Friday, July 27, 2007

8-اغنية جزائرية حزينة


أغنية جزائرية حزينة

ياسمينة صالح- الجزائر


تفتح المدينة نوافذها على صباح من الدخان..تتبختر
الكآبة في الشوارع والطرقات..الوقت يتكرر ببلادة على
الساعة الجدارية الجاثمة وسط شارع المدينة الرئيسي..

دوريات العساكر تعبر الشوارع الخالية إلا من رائحة
الحرب و الفوضى المتراكمة على حدود الكلام،في مدينة
أعلنت حالة الطوارئ على ذاتها..
كان "البشير" جالسا قرب منزله..يرتشف قهوة صباحية
خالية من البهجة..بينما مذياعه الصغير يبث بيانات
عسكرية تدعو إلى الهدوء و الصمت..كان حزينا، بيد انه
لم يكن يدري لماذا هو حزين كل هذا الحزن ؟ لقد عاش
حياته يتمنى و يحلم بالنهوض..النهوض الذي يعني
ببساطة التغيير الجذري و الفاعل..
عندما وقف ذات "1962" أمام قبر رفاقه، لم يذرف دمعة
واحدة..قرأ الفاتحة و ………….
-استرجعنا الجزائر يا رفاق….
قالها و مضى ..مضى إلى الغد..
بالنسبة إليه، كانت الثورة عملا نضاليا لا يكف عن
الوجود و عن العطاء والتضحية..لم يكن هنالك شيء
اسمه"الارتجالية" في منطق الواجب إزاء الوطن..كل شيء
كان يجب أن يكون امتدادا للوعي القومي الذي صنع
شهداء يغطون وجه الشمس..
لا يذكر كيف مر الوقت..كل هذا الوقت..
لكنه يذكر أنه انتظر طويلا ..بصبر مدهش..انتظر الغد
الآتي..
يذكر جيدا ما جرى بعد الاستقلال..بالضبط عندما اكتشف
–شيئا فشيئا- الخيبة والشعور بالانحراف..
في صيف "1965"،زار صديقه "العربي"..لم يزره بمحض
إرادته، بل بدعوة ملحة من هذا الأخير..كان يحب
"العربي"..و يحترمه..و يصدق إيمانه بالجزائر أولا و
قبل كل شيء..هذا ما جعله يذهب إليه، و يدخل مكتبه
بشوق سنوات النضال، و الكفاح المشتركين..
لكنه، اندهش و هو يكتشف الاستقبال الفاتر الذي خصه
به صديقه القديم، لولا ابتسامة متقنة، وسؤال مفتعل
عن الصحة و الأهل و………..
الحزب لا ينام على أذنيه يا" سي البشير" ، و هو يملك
أسماء كل المعارضين لمسار الثورة….
صعق..لم يصدق ما سمعه..
معقول؟
اقشعر بدنه..نظر حوله..
معقول؟
يقول له- هو- هذا الكلام؟
هو الذي كرس شبابه لأجل الثورة، و الوطن، و الحال
أنه رفض تقلد المناصب كي لا يسيء إلى أحلامه
الحميمة،إزاء الوطن و الناس..كل الناس….
معقول؟
و "العربي" من يقول له ذلك؟
حتى كلمة (صديقي) بخل بها عليه..استبدلها ب" سي
البشير" و كأنه لم يكن رفيقه عبر مسالك "الأوراس"
الوعرة..كأنه ليس هو من حمله جريحا و عبر به خط
"موريس" المكهرب..
شعر بالبرد، بينما "العربي" يرمقه بنظرة شزراء..
في تلك الصائفة، اكتشف أنه خسر أشياء كثيرة، و أن
الثورة التي غذتها أرواح الشهداء قابلة للمساومة، و
التعليب ..
كان يدرك أنه محق في قناعاته تلك كلما بعث "العربي
"وراءه، كي يوبخه و يهدده باسم حزب لا ينام على
أذنيه..؟
منذ البدء، عرف أنه يملك قوة إضافية، لم يتردد في
استغلالها..
أبناؤه..
انتظر طويلا اليوم الذي فيه يرى نتيجة صبره..
كبر الأبناء، و هو يرفل بحلمه الحميم..
لكن الانكسار حدث..رحل ابنه البكر إلى "فرنسا" بحثا
عن عمل..
فجع..و الحال أن فجيعته تلك نابعة من إحساس باغته،
بأنه فشل في إيصال الرسالة إلى ابنه البكر..كانت
الهجرة، إلى فرنسا..فرنسا بالذات، تشبه هزيمته
الشخصية،
و مع ذلك..ظل متمسكا بأمله، و بابنه الأصغر"كريمو"..

