Thursday, August 23, 2007

المشكينو فلسطين احمد خلف


المشكينو
أحمد خلف-فلسطين
هذا يوم آخر من أيام الفراق والهجران، اخترت فيه العودة إلى بلدتي المشكينو، هذا عهد جديد يا بلدتي ليس كآخر عهد من العهود المنسحقة؛ صخرة تنقلب على نفسها أو تفاحة تتدحرج من علو. عهد تركت فيه مدناً تجثو باكية أمام زوبعتها، لينطوي شجر البيوت منحنياً على حافات الحيطان، متكسراً تحت ضغط الصحية المدوية، الصيحة الأولى. كل شيء تبدل بالسرعة المباغتة، هواء لاهب وقصب ناشف وعيون تحدق في فراغ، أجساد غضة تيبست ورؤوس ثابتة لا تدري إلى أي الجهات تستدير، كأن الطير حط عليها منذ زمن سحيق، لفه غبار العالم الفاني، زمن آدم ونوح وثمود، عهد يجر خلفه عهداً آخر. ترى أنين تختفي هذه العهود؟ يا أيها الواحد الأحد، يا أيها الجبار المتكبر أما ينتهي عهد الفراق والبعاد والجفوة المؤلمة؟ أهي تفاحتك المغبرة أسقطتها لتتبع خطواتي الحيرى؟ أما انتهت خبطة السحر والشعوذة ولصوص آخر الليل في المداهمات السرية، أعني الخناجر الفضية والصدئة، سكاكين المطابخ ومعاول الهدم؟ خبطة سُجلت في عهد الصفحة المنسية من تاريخ المشكينو، إذ تستفيق اليوم جرذان المشافي والصراصير ودود الأرض والكلاب السائبة وشهود الزور ورواة الحكايات المنعوتون بالشهوة الأزليين: غربان الخطيئة الأولى. اندفعوا كلهم مذعورين تحت وابل من مطر يهطل بغزارة وبرد يثلج القلوب والعظام، تدافعوا جزعين فوق الصفحة الرمادية لورق التوت والتين والعنب الحامض، يتدافعون بالمناكب والأكتاف والصدور والمؤخرات بحثاً عن الخلاص الوثني، يجرّون وراءهم خراطيم الذعر لائذين بما منّت عليهم حكمة الأولين: انُج سعد فقد هلك سعيد: ترى هل أصابعهم الخرس لايتفوهون بحرف واحد أوكلمة؟ هلعين مما رأت أعينهم من عراك دام وموت محقق لا خلاص منه لأحد من أحد. عراك الضواري الشرسة، التي لم تدجن حتى الآن، لذتُ بركن قصيّ من بيوت البلدة، فاجأني صوت غريب يناديني: أنهض وإلاّ جرى لك ما حدث لعامة الناس…خشيت أن تكون الملائكة والشياطين قد أنهت عبها المرح بالبلدة لحين من الزمن. تحركت خطاي تجاه السوق. أتذكره، كان غاضباً بالناس والحركة، قلت في السوق يمكن للمرء أن يبدد وحدته ويخفف من ثقل محنته ويجد السؤال فيه جواباً شافياً لسؤاله الحائر قبل أن يجف السؤال: لم جرى هذا كله؟ لكني لم أجد في السوق أحد. لا بشر هناك، بل كائنات مسحورة تتحرك هامسة كأنها أصيبت بالداء أو الوباء، رأيتهم يدفنون موتاهم في العراء الشاسع المترامي، مخذولين، بعضهم يلوح من بعيد، أيد ثابتة ورؤوس تومئ لأخرى، عيون ثابتة النظر. سأحصرهم في زاوية لأستعملهم عما جرى لهم وما يجري الآن في الخفاء والعلن. كانوا صامتين مقطبي الوجوه ثقيلة نظرتهم على الروح والجسد، إذن هذه مدينة التماثيل النحاسية! اية تفاحة الجنون إن لم يكن هذا قد جرى مع أحد سواي، فمن الجائز أني سأموت من الغيظ والهجران. قيل أن أبي هو الذي لجّ بالسؤال عني وألح بطلبي وألتمس من المعارف والأصدقاء (أصدقاء أبي،إذ ليس لي أصدقاء في أي مكان من هذا العالم الفاني) مجيئي للتعرف على أحوالي. كان أبي يعلم علم اليقين ألاّ أحد لي في البلاد البعيدة عن بلدته هذه، البلاد التي ظل يحلم بها ولم يرها، كان يقول عنها:- مدن البلاد البعيدة معلقة في الهواء