Monday, June 11, 2007

6-الشجرة والعصافير ...ابراهيم عبد المجيد مصر


الشجرة والعصافير
إبراهيم عبد المجيد - مصر
لا يزال اليوم الأول في عيني "سالم". الشمس تحتوي السماء، الفضاء الواسع ضيقه الجفاف. الأرض أجرتها الحسك. والملاحظ قال له أن لا يتحرك من هنا فعليه تزويد القطارات بالمياه من الغراب.لم يعرف، ولا يزال، لماذا سموا هذا الجهاز بالغراب. ماسورة واسعة ترتفع عمودية لثلاثة أمتار فوق خزان تحت الأرض، تنحني عند النهاية لمسافة متر لتتصل بخرطوم من المشمع يتدلى طويلا إلى أسفل. يأتي القطار يقف جوار "الغراب"، يدخل "العطشجي" طرف الخرطوم في خزان مياهه، بينما يفتح سالم الصمام المركب فوق الماسورة لتندفع المياه من الخزان الأرضي. لكن القطارات كانت لا تزيد عن اثنتين أو ثلاثة كل يوم. ولا يتكرر حضورها أبداً ولا يتكرر حضور أي سائق أو عطشجي أتى من قبل. حتى القطار الأسبوعي الذي ينقل المياه إلى الخزان الأرضي كان يأتي دائما مختلفا وبسائق وعطشجي مختلفين: وتحت السقيفة الهزيلة المكونة من ثلاثة ألواح من الخشب يتساءل "سالم" ويفكر لماذا لا يبادله " حسان " الحديث. إنهما يتناصفان اليوم. يعمل كل منهما نهاراً أو ليلاً شهراً ثم يتبادلان ذلك. لكن حسان متجهم لا يلقي ولا يرد تحية الصباح أو المساء.أدرك سالم أن الأيام ستمضي لا معنى لها فغرس شجرة. كبرت فرأى معنى السنين، لكن ظل كل شيء حوله كما هو. الحسك لا يرتفع أو يختفي. الغراب ركبه الصدأ ولكنه لم يتزعزع. طريقا القطارات على جانبي الغراب يمتدان ساكنين إلى الأفقين. السور البعيد الذي يفصل المنطقة عن المدينة لا ينهدم. الملاحظ اختفى ولا يأتي ليتابع العمل. وسالم يعرف أن الدنيا أوسع مما حوله. إن القطارات تذهب، لا بد، إلى القرى والمدن البعيدة. إن عمله هام فالقطارات بلا ماء تحترق. وكان ما يدهشه حقا أن الشجرة التي صارت وريفه لم تجلب العصافير. الفضاء حوله واسع. وربما لا يوجد عصفور يستطيع الطيران هذه المسافة كلها، لكن ما معنى شجرة بلا عصافير أو أعشاش؟وفي صباح خريفي وجد الشجرة مقطوعة من أسفل جذعها، وساقطة فوق الأرض وقد تهشمت والتوت معظم أغصانها. انحدر قلبه ليسقط بين القضبان ويدوسه قطار ثقيل. ولأنه لم يجد "حسان" في انتظاره لم يشك في أنه قد فعلها! .كانت الشجرة، رغم أي شيء، واحة خضراء في فضاء بليد. زهت كثيرا في عينيه حين كانت تسقط فوقها أشعة الشمس وندى الصباح. رطب ظلها لحمه وعظامه. وكم ساعدته على احتمال النظر إلى "الغراب" المتوحش. ولم يشأ أن يطول حزنه. غرس غصنا من أغصانها. أقام من أفرعها الباقية كوخا ليتخلص من السقيفة المضحكة، وكان يوما عامراً بالعمل. أتت قطارات كثيرة سوداء تحمل معدات عسكرية ضخمة. حين سأل سائقا مترددا " ماذا جرى؟ " أجابه بكلمة واحدة "الحرب" وأتى "حسان" في المساء باسما.