-كريمــــــــــــــــو..
خفق قلبه..مص سيجارته، و اقرب فنجان قهوته من
شفتيه..لم يرجع "كريمو" منذ بداية الأحداث..يذكر أنه
لم يمنعه من الخروج عندما قرر الالتحاق
بالمتظاهرين..بل انه يعترف بينه و بين نفسه أنه سر و
ابتهج..
في عيني صغيره قرأ ما تمنى قراءته..
رفع رأسه إلى السماء..رأى الغيوم تتكدس حاجبة
الشمس..
عرف بحاسته أنها ستمطر..
ستمطر كما لم تمطر أبدا.

Friday, July 06, 2007

الجثة محمد عزيز المصباحي المغرب7-




الجثة
محمد عزيز المصباحي المغرب
- 1 ـ الخمرة ابنة كلب يلعب بذيله.اخترعها رجل ليتخلص من وعيه اللصيق بذاته، واخترعها آخر ليقوّم اعوجاجا ما في خلقة دماغه. بها أغسل أعماقي كلما أحسست بتلوث الأعماق. قد لا أتذكر الكأس الأولى لهذا المساء الكئيب ولا كم من كأس ومن وجه وكلمات ومن مرايا وسجائر وسباب فاجر... المهم إني سكران كما يجب، أحاول جاهدا فتح باب غرفتي الوحيدة ، أعماقي الآن نظيفة ومثانتي تكاد تنفجر بولا على العالم...وأتوقع، بين لحظة وأخرى، أن ينزل أحدهم على رأسي بقضيب من حديد قبل أن يسلبني ممتلكاتي، كل ممتلكاتي...كتبي الرثة وعواطفي المهشمة...أنقلها معي من غرفة إلى غرفة، أنقل الأوهام، هذا هو كل ما أفعله طوال هذه الحياة، فمن يسلبني أوهامي؟... وأخيرا انفتح الباب دون أن ينزل أحدهم على رأسي بقضيب من حديد... انسللت إلى قبر حياتي، إليه أهرب كل مساء.لاتتعجب من رجل ناضج مثلي، لازال يهرب،ولا يعرف بالضبط منْ أو ما يطارده...إن ذلك لايعدو أن يكون أمرا تافها لايستحق الاهتمام . تصور لو كانت البشرية خرساء، لها السنة صغيرة كالعصافير وتزقزق أيضا، تصور كم من مؤسسة وضريح ومشروع و... ستغلق أبوابها إلى الأبد.أنقل أوهامي وأكره الضجيج وأتضايق من أقنعةٍ، أرتديها كل صباح، ولا أضعها ولا تضعني إلا بعد أن تحترق نصفُ أعصابي. كل مساء أرجع إلى سريري بنصف أعصاب محروقة.لم أنزع حذائي ، وبدأت توا في خلع أقنعتي وزيفي، أنا رجل ناضج وزائف. كالعادة قبل أن أنام. لكن... لكني فوجئت به . بشخص غريب ممدد على سريري،هل جاء غودو أخيرا؟ اقتربت منه، إنه نائم.. هادئ. كيف دخل؟ اقتربت منه أكثر، حدقت.. إنه يرتدي ثيابي أيضا، وملامحه أليفة. كأنه أنا تماما. حركته بلطف ... ناديته..ناديته باسمي، قد يكون أنا، حركته بعنف..كان جثة بلا روح، ربما مات حتى لايحرجني أو أحرجه. لابد أن أتخلص منه . أريد أن أنام. فكرت في ليلة من ألف ليلة وليلة، صببت في فمه بقايا قنينة من أسفل السرير. وتحاملت، وحملته إلى الشارع، كانت الجثة ثقيلة. لم أكن أتصور أن تكون جثة ميت ثقيلة بهذا الحجم. لاشك أن المرء عندما يموت توضع على أكثافه كل الذنوب وكل الحسنات التي اقترفها... أحكمت إغلاق الباب ولدت بالسرير. أريد أن أنام.2- لم أعد أطيق حوار البكم ولا الصم ولا العميان. هل تعرف ماذا كان يقصد بطل إحدى قصص كافكا بقوله : " إن المرء يجهل تماما ما يوجد في بيته"؟أغلق عينيك، نــم قرير العين كما ينام هوهناك. ستأكله الفئران آجلا أو عاجلا. قضيت عمرك جالسا على المقاعد الخشبية تلعق كتب التاريخ والأدب، تلعق جسد رجل كهل ملتحٍ تخرج الحكمة من فمه كاللعاب. تلعق لعاب رجل ناضج وزائف وسكير أيضا. ..