بين السماء والأرض، على ارتفاع قامة رجل متوسط الطول، مدن تضاء بالمصابيح الملونة تخيلها اذن، تلك المدن ترفل بالنعيم، مدن راقصة مع أضواء الليل المنعكسة على صفحة النهر، ليست بيوتها من حجر أو آجر بل من ضوء المصابيح المنعمة بالنور الأبدي، في التاسعة عشرة من عمري قفزت إلى أول مركب شراعي لحمل المحاصيل الموسمية ليرحل بنا عبر شط السماوة/ البصرة، أي شيء لم يكن ضدنا، إذ المركب الشراعي يبدو ثملاً متهادياً وسط موجات النسيم، جاءت ريح عاتية تهدر من بعيد وتزمجر. تعبنا كلنا، وامتلأت رئتاي برائحة غبار المحاصيل، تجادلنا. مزهواً كنت بقوتي ويفاعتي ورماحها، حملت مع تسعة عشرة عاماً كي أغادر المشكينو تاركاً أمي وأبي وحيدين مهجورين ولم ألتفت إلى الوراء أبداً، لم أترك وارائي أثراً أو وصية والافلاس لم يدع لي فرصة كي أوصي بشيء أبداً، ولما وضعت الحرب أو أوزارها وانتهى ضجيجها وعجاجها، قلت الآن حان الوقت لأذهب منتشياً بفرحي أنعم بدفء القلوب وحرارة الأيدي. إلى المشكينو؛ يا غريب أذكر الله وأحبابك.. جئت إليها، وها هي المشكينو تغص بصمتها ووجلها وتغرق بتعاستها ومحنتها فقد نهشتها كلاب الصيد الضارية ودمرتها الأيدي الغريبة، بالمنجنيق درسوها حتى استفاقت على ظلامها الدامس ووحلها الغارق باللعنات، جرجروها من كل جانب وناحية، ركلوها بالأرجل والجزمات بالعراك العنيف والصراخ المدوي، بالطلقات النارية والخناجر المسمومة… تغضنت وجنتاها وضاق صدرها لما رأتني أدور في أزقتها، تائهاً، ضائعاً، لا أعرف أحداً، وليس ثمة من يعرفني أو يدلني على بيت أبي وأمي الذي تركته قبل سنين، قلقل الليل وأناخ على قلبي.. هل أنام في زريبة؟ أم أرقد في الزرائب، لم أسند رأسي إلى وسادة ولم أتمدد على فراش وثير، هل قلت وثيراً؟ ما معنى أن يكون الفراش وثيراً؟ شكله وهيأته؟ لا أعرف هذا كله أبداً. سألت أحد المارة من جانب السوق، قال لي: هذه بلدة لا مكان فيها لغريب، كان محدثي شيخاً مسناً، ظل يتفرس في وجهي باذلاً جهده في التعرف عليّ:قلت: يا عم لست غريباً عن المشكينو.قال الشيخ: أتريد الذهاب معي؟قلت له: ساعدني على منام هذه الليلة فقط.- هيا بنا يا ولدي. أنا أُدعى حمزة الغريب.أخذتني الدهشة وأنا ألفظ اسمه كاملاً: حمزة الغريب. كنا نسير جنباً إلى جنب، وسمعته يتحدث، ربما خيّل اليّ أني أسمع صوتاً بشرياً يحاول أن يجعلني أسمع ما يقول: - كنت صبياً ولم تكن هناك مدارس تعلم فيها بل كانت الصحراء كل شيء، كذلك السفن تنقل ما تجود به الأرض إلينا، لكنها الحرب جاءت وتغير كل شيء، أليس عجيباً يا بني؟ تصور، كانت الدروب، هنا تغص بالمارة من الناس كذلك السوق، كل شيء هنا كأنه يتبدل نحو الأحسن، لكنها الحرب جاءت وتغير كل شيء يا بني. الطعام والشراب والملبس كانت كلها متوفرة حتى السلام. لكنها الحرب جاءت وانتهى كل شيء يا بني. ها أنت تراها تطفئ مصابيح الزيت من أول المساء خوفاً من شحة الزيت، أعذرني يا بني لو قلت لك ومن الضيوف لئلا يجيئون على هدي المصابيح لأن الحرب جاءت يا بني. ها هي المشكينو تنام وتسبقها فئران الليل إلى الغرف والحجرات فئران الصحراء ألا تعرفها؟ أسنانها تقرض الحديد الصلب. قيل إن الله وهبها كل خبث الأرض وحيلة الصحراء، تصورياً بني، تخافها الذئاب والثعالب حتى قطط البيوت الهاجعة تخاف فئران الصحراء، قيل أنها تسد منافذ البيوت ولا تدع أحداً يخرج أو يدخل، بل ربما كان ذلك الموت السريع بدافع من تكاثرها وتلاحق أنفاسها خلال الليل. ما الذي يفعله الناس؟ فالحرب جاءت وانتهى كل شيء يا بني، لا يستطيعون أن يفعلون شيئاً، فئران شرهة أكول، ربما مسعورة كالكلاب.. كان العجوز ناشف الوجه واللسان وكان الصوت يأتيني من بعيد، يخرج نحو الفضاء المهجور، والعجوز يجري لا يلوي على شيء، مرات يسبقني فيها بخطوات وأخرى أتركه ورائي لأعود إليه وأتوقف عن السير برهة لأدعه يلحق بي، إذ كيف أدع هشاشة الماضي تتدحرج خلفي، أسمعه يقول:- لم أتناول طعاماً منذ الصباح. هيا أسرع لم يعد بيت ببعيد من هنا.ثم أردف العجوز يتساءل: هل قلت لي أنك غريب عن المشكينو؟ كيف يحدث هذا، إذن لماذا أتيت؟- أنا لست غريباً عنها.- آه. إذن لم أسمعك جيداً. ما تعرف عن هذه البلدة التي لا شبيه لها؟ قل لي بصراحة يا بني؟ أأنت أسير حرب انتزع قيوده أم تراك سجيناص هارباً من سجنه؟وتقول أنك لست غريباً عن البلدة؟ يا اسم الله، ماذا يجري ويدور من حولك يا حمزة الغريب؟ لا يهم لا يهم، أنت ضيفي الليلة وسأكرمك لئلا يقال عني لم أُحسن إكرام ضيفي، تعال يا بني، أنت وحيد مثلي، وهذه المشكينو لا رجاء فيها.. هيا بنا ولدي. امض ولا تتردد. هل تخشى شيئاً؟ هل يتبعك أحد؟ من تراه يطاردك هنا؟ها هي ذي البلدة تستسلم لصمتها ونومها وأغلب الظن أن ذاكرتها مشحونة بالرؤى والهواجس فتقلق راحتها، لأن ما أسمعه كان أنيناً وربما آلاماً تأتيها من وجع مزمن كأنها تعاني من ساعات المخاض. قطار أرعن يتخبط في مروره البطئ على جسدها فتقاوم ذلك الضغط المهول الذي وجدت نفسه رازحة تحت ثقله. تئن. أتراها تتلذذ في عذابها ومخاضها؟ ايه مشكينو، أي الأسماء يليق بهذا التوجّس المريب الدائم اذ ينخر العظام حتى النخاع يحليها إلى رماد.. دفع الشيخ باباً خشبياً تعالى صريره. ليس ثمة عابر فيما حولنا. قال الشيخ: ادخل يا عبد الله. ادخل يا بني. هذا بيتي فأنا أعيش وحدي فيه، أصنع طعامي بيدي مرات كثيرة، ومرات أخرى تأتي امرأة من الجيران تصنعه لي. تعال عندنا خبز ولبن وقليل من اللحم، تعال سأعدّ لك الشاي.. سحرتني وحدته وعزلته، أليس هذا مرتجاي من مقتفي أثري؟ أليس الأمان التام والسلام النقي مُناي؟ أعني الأمان القريب من القلب؟ ترى هل القلب مسلة أحزان؟ اذ كل شيء ينبغي أن يسير متهادياً متريثاً، لا خوف أو التردد في سائر أيامي، اية تفاحة آدم المغبرة هل أيامي نعشٌ أم صندوق أسرار؟ أي الأسماء يليق بهذا التوجّس المريب إذن؟ إن لم يكن هذا ولا ذاك فمن الجائز أني سأموت من الترقب والدناءة المستترة.قلت للشيخ: - يا عم، ألا يسكن أحد غيرك في هذا البيت؟حك العجوز كتفيه في جدار الحجرة وتأملني برهة ثم قال لي:- لا أحد.أشعل نار موقدة ودفأ يديه. سرتْ حرارة طيبة في المكان. انتعش الجسد ولان الخاطر وتوضحكت معالم الوجه. أنف مستقيم ووجه غزاه شحوب مرضي، عينان التمع فيهما اطمئنان راسخ، ربما كان يأساً عميقاً من كل شيء حي يدور من حوله. شاربان ناعمان ينسدلان برفق فوق زاويتي فمه. كان وجهاً سمحاً لازمه الخمول والوهن والذبول. وبصوت خائر خاطبني:_ أترى ما يدور وما يحدث خارج البيت؟أبعدت نظري عنه باتجاه الباب. قال:لا عليك أنظر ولا تتكلم أبداً.

