أغنية جزائرية حزينة
ياسمينة صالح- الجزائر
تفتح المدينة نوافذها على صباح من الدخان..تتبختر
الكآبة في الشوارع والطرقات..الوقت يتكرر ببلادة على
الساعة الجدارية الجاثمة وسط شارع المدينة الرئيسي..
دوريات العساكر تعبر الشوارع الخالية إلا من رائحة
الحرب و الفوضى المتراكمة على حدود الكلام،في مدينة
أعلنت حالة الطوارئ على ذاتها..
كان "البشير" جالسا قرب منزله..يرتشف قهوة صباحية
خالية من البهجة..بينما مذياعه الصغير يبث بيانات
عسكرية تدعو إلى الهدوء و الصمت..كان حزينا، بيد انه
لم يكن يدري لماذا هو حزين كل هذا الحزن ؟ لقد عاش
حياته يتمنى و يحلم بالنهوض..النهوض الذي يعني
ببساطة التغيير الجذري و الفاعل..
عندما وقف ذات "1962" أمام قبر رفاقه، لم يذرف دمعة
واحدة..قرأ الفاتحة و ………….
-استرجعنا الجزائر يا رفاق….
قالها و مضى ..مضى إلى الغد..
بالنسبة إليه، كانت الثورة عملا نضاليا لا يكف عن
الوجود و عن العطاء والتضحية..لم يكن هنالك شيء
اسمه"الارتجالية" في منطق الواجب إزاء الوطن..كل شيء
كان يجب أن يكون امتدادا للوعي القومي الذي صنع
شهداء يغطون وجه الشمس..
لا يذكر كيف مر الوقت..كل هذا الوقت..
لكنه يذكر أنه انتظر طويلا ..بصبر مدهش..انتظر الغد
الآتي..
يذكر جيدا ما جرى بعد الاستقلال..بالضبط عندما اكتشف
–شيئا فشيئا- الخيبة والشعور بالانحراف..
في صيف "1965"،زار صديقه "العربي"..لم يزره بمحض
إرادته، بل بدعوة ملحة من هذا الأخير..كان يحب
"العربي"..و يحترمه..و يصدق إيمانه بالجزائر أولا و
قبل كل شيء..هذا ما جعله يذهب إليه، و يدخل مكتبه
بشوق سنوات النضال، و الكفاح المشتركين..
لكنه، اندهش و هو يكتشف الاستقبال الفاتر الذي خصه
به صديقه القديم، لولا ابتسامة متقنة، وسؤال مفتعل
عن الصحة و الأهل و………..
الحزب لا ينام على أذنيه يا" سي البشير" ، و هو يملك
أسماء كل المعارضين لمسار الثورة….
صعق..لم يصدق ما سمعه..
معقول؟
اقشعر بدنه..نظر حوله..
معقول؟
يقول له- هو- هذا الكلام؟
هو الذي كرس شبابه لأجل الثورة، و الوطن، و الحال
أنه رفض تقلد المناصب كي لا يسيء إلى أحلامه
الحميمة،إزاء الوطن و الناس..كل الناس….
معقول؟
و "العربي" من يقول له ذلك؟
حتى كلمة (صديقي) بخل بها عليه..استبدلها ب" سي
البشير" و كأنه لم يكن رفيقه عبر مسالك "الأوراس"
الوعرة..كأنه ليس هو من حمله جريحا و عبر به خط
"موريس" المكهرب..
شعر بالبرد، بينما "العربي" يرمقه بنظرة شزراء..
في تلك الصائفة، اكتشف أنه خسر أشياء كثيرة، و أن
الثورة التي غذتها أرواح الشهداء قابلة للمساومة، و
التعليب ..
كان يدرك أنه محق في قناعاته تلك كلما بعث "العربي
"وراءه، كي يوبخه و يهدده باسم حزب لا ينام على
أذنيه..؟
منذ البدء، عرف أنه يملك قوة إضافية، لم يتردد في
استغلالها..
أبناؤه..
انتظر طويلا اليوم الذي فيه يرى نتيجة صبره..
كبر الأبناء، و هو يرفل بحلمه الحميم..
لكن الانكسار حدث..رحل ابنه البكر إلى "فرنسا" بحثا
عن عمل..
فجع..و الحال أن فجيعته تلك نابعة من إحساس باغته،
بأنه فشل في إيصال الرسالة إلى ابنه البكر..كانت
الهجرة، إلى فرنسا..فرنسا بالذات، تشبه هزيمته
الشخصية،
و مع ذلك..ظل متمسكا بأمله، و بابنه الأصغر"كريمو"..
-كريمــــــــــــــــو..
خفق قلبه..مص سيجارته، و اقرب فنجان قهوته من
شفتيه..لم يرجع "كريمو" منذ بداية الأحداث..يذكر أنه
لم يمنعه من الخروج عندما قرر الالتحاق
بالمتظاهرين..بل انه يعترف بينه و بين نفسه أنه سر و
ابتهج..
في عيني صغيره قرأ ما تمنى قراءته..
رفع رأسه إلى السماء..رأى الغيوم تتكدس حاجبة
الشمس..
عرف بحاسته أنها ستمطر..
ستمطر كما لم تمطر أبدا.