- لماذا قطعت الشجرة؟لا أحب العصافير.- لكن العصافير لم تأت.هكذا قال "سالم" الذي سرعان ما دهش لإجابة زميله ولنفسه أكثر.- وما يدريك؟ – قال حسان بلا مبالاة – أراك غرست شجرة جديدة.قال سالم في عزم وثبات.- إذا قطعتها.. قطعتك.. وهذا الكوخ لا تدخله.كان " حسان " الذي هو أقوى من "سالم" بارد الأعصاب. قال.- حتى برغم السنوات الخمس التي مضت على صداقتنا.انصرف سالم في ضيق. كيف مضت سنوات خمس بسرعة هكذا؟ ! (2)في غرفته الصغيرة فوق البيت المنخفض فكر "سالم" في أنه لم تقم علاقة بينه وبين أحد من السكان وكان قد استيقظ منذ عام على ضجة هائلة. رأى بلدوزرات وعربات وعمالا يهدمون البيوت. وسكان المنطقة يحملون متاعهم ويركبون مركبات اصطفت في طابور طويل. عرف أنه سيتم نقلهم إلى الطرف الآخر من المدينة. وأنه سيقام محل البيوت القديمة مصنع كبير للغزل. لكن أحداً لم يهدم البيت الذي يسكن فوقه. ظل وحيداً وسط الأطلال التي سرعان ما اختفت. اشتراها تجار بالنهار وسرقها لصوص بالليل. ولأن العمل يجري بالمصنع، لم ينقطع الضجيج بالليل ولا بالنهار. واستيقظ مرة أخرى فوجد المصنع قد أحيط بسور عال جعل البيت خلفه.لم يعد ممكنا للسكان، ولا له، أن يروا غير السور. لم يعد ممكنا لأحد أن يراهم. ومنذ أيام فكر "سالم" أن يهجر العمل الذي يسرق الشهور والأيام. لكنه لاحظ في عودته أن حجرات البيت صارت مغلقة بأقفال غليظة. والليلة يفكر أن ينتقل ليعيش في مكان آخر. قرر أن يعيش جوار الشجرة والغراب والعصافير! لقد كبرت الشجرة الثانية وأقبلت عصافير كثيرة تقف فوق الغراب. جلب "سالم" أخشابا وجعل الكوخ أكثر اتساعا وقوة. لا حظ أن "حسان" يقيم كوخا أيضا. نقل أثاثه القليل إلى الكوخ. فعل " حسان" مثله. قال "سالم" في نفسه: قد يؤدي هذا إلى صداقة حقيقية! لم يقدم " حسان أكثر من تحية في الصباح والمساء.صار كل منهما يمضي نصف اليوم في العمل والنصف الثاني داخل كوخه. قرر "سالم" أن يسقط "حسان" من الحساب. وإذا قطع الشجرة يقطعه بالفعل كما سبق وأن هدده يوما. وانصرف العصافير التي تأتي الآن كل يوم. أنه يغرق الأرض بالمياه. تشرب. تتقافز. تتقلب. ترقص.لكنها لا تقف فوق الشجرة. تقف فقط فوق الغراب. اشترى لها حبوبا من المدينة ينثرها فوق الأرض تلتقطها وتصوْصو وتزهو. جرب أن يروضها. يشير إليها أن تصعد إلى الغراب فتصعد. تهبط واحد أثر أخرى فتفعل. تنصرف واحدة فأخرى فتمتثل. يفتح لها كفيه فتقف عليهما متواترة. وصار بعضهما يقف فوق كتفيه ورأسه، وفي المساء قبل أن يخرج "حسان" من كوخه تنصرف.. لم يخش " سالم" عليها من "حسان". فهو – سالم – حين يعمل ليلا لا تجيء بالنهار. ولكنها أيضاً لم تكن تأتي إلى "سالم"بالليل. كان يحلم بها وهو يقظ، وأيضا في النوم. وحدثته كثيرا فقالت أن "حسان" يمضي نصف الليل الأول يلملم ما تبقى من حبوب على