بيد ان هذه الاحداث كانت في الماضي السحيق وقد نسيت او كادت تصير في عداد المنسيات،الا لو اريد استخدامها كاهانة في تلك اللحظات التي يسود فيها الاضطراب العائلة و يريد البعض منا ان يلقي في وجه الآخرين من الاقارب اسوء الاشياء الممكن تذكرها.بالطبع،كان انتقال القبيلة-كما يسمينا بعص الخبثاء من الجيران-النقيض الواضح لهذه اللحظات المذكورة آنفا. كانت الوجوه لامعة،حتى وجوه معتادي الكآبة فيما بيننا.وحتى جدتنا التي اصابتها جلطة في المخ،فشلت نصف وجهها الايسر،استطاعت بمعجزة ان تنجح في توسيع الجانب الايمن من فمها!
لم يكن المنزل في ذاته شيئا متميزا،كان على طرف القرية،ويذكرنا بالخان الريفي المهمل الذي يحتوي على مخزن للغلال وقبوللنبيذ ترك به المالك السابق كنوع من ابداء النوايا الطيبة(او الشريرة؟) بضعةبراميل من النبيذ(ولسوء الحظ او لحسنه تخثرت تماما وصارت خلا كما اعلنت خبيرة تذوق اطايب العيش،العمة مارا).ايضا كانت هناك عدة مبان اضافية،كان بوسعنا فقط ان نخمن فيما كانت تستخدم.احدها بالتأكيد كان حظيرة خنازير.حددت هذا الامر ابنة العم اليزابتا،وهي الابنة غير الشرعية لمارا.لا تحس اليزابتا فقط بالروائح التي لا يعرف معظم الناس بوجودها حتى،لكنها تحس ايضا بتاريخ الاماكن،وكذلك تستشعر كثافة الالوان التي تصبغ الاحاسيس التي تترك معلقة في الهواء وتظل على هذه الحال لفترة طويلة بعد ان تنتهي الاحداث التي انتجتها في المقام الاول.قالت وهي تدخل الى المنزل الجارجي الذي قررت العمة مارا، وهي رسامة هاوية ذات طموحات كبيرة لا تقابلها موهبة، ان تحوله الى مرسم،"اشم رائحة الخنانيص".
ولحسن الحظ لم يسمعها الاي وامي.وعندما مدت اليزابتا انفها واضافت انها تستطيع ان تشم رائحة الخوف القاتل الذي اعترى تلك الكائنات الصغيرة عندما كانت تساق لتذبح في الفناء،هبت فيها امي طالبة منها الصمت بحق الرب!فرغم كل شيء كانت العمة مارا هي التي اختارت المنزل الخارجي ليكون مرسمها بسبب المنظر المطل على النهر والوادي و التلال المحيطة؟بالاضافة لهذا،سيعاد طلاء المكان ويهوى بعناية و في غضون لحظات ستفوح منه رائحة هي مزيج من الوان العمة مارا وعطورها.وعلى اية حال فحتى الاسر الانجليزية العريقة تقطن في قصور كانت من قبل اسطبلات خيول.
وفي صوت هاديء اعلنت اليزابتا انها ستلزم الصمت ولن تتكلم عن الموضوع ثانية في مقابل 3صناديق من الشيكولاتة متوسطة الحجم. وردت امي"2"وفاصلت اليزابتا"من الحجم الكبير"وقبلت امي"حسنا ولكن هذه آخر مرة"
لم تشك قط العمة مارا في ماهية الاصوات التي حلت محلها اغنيات الاوبرا الباروكية التي تصاحب عملها في محلها الجديد والفرشاة في يد والسيجارة في الفم من اجل تحقيق "رؤيتها المتجددة". ولكن مرة اثناء العشاء وعندما لاحظت اليزابتا بصوت عال ان الاغاني التي تسمعها العمة مارا تذكر المرء بقباع الخنازير،انزعجت العمة مارا بشدة،بالرغم من ان امي اسرعت وقرظت اسلوبها الجديد مما خفف من تأثير الملاحظة المزعجة حتى انها نسيت ان تقرع اليزابتا وتنعتها بانها" ابنة حرام" واستجابة لهذا التقريظ انخركت في سعادة في شرح مطول عن الفرق بين الالوان المائية والوان الزيت مما ابهج اعضاء الاسرة الآخرين،وسرعان ما اخذ كل فرد في الانسلال من المائدة مقدما اعذارا اقل ما يقال عنها انها واهية كي لا ينهي طعامه.وفي الصباح التالي اعطت امي لاليزابتا علبة اخرى من الشيكولاتة.
بالرغم من هذا كان يبدو ان حياة الريف ستضمن لكل فرد تحقيق اقصى امنياته.بالنسبة لجدتي رائحة التربة المحروثة حديثا،وخوار الابقار القادم من بعيد وغيرها من الاصوات والروائح التي تذكرها بطفولتها. وكتبت على قصاصة ورقية بسبب ان جلطة المخ قد حرمتها من القدرة على الكلام"القرنفل،سيزهر القرنفل في كل مكان وسننام بجانب النوافذ المفتوحة بحيث تتسلل روائح زهر القرنفل الينا وتحملنا مع آخر انفاسنا الى العالم الآخر".وكانت امي تأمل في ان تقيم في المنزل الجديد مرطزا خاصا للتأمل والحياة الصحية،وايضا وجدت فراغا يكفي لترتيب مالايقل عن 2000كتاب في بوذية الزن(تفريعة خاصة من البوذية تنتشر في كوريا وتقوم على فكرة التركيز عبر رياضة القوس والسهم-المترجم) واليوجا وغيرها من مكونات العصر الجديد -عصر الدلو. بعد ان تقاعدت امي وتركت عملها كمدرسة في مدرسة ثانوية كانت تلك المسائل هي شغلها الشاغل والوحيد الذي كرست اليه نفسها كلية.