Friday, August 03, 2007

طقوس امرأة
سحر سليمان
صباحاً استيقظت على صوت عصفوري الرائع ...‏ هذا الأمير الصغير المغرور، بمعطفه الملون . وحركاته الرعناء وأجنحته الصغيرة القزحية، رمشت بأهدابي فتداخلت الصور، وظل صوت الكناري يملأ كل ما حولي، ثم تمطيت وأنا أرفع رأسي وجذعي عالياً أريد أن أطير مثل فراشة باتجاه الضوء والفرات، كي أترك فرصة للنوم، يتسلل من مسامي وأعصابي كلص فاجأه نور الصباح فأسرع بالهرب خوف افتضاح أمره.‏ - صباح الخير يا سفير العصافير‏ صحت بالعصفور، فتحرك داخل القفص بصخب، وكأنه يرد على تحيتي الصباحية بحركاته الاعتباطية تلك، دون أن يكف عن تغريده، أو ينتظر يقظتي الكاملة .‏ - صباح الخير يا أشجار السرو والحور والكينا .‏ صحت بالأشجار التي تطل بقاماتها السامقة من نافذة غرفتي في الطابق الثاني حيث يمتد أمامي منظر المنتزه الذي كان يوماً مقبرة موحشة فحولته البلدية إلى وضعه الحالي.‏ - صباح الخير أيها الموتى الذين رحلوا وظلت رائحتهم تسكن التراب والشجر .‏ صحت من مكاني وأنا أحاول أن أركز ما تبعثر مني والملم أجزائي المتباعدة بعد موتنا الليلي الذي نسميه النوم .‏ - صباح الخير يا وجهي العاري الحزين .‏ همست لنفسي، ثم مددت رجلي الحافية اتلمس بأصابعي وبر البساط الصوفي فأغرق في متعة تتسرب عبر أصابعي إلى مفرق رأسي، متعة عاشقة لا يدرك لغة عشقها غير الأصابع.‏ أصابع امرأة صغيرة ومحاصرة بالحزن والفراغ والخيبة في قرية كبيرة، تستريح على خاصرة الفرات في الجزيرة .‏ هذا الفرات الذي كان يقول عنه أبي بحزن وعشق :‏ - الفرات ...؟‏ يهز رأسه ريثما يرشف من قهوته .. ثم يتابع :‏ - كان حياتنا ووجعنا، يعطينا الحياة والمواسم بيد، ويسرق أطفالنا وأفراحنا باليد الاخرى، .. كان جبارا وطاغية .‏ وتقول أمي:‏ - هذا النهر مثل الرجال، خائن وغدار.‏ ومع هذا كنت أجد هذا النهر قريباً من قلبي، فهو الوحيد القادر على فك أسرار جسدي حين أرميه عاريا في أحضانه، فيدس أصابعه الطرية المرحة في كل جزء منه، وكأنه عاشق مفتون، لا سفاح مشهور.‏ - كلانا مهزوم يا فرات . أنت هزمتك الشيخوخة والسدود وأنا هزمتني سنوات الحزن والخيبة .‏ قلت ثم تحركت، وقفت وسط الغرفة، كان كل شيء هادئاً،‏ فواجهتني بقايا طعام العشاء التي تركناها، والصحون التي لم تغسل بعد، فمددت يدي إلى ( ركوة ) القهوة، غسلتها ثم ملاتها وانصرفت إلى طقسي الجديد، أعداد القهوة أشعلت نار الغاز فشعت بزرقتها الصافية، وتركت الركوة فوقها ريثما أعددت الصينية وفنجانين نظيفين وفارغين . ترتفع قامة كل منهما في الصينية بترفع وكأنهما جنرالان يتفاوضان في ساحة خالية في غبش الفجر ومع أنتهائي من أعداد كل شيء حملت الركوة بيد وباليد الأخرى الصينية، ثم توجهت إلى الشرفة . وضعت حلمي بعد أن تركت فرصة للقهوة، لتصفو خلال دقائق . غسلت وجهي، ورتبت شعري على عجل حتى لا أفسد خلوتي مع عزيزتي القهوة، وسرقت من حقيبتي علبة الدخان والقداحة وعدت إلى الشرفة. كانت منازل الحارة تمتد أمامي.