ومع ذلك لم تصب بلوثة ولا بسكتة مفاجئة.لا تحفل به، اقضم عواطفك وانهش عرض كل من يعترض أحلامك. ولنفرض أنها جثتك أنت وقد نسيتها هذا الصباح، لقد كنت مخمورا. أو هي جثته هو ويتعمد أن ينتحلك؟ ؟إنه مثلك تماما، يأتي دائما قبل الوقت أو لا يأتي إلا بعد فوات الأوان. أتذكُر، يوم جئت لأول مرة، قبل ألأوان، فسقطت توا في عشق دمية متحركة،ولم تقم منها إلا وأنت ساقط، مرة أخرى، في حضن أمة مراهقة. تسري الغواية في مجاري أفكارها وإبداعها ولغاتها وأفعالها..في فقرها وغناها...في هذه الجثة التي سبقتني إلى السرير. في بشاعة عضوها التناسلي. في الأب العاقل جدا، المتزن دوما، الذي يتربع على عرش عقلها.نم، ياحبيبي، قبل فوات الأوان، قبل أن يصاب لسانك بتقلص عضلي وينهار الدماغ. ومرة، قبل فوات الأوان،طبعا، نزحت من بادية موحشة ، تبحث عن شخص أوصوك به خيرا، عرفت فيما بعد أن ذلك الشخص هو أنت بالذات. أمرك مضحك. لابأس. المهم أنك توقفت الآن عن البحث عنه...ألا يمكن أن يكون هو ذاك الذي طردته منذ قليل؟ إنك تطارد نفسك كلما وجدتها متربصة بمكان مـّا.. تطارد سحليتك، وترسم أشباحا وأجساد خفافيش وضفادع سوداء... وتحلم أن تسحق بكفك سحلية صغيرة، صفراء، لتنبع من بطن الكف عين حليب من أجود أنهار الجنان... وما أكثر السحالي الصفراء في هذه المدينةالحمراء.أريد أن أنام.سأبول ثم أنام.وأنا أبول، وجدت نفسي واقفا على عدد كبير من كتبي السحلية الصفراء، وأنا أبول على البيان والتبيين وعلى الجاسوس في نقد القاموس وعلى ألفية ابن مالك وبائية ابن هالك، إنها كتبي، وأنا حر، أقرأها أو أبول عليها، وعلى أفكاري وأيامي وكلامي...فلن يتغير أي شيء في هذا العالم ....3 ــ ونمت قرير العين.أفقت مذعورا، طارت ابنة الكلب من الرأس، سمعت همهمة ثم آذانا وبلاغة ووقع أقدام أصيلة، تضرب الباب بقوة...قفزت إلى الأرض، تمددت أسفل السرير ونفسي تحدثني بشر. كُسّر الباب ودخل أربعة رجال طوال ذوي سحنات صفراء ولحي طويلة، يحملون جثتي، رموها بلامبالاة فوق السرير، وهم يشتمون، شرب الكلب حتى نسي نفسه ... ثم سمعت ابن رشد يقول: "... ورغم أني كما ترون ممثل بارع، فقد ترجمت كلمة "كوميديا" بالهجاء وترجمت كلمة "تراجيديا" بالمدح.. .وخرجت من باب واسع ". وحكى أبو حيان قال: "...ونزلنا عن دوابنا في دار ابن برثن نتنسّم الشمال، إذ أقبل علينا ابن المقفع، فقال: أي الأمم أعقل؟ فظننا أنه يريد الفرس، فقلنا: فارس أعقل الأمم، نقصد مقاربته، ونتوخى مصانعته. فقال: كلا، ليس ذلك لها ولا فيها ... فقلنا: الروم. قال: ليس ذلك عندها .. قلنا: فالصين،،، فالترك،،، فالزنج،،،فالعرب،،، قال: ما أغباكم.....ليس هناك أمة عاقلة على الإطلاق ..." وسمعت رابعهم يسأل: من أشعر الناس؟ قالوا: من؟ قال: " أشعر الناس محمود درويش إذا ركب ومحمد بن طلحة إذا شرب والمتنبي إذا طمع وشاكر السياب إذا تحركت أمعاؤه". ضحكوا حتى بانت أضراسهم الصفراء ثم خرجوا يهرولون.ومنذ تلك الليلة وأنا، هنا ملقىً على أرض باردة مهجورة، لاشيء يربطني بها سوى غواية الالتصاق بها ....- 4 قـــــــتــــلــتـــــــــني الجثـــــــــــة.