استغرقت رحلة الحافلة الى الصخرة العظمى في قلب استراليا طوال الليل. سافرنا اولا عبر صحراء انجوس داون حيث ظللنا طوال ثلاث ساعات لا نرى شيئا غير شجيرات معروقة حولها بقع من العشب المتآكلة. ثم عبر مزرعة الاغنام في كرتن سبرنجز حيث لا يوجد اي دليل على وجود اي حياة الا ظهور طيف غير محدد لشجرة منفردة في ضوء القمر بين الفينة والاخرى.هل يوجد اي انسان يعيش في هذا الفراغ القاحل؟ ورغم ان الحافلة لم تكن خاوية الا ان الخواء المحيط في الليل البهيم جعلنا نشعر كما لو اننا رواد فضاء في سفينة فضاء تتحرك بلا هدف محدد في ارجاء الكون المتسع واقرب نقطة حياة تبعد عنها آلاف السنين الضوئية.
جلس خلفي ثلاثة مدرسون امريكيون يعملون في الفلبين, شاب طويل نحيف له سحنة يهودية كان الآخران يناديانه بول , وشاب سمين بعض الشيء اخذ الصلع يضرب في رأسه اسمه دان وشقراء فاتنة صغيرة القد اسمها تلوبيا و مثل كل الامريكيين شغلوا ضعف المساحة التي كانوا يحتاجونها فعلا, ووضعوا امتعتهم على ثلاثة كراسي اخرى ومعها اقدامهم. ومثل كل الامريكان كانوا يتكلمون بصوت عال لدرجة ان كل الحافلة كانت تصغي لكل كلمة يتفوهون بها.
كان النحيف الطويل هو الذي يتكلم في معظم الاحوال . كان من هؤلاء البشر الذين قرأوا كل شيء و يعرفون كل شيء ويريدون أن يخبروا الجهلة من بني البشر الآخرين بكل ما يعرفوه وهم على يقين ان هؤلاء لن يفقهوا شيئا رغم كل المجهود الذي بذلوه.تكلم اولا عن السمك, وهوموضوع غريب حقا بالنظرلان اقرب نقطة ماء كانت على بعد ما لايقل عن200 ميل .كان يعرف كل شيء عن اسماك استراليا. وكيف تستطيع السمكة النبالة ضئيلة الحجم ان تقذف بنقطة ماء الى مسافة مترين في الهواء , فتصيب ذبابة طائرة. وكيف ان تلك المخلوقات الصغيرة الحجم لها عادة غريبة هي التصويب على السجائر المشتعلة التي يدخنها الصيادين واطفاءها.
كان الآخران مهتمين بما يقوله بول اهتماما غير عادي . وكانا يتعجبان من كل شيء"لا , غير معقول" " لا, تقل هذا" " لا, مستحيل"
ثم انتقل بول للحديث عن السمكة التي تنتقل عبر الطمي في ولاية كوينزلاند, والتي تستخدم زعانفها كزحافات عند حدوث الجذر وانحسار الماء , وتتسلق الاشجار حيث تصطاد الذباب والعناكب وغيرها من الهوام!! وتستطيع تلك الاسماك اخراج عيونها من مقلها ولفها في كل اتجاه. لكن بول كان يرى ان اكثر اسماك استراليا غرابة هي السمكة زرقاء العينين التي لولاها ماكانت قناة بنما قد شقت ولا انتهت.
عند هذه الكلمات كان معظم الركاب في الحافلة يصغون بانتباه وينصتون لحكايات بول, حتى السيدة العجوز التي كانت تجلس خلفنا اشرأبت بعنقها لتصيخ السمع للحدوتة. استمر الامريكي الطويل النحيف قائلا: إن السمكة زرقاء العينين تتغذى على بيض الناموس. وعندما اكتشف علماء الحشرات هذا الموضوع نقلوا بعض من الاسماك زرق العيون الى نهر التيبر في روما وفي بضع سنين تكاثر السمك حتى انه قضى تماما على الناموس .وهكذا قضي ايضا على الملاريا.في هذه الآونة كان الامريكيون يحاولون شق قناة بنما وبدا الامر شبه مستحيل حيث كان العمال يصابون بالملاريا باستمرار. وهكذا جلبوا السمكة زرقاء العينين , وفي لحظة انتهت الملاريا , وانتهى حفر القناة. وهكذا يعترف المتخصصون بفضل هذه السمكة التي لولا عونها لما امكن انشاء القناة.
