هذه الحكاية هي مدخل لعالم التصنت وتعريف به
إذا فُتح موضوع التنصت فى دكان الترزى المعروف بـ ترزى الشباب أو الإنسان منا سيترك الطاولة التى يفرد عليها القماش وسيترك الماركة التى يصنع بها العلامات قبل أن يُعمل المقص ، ولسوف يطفئ السيجارة بعصبية على أرضية الدكان حتى لو لم يكن قد أخذ منها سوى نفسٍ واحد ثم يبصق وكأنما ليكمل إطفاء زهرة النار ويسحق العقب ثم يخرج حذراً إلى الطوار أمام الدكان يمط رقبة طويلة كرقبة الكركى ويشعل سيجارة أخرى ثم يترك الدكان للصبيان والشباب الذين أسمى دكانه باسمهم ويذهب .
ربما ليشرب كرسى دخان ( رغم أنه من مدخنى السجائر ) أو فنجان قهوة مرّة بدون سكر ( الإنسان منا يحتاج بين حين وآخر لفنجان قهوة يهدّى أعصابه ولا إيه؟ هو الإنسان منا مكنة ولا إيه؟ )
ولأن رواد الدكان دائماً فى سن الشباب ولأنهم دائماً يتعجلون التفصيل والمفُصل فإنهم يجالسون الترزى وصبيانه من باب تسليتهم وكذلك لاستعجالهم ، فإذا تركه صاحب قماشة نّحاها جانباً وأمسك التى تخص أحد الجالسين وأكثرهم تعجلاً أو أكثرهم مالاً أو سلاطة لسان ، هذا كان فى الزمان الذى مضى وليس ببعيد أيام المنطقة الحرة ببور سعيد وأيام كان الشغل على ودنه … كل أصحاب الصناعات البائرة من حدادين ونجارين ورجال معمار وكذا النشالون وصبيان السائقين وكل من هبّ ودبّ عمل بالتهريب وامتلأت الدور والشقق وعتبات البيوت وأرصفة الشوارع بالأقمشة والملابس والصابون والعطور … كانت الأشياء رخيصة وكان الشباب يساير الموضة أما الآن فقد تحّول الدكان إلى مكان شبيه بالمقهى ، فهو الوحيد الذى يسهر ونوره النيون هو الوحيد الذى يضئ بطول الشارع الكبير بالبلد . أين سيذهب الشباب إذاً بعد إغلاق المقاهى؟ يجلسون ويتبادلون السجائر وأكواب شاى السبرتاية ويتحدثون .
وليس ربما بل حتماً ولابد أن تقود الأحاديث دائماً للتنصت والمتنصتين يبدأ الحديث هكذا مثلاً إدريتوا حصل إيه أمبارح؟ فيذكرون إسماعيل الجبرى ضابط البحرية وزوج السمراء اللذين يسكنان بالدور الأرضى بجوار مقام الشيخة آمنة بنت يوسف الأحمدية ، ويمتد الحديث للحارة التى ضبط فيها ترزى الشباب وهو يسترق السمع ويتنصت على تاجر البطيخ .