الأرض ويأكله.. ويمضي نصف الليل الثاني يهز الشجرة لتسقط الأعشاش.. وتضحك العصافير لأنه لا توجد أعشاش بالشجرة.. ويتعذب سالم لأنه فشل في أن يجعلها تعشش فوق الشجرة أو تقف فوق أغصانها، وتكبر الشجرة في عينيه حتى تملأ الفضاء الواسع، ثم تعود تنكمش حتى تصبح عودا جافا هشا وصوت العصافير يدغدغه فيضحك. ويتقلب في الفراش! وكثيرا ما فكر سالم أن أحدا من السائقين أو العطشجية لم يندهش له حين يراه يعمل والعصافير فوق كتفيه ورأسه. أدرك أن القطارات صارت قليلة جداً. ربما يمر الأسبوع ولا يأتي غير قطارين أو ثلاثة. وحين رأى قطارات خضراء كثيرة تمر دون أن تقف لتتزود بالمياه، ولا تنفث دخانا مثل القطارات السوداء، قال في نفسه أنهم لا بد يتخلون عنه. لكن الملاحظ ظهر قادما من بعيد فبدا طوق نجاة.. كان يعرج في مشيته. وحين اقترب رأى سالم وجهه متغضنا، وشعر رأسه الأبيض لا يخفيه " البيريه" الأسود.- أخيرا عدت يا سيدي.تلفت الملاحظ حوله.- هل صرت تعيش هنا؟- أجل.- ألا تذهب إلى المدينة؟- قليلا.. لشراء ما احتاجه فقط.- تغيرت المدينة كثيراً.لم يشعر أن سالم أن ذلك يعنيه في شيء. كانت العصافير تنتقل من كتفه إلى كتفه الأخرى ومن رأسه إلى أعلى الغراب، ولا تبدو دهشة على وجه الملاحظ الذي استطرد مبتسما:- تهدم مصنع الغزل وبيتك القديم.. أقيمت مكانهما عمارات وفنادق جديدة. " لا بد أن سنوات كثيرة قد مرت حقا". هكذا فكر سالم بينما سأله الملاحظ:- أين حسان؟- لعله نائم في كوخه.- أما ما يزال يقطع الأشجار؟ " هذا الشيطان يعرف كل شيء".- لقد صار العمل قليلا. أعرف ذلك. القطارات الخضراء لا تعمل بالفحم ولا تحتاج إلى ماء كثير. لكن لا تقلق ولا تبرح المكان حتى أعود إليك! - متى يا سيدي؟ قال سالم ذلك وهو يشعر بنفسه وقد صار صغيراً جداً، وبأنه يسأل شيئا بعيداً، بعيداً جداً لا يراه.- ربما بعد عشر سنوات أخرى أو أكثر. ربما غدا لا تقلق.ومد الملاحظ يده فأمسك عصفورا من فوق كتف سالم اليمنى ليضعه على الكتف اليسرى. وانصرف تاركا سالم وحده في الفضاء. حين اختفى من المنطقة كانت العصافير قد صارت جميعها تقف فوق الغراب. نزلت إحداها لتشرب فصرخ فيها سالم. ذعرت. فتح لها كفه فطارت إليها قال في ضيق:- مضى وقت طويل أعلمكم فيه المحبة؟-....- لماذا تنزلين دون إشارتي؟-....اشربي:لكن العصفورة لم تشرب. طارت وخلفها العصافير. انتشرت في الفضاء فأحس سالم أن للكون جانبين ظالمين يطبقان عليه. لكن القطار العجوز الأسود، الذي ينفث الدخان الكثيف الأبيض، توقف ليتزود بالمياه." حين انتهت أول الحرب اختفى كثيرة من السائقين والعطشجية صغار السن". أخبره سائق عجوز أن كثيرين منهم استدعوا إلى الحرب. وأنهم ماتوا في الصحراء تحت القنابل، أو تاهوا في الرمال، أو قتلهم البدو، وأخذوا سلاحهم والماء.