وعندما انتهي الامريكي النحيف من السمك , انتقل الى الحيات, ولكن في نفس اللحظة تقلقلت الحافلة و اهتزت و سقط بعض الركاب من مقاعدهم من شدة الصدمة. وبسرعة توقف كل شيء حتى صار بوسعنا سماع صفير الريح في الخارج تتخلل وريقات الشجيرات القليلة على الطريق.وعلى صوت بول وهو يسأل السائق ماذا حدث وهل اصيبت السيارة بعطل مفاجيء وهل هناك ميكانيكي على متن الحافلة؟
رد السائق ببساطة ان الحافلة على ما يرام وان كل مافي الامر انه نسى ان يضع وقودا في الخزان قبل مغادرة محطة الانطلاق في اليس سبرنجز . ليس امامنا الا الانتظار الى حين مرور الحافلة القادمة من الاتجاه المضاد, وربما نستطبع ان نأخذ منها بعض الوقود يكفينا للوصول الى اقرب محطة. ختم السائق كلامه قائلا ان هذه الحافلة ستصل عندنا في غضون 3ساعات.ويمكننا ان نحتسي الشاي ونحن ننتظرها.
خرجنا من الحافلة بنظام . كانت الليلة مقمرةولكن كان ثمة احساس بعتمة اشد من ضوء القمر
انهامن تلك الليالي التي نمضيها عندما نكون في احراش السافانا او سهول الإستبة.لايوجد شيء يمكن للمرء ان يراه على مدى البصر سوى نقطة اللقاء الغائمة بين الارض والسماء.
كان بالقرب منا بضع بقع من الحشائش المتناثرة وكأنها كلاب ضالة تهيم على وجهها في كل مكان بلاهدف سوى البحث عن الماء والغذاء . وكانت الريح تهب على السهل شديدة البرودة. حتى ان الجميع احس بقشعريرة البرد تجتاحه بعد لحظات من نزولنا.
عاد المسنون من الركاب للحافلة و لفوا حولهم الاغطية التي جلبوها معهم. بينما التف الباقون حول السائق في انتظار ان يوقد موقد الكيروسين الذي يحمله ويعد الشاي الذي وعدنا به.
كان الامريكيون الثلاثة غاضبين من التوقف المفاجيءفي وسط اللامكان . وما فتيء بول يغمغم :كيف يمكن ان ينطلق سائق في رحلة لمسافة 500 كم ولا يتأكد من امتلاء خزان الوقود؟ مثل هذه الاشياء لا يمكن ان تحدث في الولايات المتحدة. أمنت تلوبيا على كلامه قائلة: لايمكن ابدا. واكد دان: هذا امر لم ار مثله قط وهوشيء مخجل في الحقيقة.
سألوني هل استراليا بلد بدائي جدا و غير مسكون مثل تلك المناطق الداخلية؟ طمأنتهم انه توجد على الشواطيء الشرقية و الجنوبية مدن حيث الحياة امريكية اكثرمن امريكا ذاتها. تنفس بول الصعداء : الحمد لله. وسرعان ما اضاف الآخران: ارجو الاتفهمنا خطأ . نحن نحب هذه البرية , الامر وما فيه اننا كنا نتوقع شيئا مختلفا.
لم يكن خزان الوقود في الحافلة هو الخزان الوحيد الخالي من الوقود, فقد نسى السائق ايضا ان يملأ خزان الموقد , كان كل ماجلبه هو الماء. لكن كيف يمكننا عمل الشاي دون غلي الماء اولا؟ وكيف يمكننا غلي الماء؟ فرك السائق يديه وقال" حسنا ايها السيدات والسادة الى العمل. فالجو شديد البرودة وكلنا يحتاج الى بعض التمارين لنسخن. دعونا ننتشر ونجمع الحطب و نشعل نارا تدفئنا ونغلي عليها الشاي".