وفى عرف المتنصتين فإن هذه الحارة تتمتع بميزات عديدة أولاها أنها حارة سد لا تقود إلى شارع آخر أو حارة أخرى ، وبذا فالقدم عليها معدومة ، وثانيها امتداد لأولاها ، فلأنها سد وليست مطروقة من الممكن ان يتحجج الإنسان منا ويزعم أنه يقضى حاجة عرضت ولايحتمل السير للجامع القريب ، وثالثها أن هذه الحارة دائماً غارقة فى ظلام دامس ، لأن سكانها فقراء وشراء لمبة كهرباء يحتاج إلى اقتراحات وموافقات على الحجم والنوعية وكم وات ، ومن أى دكان يشترونها وهكذا ينتهون لبقاء الحال عل ماهو عليه ، ورابعها أن سكان الحارة فلاحون ( عدا الشيخ عبيد الكفيف ومقرئ الجامع المجاور ) يشقون طوال النهار ويتعبون فنومهم ثقيل ولا يحتاجون إلا نور الله فى الفجر ، أما ليلة أمسك عبيد بتلابيب الإنسان منا فكانت سقطة من الترزى المتنصّت لأن الوقت كان صيفاً والحرُّ بطبعه يبعث القلق فلا استغراق فى النوم لدى الفلاح الذى لابد له فى الصيف من السهر ، فإما حصاد قمح فتذرية ثم تخزين الغلال وجمع الأتبان ثم حراثة فسقاية الأرز بعد القمح ، وهرباً من التزاحم على الآلات والجرارات والماء (كم راح شهداء أثناء العراك على دور الساقية ) وهذا يحتاج نسمة الصيف اللينةّ قبل صهد النهار ، كذا فإن طلاب المدارس وهم عدة جيش المتنصتين ومنهم عرف الإنسان منا جغرافيا النساء الغانجات ، يتحججون بحر البيوت فيخرجون لاستذكار دروسهم اسفل أعمدة النور فى الشارع ، ففى أول الصيف تكون مواسم الامتحانات ، وفى الوقت الذى نشن فيه الترزى لدى مرور تاجر البطيخ وبحساب ساعتين يقضيهما برفقة زملاءه من الحشاشين ، وحين يكون عل وشك الولوج للبيت ، كان الإنسان منا فى ركن ركين متخذاً موقعاً استراتيجياً حتى سمع التاجر الحشاش ، بعد أن خلع هدومه ، يغازل حلاله نعيمة ثم يمسك أردافها المكتنزة البيضاء ويبدأ فى تسميع الشريط الذى حفظه طلاب المدارس والذى لقنوه للترزى فقاده مرات ومرات للتنصت (كآفة أو داء تملّكه ولا يستطيع للآن منه فكاكاً) وهنا فى هذه الحارة بالذات.
يتحسسن التاجر الأرداف ويقول الطيز دى ملكى لوحدى يا نعيمة؟ ملكك يا سليم! يعنى ماحدش بيشاركنى فيها؟ لأ يا روحى ويبدآن .
هذه المرّة لم يكد الإنسان ينتعظ ويبدأ فى الاندماج مع الحدث وكأنه الممارس (على فكرة شكت زوجته من هجرانه فراشها فشكرت ربها على أعطياته ولداً وبنتاً وظنت أنها العنّة فلبست النقاب وارتادت المساجد مع المتطرفين ).
نقول إنه لم يكد ينتعظ حتى أمسك عبيد الأعمى بتلابيبه وانطلق جؤار فظيع فجر ذلك اليوم جؤار لاتسمعه إلا ممن يطلبُ نجدةً أو إسعافاً فلابد أن حريقاً بشعاً بادئ فى الاشتعال أو أن قتلاً وتربصاً حدث منذ ثوان ، وهكذا التم الناس أنصاف عرايا يرتدون الملابس على عجل أو سحواً حتى إذا عرفوا رؤوس المواضيع انتبهوا إلى أن نسائهم خرجت محلولة الشعر أو بملابس خفيفة تفضح عريهن فيزجرون النسوة ويدخلون لتغيير الهدوم وهم يصبون اللعنات على المتنصّت وقليلُُ منهم يفتح باب الشك فى أن عبيد ظنان ويتهم الأبرياء ويجعل مافيه فى الناس ، فلا يغيب عن أحد حوادثه فى الزنا واللواطة أيام الكلية التى لم يتمها بعد أن مكث فيا سنين عدداً ثم توظف بالثانوية الأزهرية ، ولاتغيب عن الناس طريفة من طرائفه إذ أن عمه الثرى والذى يكفله ، دائماً يقيم سهرةً فى رمضان يقرأ عبيد ما يحفظ من كتاب الله وتقدم المشاريب من شاى وقهوة محوجةّ وقرفة حتى يمر المسحراتى فيتسحر الحضور ثم يمضون لصلاة الفجر جماعة ، وياكم لامه الأقرباء والتقاةُ من أهل الحىّ أن عبيداً نجسُُ ثم إنه لا يحفظ الكثير من القرآن ويلحن فى القليل الذى يحفظ ، لكنه كان يردهم خائبين من باب صلة الرحم وأنه أولى من الغريب وعز التمر لأهله ، حتى كانت الليلة التى نزا فيها على فهيمة الخبّازة ( خبزة العيد فى العشر الأواخر التى ربما ضمّت ليلة القدر ) ولم يستطع أن يرفع جنابته وخشى أن يقرأ القرآن وهو على جنابة فتلعنه الملائكة فهداه شيطانه إلى تلحين رباعيتين من الخيام لحناً قرآنياً ( إن تفصل القطرة من بحرها ، ففى مداه منتهى أمرها ، تقاربت يارب ما بيننا ، مسافة البعد على قدرها ، يا عالم الأسرار علم اليقين ، يا كاشف الضر عن البائسين ، عدنا إلى رشدك فاقبل توبة التائبين )
فى اليوم التالى عاير عمه اللّوّام ما رأيكم إن الشيخ قرأ بالأمس سورة لم أسمع بها من قبل وليتكم حضرتكم لتستمتعوا بجمال صوته ثم بعد هذا تدّعون أنه لا يحفظ من الكتاب إلا القليل والله لأكسونّه فى العيد كسوة ليست على بدن شاهبندر التجار أو شيخ الأزهر .
