كانت أمى تحذرنى من الدبدبة على الأرض، وتأمرنى أن أجعل خطوتى خفيفة حتى لا يحس بى سكان الأرض التحتانيون ويحددون مكانى فيسهل عليهم اختطافى سحبا من قدمي..
ولا تستطيع أن تمنع دموعها.. تجرى إلى حجرتها.. تسحب من الدولاب صندوقا صغيرا من الخوص الملون.. تفتحه.. أرى فيه صورة قديمة لشاب وسيم تنضح ملامحه الضاحكة بالسعادة والثقة بالنفس وكأنه ملك العالم.. تحتضن أمى الصورة.. تضغطها على صدرها.. تقبلها.. تعيدها إلى الصندوق.. تخرج قطعة من القطيفة الحمراء حال لونها.. تفردها.. أرى بها خاتما ذهبيا به نصف فص من الماس الأزرق.. أسألها:
- أين نصف الفص الآخر؟
- مع خالك
- وأين خالى؟
- اختطفوه
وتعاود البكاء متحدثة بحقد عن سكان الأرض التحتانيين وكراهيتهم للبشر.. يختطفون السعداء الواثقين.. يمتصون دماءهم التى نقتها السعادة.. يصنعون من جلودهم سيورا رهيبة يجلدون بها أحباء المختطفين فى أحلامهم.. مثلما يفعلون معها.. كل ليلة ترى أخاها يلوح لها من بعيد.. وتحس بالسياط تجلدها.. ولا تستطيع أن تستيقظ.. تتحمل لسع السياط ليظل أخوها أمامها..
تحتضننى بخوف.. تغمرنى بالقبلات.. تعاود نصحى بأن أسير على الأرض كأننى أطير حتى لا أعطى لأعدائها فرصة أخرى..
اشترت لى دراجة حتى لا تلمس أقدامى الأرض.. سقطتُ مرة فى ترعة القرية بدراجتى.. واصطدمت مرة بحمار عمى محروس.. ومرة أخرى اصطدمت بشجرة الجميز العتيقة.. كانت العائلة تطلب من أمى بيع هذه الدراجة أو كسرها قبل أن تقضى علىّ.. وهى ترفض.. فالجروح والخدوش التى أصابت ذراعي وقدمي وجبهتى شئ بسيط.. المهم أن أبقى معها..
***
بعد صلاة العيد يصطف كل الأولاد بدراجاتهم فى أول الشارع الرئيسى للقرية.. يطلق خالى شفيق صفارة البدء.. تنطلق الدراجات بأقصى سرعة.. كل منا يحاول أن يفوز بالسباق..
يبدأ السباق سهلا فى الشارع الرئيسى.. ثم يمر بمنحنيات كثيرة وصعبة فى أزقة القرية.. وحول أكوام السباخ.. وفوق المعابر المهدمة على الترعة الكبيرة.. لكن أصعب أجزاء السباق عندما نصعد فوق "جبل منسى".. وهو تل مرتفع من التراب يتبع ورشة طوب الحاج منسى.. وبجواره أكوام من "السرسه" (قشر الأرز) من يسقط فيها يغرق بدراجته.. فتقفز فرق الإنقاذ خلفه لتخرجه من السرسه والسباق معا..
لكن هذا لم يحدث معى.. قشرة بطيخ ألقاها أمامى الولد سعفان الدخاخانى ليعاكسنى وأنا فى قمة "جبل منسى".. حاولت تفاديها فسقطت فى كوم سرسه.. ولم ينقذنى أحد..
غصت بدراجتى.. وضاق صدرى.. امتلأ أنفى وفمى بالسرسه.. أصبح العالم حولى فضاء من العتمة الصفراء التى أخذت تضئ ببطء حتى أصبحت ذهبية.. ثم وجدتنى أقف بدراجتى فى الشارع الرئيسى للقرية.. ليس نفس الشارع.. لكنه يشبهه.. أكثر اتساعا وجمالا.. هواؤه نقي معطر.. ووجدت أمامى رجلا يضحك فاردا ذراعيه لى.. نفس الملامح التى طالما احتضنتها أمى فى الصورة القديمة.. أبيض شعره.. وامتلأ جسده.. لكن ابتسامته هى هى لم تتغير.. أخذنى فى حضنه.. شعرت بألفة شديدة تجاهه وكأن أمى هى التى تحتضننى.. أخذنى إلى بيتنا.. إلى بيته.. إنه بيتنا نفسه.. لكن شيئا فيه يجعله مختلفا.. أسمى وأنقى من المعتاد.. عرفنى بزوجته وأولاده وبناته.. بعضهم يشبهنى.. إحدى البنات صورة من أمى وبنفس اسمها..
أخبرنى خالى أنه لم يختطف.. فليس الأمر بالسهولة التى تظنها أمى.. لقد بذل مجهودا كبيرا.. قرأ الكتب القديمة.. مارس كل الرياضات الروحية المعروفة.. واخترع لنفسه رياضات أخرى.. جاهد ذاته.. انتصر على رغباته ومخاوفه.. هزم لذاته وضعفه.. حارب أفكاره وقهرها.. تخلص من بشريته بقدر ما يستطيع بشر.. ليكون جديرا بأن يأخذوه..
حكيت له عما تفعله أمى بنفسها من أجله.. فقال إنه استقدمنى هنا لهذا السبب.. فهو يزور أمى كل ليلة ليطمئنها عليه.. لكن أمى تجلد نفسها بشوقها إليه وحقدها على سكان الأرض التحتانيين..
أدخل يده فى قلبه كأنه يدخلها فى جيبه.. أخرج نصف فص الماس الأزرق.. أعطاه لى.. أوصانى أن أقدمه لأمى.. وأطمئنها لينتهى عذابها الليلى..
ودعت أسرة خالى.. سرت معه فى شوارع القرية.. تمنيت أن أبقى.. لكنى لم أبح له برغبتى لخوفى على أمى..
احتضننى وقبلنى.. وضعنى فوق دراجتى.. ورفعها بيد واحدة.. فوجدتنى فى نقطة بدء السباق.. والجميع يصفقون لى.. وخالى شفيق يقدم لى الكأس..
أسرعت إلى أمى.. قدمت لها نصف فص الماس الأزرق.. وجلست أحدثها عن خالى.
2 comments:
من اجمل قصص المجموعة في رأيي
التصالح او المصالحة واضح
الخال والد وهو بديل الام والاب معا
التصالح مع الذات يقود للتصالح العام والنجاح وتحول الدراجة رمز الابتعاد عن الآخر الى وسيلة الاقتراب منه والاهم النجاح
حذفت التكرار الذي حدث بطريق الخطأ
آمل ان تجد القصة عند القراء صدى
القصة جميلة بلا شك يا دكتور ككل المجموعة بلا مجاملة والله .. لكن وقع القصص على القراء يتباين بشدة لاختلاف الاذواق والعقليات وكذلك لكثرة الرموز فى القصص .. وانا عن نفسى ارشح قصة النخلة لتصبح درة المجموعة
Post a Comment