‏ حين تحركت يدي ترفع الركوة، وتدلق القهوة الحارة في الفنجان الأول، فالثاني، فمن عادتي أن أسكب في فنجانين، واحد لي والآخر أزعمه لرجل يشاركني قهوة الصباح .‏ - تفضل يا عزيزي‏ قلت وأنا أضع الفنجان الأول جانباً، ثم تناولت فنجاني أرشف منه بلذة ومتعة ودخان لفافتي يتصاعد في حلقات زرقاء يشكل تاجا حول رأسي.‏ - ما رأيك بقليل من القهوة يا أميري المغرور.‏ خاطبت عصفوري ضاحكة . ثم سكبت قليلاً منها في أصيص صبارتي الشوكية وأنا أشعر بخدر ممتع‏ بعد الفنجان الأول، امتدت أصابعي تقطف زهرة حمراء وتزرعها في شعري بينما كانت القهوة الباردة في الفنجان الآخر تنتظر أصابع صاحبها الذي لن يحضر، ذاك الذي قال لي يوماً :‏ - لا يستسلم إلا اثنان، العاشق أو المغلوب، وأنا عاشق.‏ وتابعت ارتشاف قهوتي وقد بدأت الحركة تدب في البيت، طالعني وجه أمي، ثم أختي و...و...شعرت بالحصار فلبست قناعي المعتاد بعد أن أطفات لفا فتي وشربت آخر ما في قعر الفنجان حتى المرارة .‏ قال أخي:‏ - ما رأيك لو شاركتنا فطور اليوم ..؟‏ - شكراً . شربت القهوة‏ قالت أمي :‏ - هذه البنت مجنونة . قهوة ودخان وكتب أكلها وشربها‏ ولم أعقب، انطلقت برشاقة فمدرستي بعيدة، وأنا احتاج إلى مدة طويلة للوصول إليها، فهي تجاوز النهر من الطرف الآخر، حيث الحياة لها طعم آخر أيضاً.‏ في الساعة الثانية عشرة إلا ربعاً تماماً انتهى الدوام اليومي، وقد اخترت في هذا اليوم أن أعود وحيدة منفردة أباري ضفة النهر لا لسبب واضح، وإنما رغبة نبعت في داخلي فجأة، رغبة عرشت مثل دوالي اللبلاب، ترتفع عالياً .‏ وقفت بمهابة أمام النهر، لأن عيني تنظران إلى ما تبقى منه، هذا العجوز الباقي الخالد يتدفق بعسر، كأنما يشكو من أمراض غير وافدة .‏ - يا فرات ...... يافرات ...‏ صحت مثل طير خائف يريد أن يحتمي بأي ساتر خوفا من بنادق الصيادين، ثم تابعت المسير والجوع بدأ يدق جدران معدتي الخاوية التي لا تعرف الطعام قبل الظهر.‏ تابعت مسيري بإصرار وعناد، رأيت أمامي سلحفاة تختبيء في درعها، حملتها بين يدي ومضيت، ولم أفق إلا وماء النهر بدأ يبلل قدمي، ثم ساقي، فارتعشت ثم جمدت، رميت بالسلحفاة في الماء فغاصت، ثم أفردت ذراعي ورفعت عيني حدقت بزرقة السماء الصافية فهالني عمقها، فتصلبت مثل شجرة صفصاف عارية ووحيدة، بينما كانت رفوف العصافير تملا الفضاء بزقزقاتها.‏
من مجموعة حرق الليل -- من منشورات اتحاد الكتاب العرب - 1997