هؤلاء الذين شككوا فى مصداقية عبيد هم الذين حسموا الخلاف لصالح الإنسان منا فبعد مناقشات ومداولات نروح المركز … نبلغ أهله … نفضحه قدام عياله والناس … هاتوا مراته وأمه وآخرون هوّ أنت؟ تفو !
انحسم الصراع مكتفين بما ناله من ضرب ولكم وركل وفضح وبصاق وأطلقوه..
ولابد إن فتح موضوع التنصت إذاً ، أن يبادر إلى طوار الدكان ويمط رقبة الكركى ويدخن سيجارة أخرى قبل أن يصل الحديث لتلك الليلة الليلاء فى حياته التنصتية التى امتدت بعد ذلك ولا ينسى عند عودته فجراً وقبل أن يتسلم الشغل الذى أنجزه الصبى أن يسأله من بعيد عما حكاه الشباب عن النساء المتهتكات كانوا بيقولوا إيه أولاد الكلب دول؟
2 comments:
الحكاء يقدم في حكايته الاولى تعريف عملي للتصنت بعد التعريف النظري في المفتتح ويتنقل مثل الراوي الشعبي في الهلالية بين شخصيته الرئيسية في هذه الحكاية الخياط الشهير بترزي الشباب او الانسان منا وهو اللقب الذي حازه بجدارة نتيجة لازمته المفضلة التي يستخدمها دائما للتعبير عن انتمائه العام للجماعة البشرية وربما لينفي عن نفسه صفة فرد الجماعة الوطيفية اي ذلك المنتمي لجماعة تؤدي وظيفة ضرورية ولكنها محتقرة
الشباب يحتاج للانسان منا والانسان منا يحتاج للشباب ليس فقط لنقودهم ولكن ايضا لحكاياهم التي يستمد منها ذخيرته سواء للمعرفة والتطلع للفعل او كذخيرة للخيال ان عز الواقع وصعب بعد الفضيحة المستورة
وكما الراوي الشعبي يضفر احمد حكايا اخرى في نسيج الحدوتة منتقلا من الانسان منا الى من ضبط الانسان منا
او الشيخ عبيد الاعمى وبالرغم من
نمطية الشخصية وتكرارها في قصص وافلام وروايات كثيرة
الا ان احمد ينجح حقا في صياغتها صياغة جديدة عبر تلك العلاقة الجميلة مع القريب
المتلحف بالدين
المفتخر بقريبه الفاشل الذي يحيا حياته ايضا في ازدواجية جميلة تخفف عنه قسوتها
ومن قصة التصنت ندخل في قصة تأليف النص المقدس وتلحينه للهروب من عقوبة المقدس
نسيج مذهل وتفاصيل دقيقة ومرعبة تصل بنا الى صورة واقعية شديدة التأثير ومع ذروة المقفيننعرف ان الحل لن يكون دراميا او مأساويا وانما الحل في شكل الستر الجميل وتمضي الحياة ويستمر المتنصتون ويعود الانسان منا ليسأل عما فعله وقاله ولاد الكلب...
الا صحيح يا احمد كانوا بيقولوا ايه؟؟
مش ممكن يا احمد رصد رائع
ايه الحلاوة دي ؟؟؟
وربطك الخاص بالعام ورؤية الواقع المحلي الصغير جدا في اطار ارحب رائعة
دمت لنا مثقفا متذوقا وناقدا لماحا
Post a Comment