب , لكنه ما فتأ يؤجل الامر الى اليوم التالي ثم الذي يليه ثم الذي يليه. حتى بدأ يؤمن في النهاية ان الكتاب كان يتكلم عن مدينة مختلفة تماما. وليس المدينة التي وجد نفسه فيها وهو لا يعرف لماذا اتاها؟. لم يذهب لاي مكان . كانت ضوضاء المدينة الكبيرة ترعبه.

كان يبكي في الليل. خلف الجدار الفاصل , كان جاره الخفي يسعل , ويبصق , ويتنحنح , ويلعن. ذات ليلة اخذ الجار يدندن مع نفسه اغنية من اغاني رعاة الفولاني. انتفض عليم واقفا على قدميه وهرع للجدار الفاصل الرقيق ودق عليه. واندفع كعاصفة هوجاء خارجا من غرفته , ,اخذ يطرق باب جاره وكأنه فقد عقله تماما!

فتح الباب ,ليكشف عن رجل عجوز له عينين منتفختين. كاد عليم ان يلقي بنفسه على الرجل وانتهى به الامر الى ان طوق عنقه بذراعيه,مبللا وجنتي الرجل بدموع الراحة والالم . وياله من الم. ربت العجوز على كتفه مواسيا. ظل يردد له بصوت هامس اجش لا عليك لا عليك .

امضيا الاسبوع التالي معا,كل صباح كانا يذهبا معا الى الميدان ويجلسا لمدة ساعة على المقعد الخشبي. ثم يذهبا الى الحانة على الناصية. ويطلب عليم قهوة يرشفانها ويتكلمان. عند الظهر , يذهبان الى الحانة على الناصية المقابلة وهناك يطلب عليم جعة وشطائر لا طعم لها. فيأكلا ويتحادثا. بعد الظهر يجلسا مرة أخرى على المقعد الخشبي في الحديقة الصغيرة , اخبره العجوز انه قد اتى الى لندن منذ 30 سنة. كان يكسب دخلا جيدا من خلال كنس الشوارع. ثم اصيب بالدرن وهو الآن على شفا الموت.

أكد عليم " وأنا ايضا" كان يبحث عن الرفقة و الحميمية و المشاركة فأكد" أنا ايضا على وشك الموت بالدرن" وأدرك ان هذا قد يكون صحيحا فأردف" كل شيء في جسدي يؤلمني , رأسي , معدتي, ذراعاي , قدماي كل شيء. ولكن أشد الالم هنا" ووضع يده على صدره.

تفرس الرجل العجوز فيه مليا بحنان غير معتاد . وأخيرا قال" هذا ليس الدرن" و استمر " أنه مرض آخر" اراد عليم ,الذي كان قد اوشك على اتمام الدراسة الثانوية و يعرف اسماء العديد من الامراض , ان يعرف اسم المرض .

فما كان من العجوز الا ان اخبره.