كان القطار الأسود يجر عرباته محملة بالعتاد العسكري الثقيل. مرت بعده قطارات خضراء كثيرة تحمل عتادا عسكريا ولا تقف. كانت هناك حرب أخرى.(3)حين رأى سالم " حسان" واقفا والفأس بين يديه. والشرر يطل من عينيه، لا حظ اهتزاز ساقيه. صار حسان هرما. قرر سالم أن يهاجمه. لقد ظل معظم ليلة أمس يسمع صوت ضربات قوية ظنها الريح تطير القضبان. أو القطارات السوداء العجوز تضرب الخضراء الفتية. وكعادته منذ طارت العصافير كان يسمع صوت العصفورة التي نهرها وهي تقول أنه لا يمكن لأحد أن يقام العطش، وأن الطيور تنسى كل شيء في الفضاء الواسع! . لم يخطر بذهنه أن "حسان" يقطع الشجرة. لكنه وجد ساقيه أكثر اهتزازا! . اتجه إلى الشجرة محزونا وجعل ينزع أوراقها الكثيفة. قال حسان.- ماذا تفعل؟- أريد الفروع. تجففها ونشعلها بالليل. كان الفضاء حولهما أوسع من الأرض. الأرض أوسع من السماء. أحس كلاهما أنه لا بأس أن تكون السماء أرضا، والأرض سماء، فليس بالكون أحد. لكن حسان قطع غصنا قدمه إلى سالم.- قم واغرسه حتى يصير شجرة.- لماذا قطعت الشجرة الثانية.؟قال حسان مبتسما:- إنها الخامسة وأنت تنسى! .كان وجه الأرض أشد قتامة من اليوم الأول. ارتفعت أشجار الشوك وتضخمت. باتت القضبان خارجة عن أماكنها في أكثر من موقع. بدا الغراب الذي ينحني عند الهامة، ويتدلى منه خرطوم أجرب مهترئ، مثل " مقاتل قديم يلقي السلاح"! . تناول سالم الغصن وغرسه وبالليل قال:- هذا شتاء لا يرحم.كان حسان ينفخ في النار الموقدة. لقد نقل متاعه إلى كوخ سالم وصارا يعيشان معا. حين أفزعهما صوت ارتطام قوي قال حسان:- لقد سقط الغراب. فقد تآكلت المأسورة وانكسرت. " حين انتهت الحرب الثانية اختفت القطارات السوداء تماما. لا حظ سالم أن الثقوب انتشرت في مأسورة الغراب. وكان حين يفتح الصمام ليشرب أو يغتسل تخرج المياه من الثقوب مثل النافورة. وصار قطار المياه الأسبوعي يأتي كل شهر ليملأ الخزان الأرضي، ثم اختفى بدوره. حفر سالم بئرا لنفسه ليشرب منها. حفر حسان لنفسه بئرا أخرى. الآن يشربان من بئر واحدة".شرد سالم وفكر في اليوم الأول. ترى كم يكون عمره الآن. فاجأه قائلا:- ألا تود العودة إلى المدينة؟ لقد تغيرت كثيراً.قال سالم:- قال الملاحظ ذلك منذ زمن.قال حسان:- لقد هدموا العمارات وأعادوا بناء مصنع الغزل! جذب سالم اثمالا قديمة.. ووضعها خلف ظهره. فكر ( كأنما كان المقصود فقط هدم بيتي القديم).. قال حسان:- إنهم يتحدثون عن حرب جديدة.لم يعلق سالم. قال:- هل ستقطع الشجرة الجديدة؟كان ما يزال يحلم بالعصافير. لقد سقط الغراب وربما إذا عادت تقف فوق الشجرة.لكن الرياح كانت تصفر في الخارج. صوت الرعد يتعاقب كأنه جبل يسقط من فوق جبل. البرق يتسلل الكوخ بالرهبة. ووضع حسان براد الشاي فوق النار وهو يقول:- لدينا حطب يكفينا عاما آخر. ولا يجب أن نموت من البرد بأي حال..