صعد بعض الركاب الى الحافلة دون ان ينبسوا ببنت شفة. لكن معظمنا انتشر في المكان بحثا عن الحطب . لم يكن هناك الكثير لنجده. اخذت في الابتعاد عن الحافلة واستغرق الامر قرابة النصف ساعة كي اجمع شيئا ذا قيمة. عندما قررت العودة وجدت انني لا استطيع رؤية الحافلة. وللحظة برقت في ذهني فكرة مرعبة, لقد استأنفت الحافلة طريقها وتركتني وحدي في هذا المكان القفر.ثم رأيت جذوة من نار تشتعل غير بعيدا عني على مسافة نصف ميل تقريبا. يبدو ان الآخرين كانوا اسرع مني .
تحرك شيئا ما بين الشجيرات القريبة, شيئا ابيض اللون.وسمعت حفيف اوراق . اعتقدت ان ثمة وحش مفترس يتأهب للقفز علي , احد هؤلاء المخلوقات الغريبة التي كان الامريكي النحيف يحكي عنها , وكنت على وشك اطلاق صرخة.ثم سمعت تأوه خافت لامرأة تتألم. وتبينت ان ثمة قطعة قماش ابيض على الحشائش بالقرب من الشجيرات. عرفت في هذه القطعة البلوفر الذي ترتديه تلوبيا. ظننت لاول وهلة ان شيئا قد حدث لها , وخصوصا انها كانت مستلقية على ظهرها تتأوه باستمرار. توجهت نحوها لارى ان كانت بحاجة للمساعدة. لم تكن بحاجة لمساعدتي فقد كان ثمة شخص آخر يساعدها باخلاص شديد.
عندما عدت للحافلة وجدت النارمشتعلة و الماء على وشك الغليان.و انبثق عدة ركاب آخرين من وسط الظلام, وكان من بينهم بول الذي جلب معه حمل كبير من الاغصان الجافة يعلم الله من اين اتى به. رحب السائق بالقادمين قائلا " بالأكيد لن يحس اي منا بالبرد"
وأخيرا وبعد 10 دقائق اخرى وعندما كنا نرشف الشاي و نحملق في شرارات النار المتراقصة,
وصلت تلوبيا ومعها دان وهما يحملان بضعة تويجات من الاوراق والقليل من الحشيش الجاف. واخذا يتأسفان لانهما لم يجدا الكثير رغم بحثهما الدؤوب. و ابديا اعجابهما الشديد بالكم الهائل الذي جمعه الآخرون.
تحلقنا حول النار نتأملها ونشرب الشاي و بدأ بول يحكي لنا عن السحالي العجيبة المتوافرة في استراليا : عن السحلية الطائرة التي تقفزمن شجرة لاخرى , وعن الشيطان الصغير الذي ينبح ككلب عندما يحس بالرعب, وعن السحلية الحلقية التي تتحرك علي رجليها الخلفيتين وكأنها تركب دراجة وتغير لونها ليتناغم مع لون الارض التي تجري عليها.
تساءلت سيدة مسنة كم مرة زار فيها الشاب العلامة استراليا ام هو عالم حيوان؟
ضحك بول"لاهذا ولا ذاك" . وتابع " انا مدرس رياضيات. انا فقط مهتم بهذه الامور . ويجب ان اعترف ان هذا الاهتمام له اسباب عاطفية . فأسم زوجتي هو الاسم اللاتيني للزهرة الاسترالية التي يسميها السكان الاصليون واراتاه. الشجرة يصل ارتفاعها الى مايقرب من ثلاث امتار وتحمل حوالي 50 زهرة حمراء. وهناك اسطورة لطيفة يحكيها السكان الاصليون لتفسير نشأتها. ففي زمن بعيد خيالي , عاشت فتاة جميلة ماهرة صنعت لنفسها حلة من جلد القنغر الاحمر و زينت هذه الحلة بحلية قرمزية من ريش الببغاء. وكانت تلبس هذه الحلة كل يوم وهي تنتظر عودة حبيبها المحارب الشاب الشجاع من الصيد. وكان هذا يهرع اليها ويترك رفقاءه من المحاربين الآخرين.وذات يوم كانت تترقبه على صخرة عالية فرأت سحابة من الغبار تتصاعد في الافق وسمعت صوت معركة مع قبيلة معادية. وعندما عاد المحاربون الشجعان لم يعد حبيبها معهم.وظلت الجميلة مخلصة له وتترقب عودته التي لاتحدث.و تزايد حزنها حتى ماتت وتحولت الى اجمل زهرة على الارض. فساقها طويلة ممشوقة مثل قوام الحبيب, واوراقها حادة مثل رمحه, وازهارها حمراء كقلب الفتاة. لا تعرف زوجتي لماذا سماها ابواها بهذا الاسم؟ ولكن بعد ان سمعنا الاسطورة كان علينا ان نأتي لنرى هذه الزهرة الجميلة. هذه الرحلة تمثل رمزا عاطفيا لكل منا. اليس كذلك , يا حبيبتي تلوبيا؟"
ابتسمت زوجته في خجل وهزت رأسها موافقة. ثم بدأت في رشف الشاي بصوت مسموع بعض الشيء. واستأذن دان قائلا انه بدأ يحس بالبرد. وتوجه نحو الحافلة.
نادى بول عليه " غط نفسك بسترتي , انا لا احتاجها"
بدأت النارفي الانطفاء و بدأ القمر, الذي لم نكن نلحظ وجوده بسبب السنة النار,في الظهور صافيا كعادته. وبدا كما لوكانت وجنتاه المستديرتان تخفيان ابتسامة محارب ساخر عجوز رأى كل شيء ولم يعد ثمة شيء يثير تعجبه!!!!
10 comments:
طب لما هو رايح يتفسح مع مراته .. واخد معاه صاحبه العازب ليه ؟؟
نفعه بأيه طوله ونحوله وشعره ومعلوماته الغزيرة ؟؟
فكرنى بقصة قديمة قرأتها اسمها "طربوش حسن افندى" واحلى حاجة فيها ان الراوى فيها كان الطربوش نفسه !!
آخر حاجة بأه .. سهول الاستبة دى موجودة فين يا دكتور ؟؟
الاستبة اللي هي الستبس
في افريقيا واسيا واستراليا وكل حتة فيها صحراء
حقيقي فكرتني بتعليقك بفيلم البنات والصيف
وخاصة القصة بتاعة عادل خيري ومريم فخر الدين وكمال الشناوي
حاسه ان راسى توجعنى !
من صدمة اخر القصة !
.....
انا فهمت ليش الأثنين مع قصصه كانوا دايما مندهشين ! وحقا , ولااا .. ومستحيل
بياكلوا بعقله حلاوه
بس لذيذة القصة و الحلاوة كمان
على فكرة يا دكتورة ايمان
لو رحتي عند ايماتيور حتتلاقي صدمة اقوى؟؟؟
الا انتي رأيك ايه في موضوع الاسلام في كرواتيا ومقارنته بحديث مفتي البوسنة؟؟
انا فعلا دخلت عند بلاسيبز ,,
ولكن كالعادة !
واكرر
كالعادة .. لا استطيع وضع تعليق عنده حتى بعد ان عملت لنفسى عنوان على الجوجل !
اذا كان هو مش عاوز تعليقاتى اللى على قدى .. انا اعمل اييييييييييييه
.............
على فكرة .. موضوعه .. خلانى اضحك جااااااااااااامد
وجه على بالى شىء لاااازم اقولهولك !!
بس مش هنا !
وكمان موضوعه الصوغير كمان عجبنى جددددددددا
وخصوصا انى ما شعرت بالملل من الأحداث التى تبدو رتيبة لأن طريقته فى العرض ممتة جدددددددددددا
وبس
:)
على فكرة التعليق عند ايماتيور في مدونة بلاسيبوز مبيظهرش فورا فلازم تستني عليه لم يفلتره
ومن حكم في مدونته ما ظلم
انا مستني حتقولي لي ايه وفين؟؟
د. ايمان
شكرك لمجاملتك الرقيقة ورأيك فى الموضوعين الاخيرين
على فكرة .. انا موصلنيش منك غير التعليق الاخير ده .. وتعليق آخر من كام شهر والاتنين نشرتهم طبعا .. هو انا استجرى منشرهومش يا فندم
ايوه كده يا ايماتيور خللي بالك لحسن ايمان لا ترحم
شكلى بقيت اخوف !!! وحيبقى اسمى ايمان ذات القبضة الحديدية
اوعى السرريييييييييييييييع
:))))))
يا دكتورة انتي ايمان ذات اللمسة الحريرية
صباح الفل
Post a Comment