وكان اشد ما اسعدها هو طرق الريف التي تلتف في رقة نازلة الى الوادي ثم تأخذ في الصعود الى الغابة،كما لوكانت قد وجدت كذلك بشكل متعمد لمساعدتها في جريها اليومي الصباحي او الماراثون الصغير،كما يسمى الطبيب النفسي هذا النوع المتطرف من تعذيب الذات ،وهو الطبيب النفسي الذي حضرت امي وابي طزال اعوام عديدة برنامجه للوصول الى الحياة الصحيحة،وكان هذا في البداية لعلاج ابي من ادمان الكحول.وبعد اعوام طويلة من الصراع المرير ضد مناهج الطبيب النفسي فقد ابي فجأة كل متعة ليس فقط في الشراب ولكن ايضا في كل مباهج الحياة الاخرى بما في ذلك تلك التي لا تريد امي منه ان يتركها.ومن ثم فقد صار ماراثون الصباح الذي تجريه يوميا سبيلها الوحيد لمعادلة فائض الطاقة المتراكم بداخلها بسبب لا مبالاة ابي.ولأن ابي كان يدرك هذا جيدا فقد كان يوميا كل مساء يقوم بملأ المنبه لايقاظها في الموعد المحدد لتستطيع امي ان تجري!
وبعد ان تركا البرنامج الصحي مباشرة بناءا على طلب ابي ،ذهب لمقابلة ناظر المدرسة الداخلية التي كان يدرس التاريخ فيها طوال 30عاماوطلب احالته الى التقاعد المبكر.وقال نهاية التاريخ.ولم يكن هذا بناءا على رأي فوكوياما،لكن بسبب النجاح الذي حققته امتنا الصغيرة
فالحرية تلك النعمة المختلطة التي لا يدري المرء ان كانت نعمة ام نقمة، قد دمرت تماما كل ارضية قد تنبت صراعات مأساوية او افكار عظيمة،وبذرت اعشاب الانشقاق ضيق الافق ،و الطعن في الظهر كما في عالم المال و الاعمال،وتفاهات وسائل الاعلام الجماهيرية.وبين عشية وضحاها تحول العلم الذي كان يدرسه الاوهو التاريخ الىشيء متحفي غرائبي،وحيث ان لا نية لديه للمشاركة في هذه المهزلةفهويريد الانسحاب وبالطبع مكافأة مجزية .
كان الناظر ابن عم امي وصديق للعائلة ولذا بعد عناء رضخ لمطلب ابي.وكانت المكافأة هي المبلغ الناقص المطلوب لتكملة ثمن المنزل الذي اشتراه ابي ليجد كل فرد من افراده- كما قال تحديدا – الحرية الحقيقية التي هي مصدر السعادة الوحيد.واضاف في جدية ان واجبنا ان نكون احرارا فالدولة الحرة تحتاج مواطنين احرار.
فهم ابي السلام على انه الاسترخاء التام في حالته، على العكس من امي التي ارادت دائما ان تظل الى الابد شابة وكانت على استعداد لأن تموت في سبيل هذه الامنية،ولذا قرر ان يتبع نصيحة يونج: ان الرجال الذين هم على مشارف الستين يجب ان يودعوا تلك الاشياء التي كانت تلائم اعوام الصبا،ويتجهوا الى التأمل الداخلي في ذواتهم،كي يتمكنوا من تكوين لوحة فسيفسائية من كل ذكريات الحياة لتكون تلك اللوحة معنى لوجودهم وفي نفس الوقت تصير الجسر الذي يربطهم بالرب. ولكنه اكد ايضا انه سيظل دائما متاحا بالرغم من ان شاغله الشاغل سيكون التأمل و هو يتوقع منا ان نحترم حاجته للابتعاد عن العالم الخارجي للاقتراب من كينونته الداخلية حيث تنتظره العديد من المهمات الجليلة. فقد حظينا جميعا بما كنا نتمناه: بيتر مكان مثالي ليضع منظاره المقرب ويحملق في النجوم، وانا فرصة لا تعوض للتجول بلا هدف بين الغابات و الخوف بلا جدوى من المستقبل الذي لن يختلف كثيرا عن الحاضر في حالتي. و حصل خالي فينكو وهومحاسب تملكته منذ سنوات عديدة فكرة زراعة اكبر رأس من الكرنب في التاريخ وبذا يحصل على حق دخول موسوعة جينيس للارقام القياسية،على التربة الغنية،بينما حصل ابن عم ابي فلاديمير على الزمن والهدوء اللازمين لاتمام مذكراته عن الاعمال البطولية التي اداها اثناء سنوات الحرب الاهلية في يوغوسلافيا السابقة و بطولاته بين البارتيزان(انصار الماريشال تيتو الذين حرروا يوغوسلافيا من النازي- المترجم) وزوجته الاصغر منه بخمس وثلاثين عاما كريقا جيدا لتنسل في هدوء لتحظى بلقاء عاطفي مع احد اصدقائها و تتركه في سلام.
وبعد هذا الخطاب تراجع ابي الى حجرته و وتركنا جميعا نضرب اخماسا في اسداس ونتساءل هل يوجد بيننا حقا من يستحق هذه الهالة من القدسية التي تشع من ابي. ولاول مرة في حياتنا ادركنا جميعا ان ابي كان يخبأ مواهبه و يخفيها محتفظا بها لهذه اللحظة التاريخية و ان شيئا سيئا مستحيل ان يحدث لنا طالما بقينا بالقرب منه. وانطلق تجديد المنزل وملحقاته التي تبلغ 6 منازل اخرى في حماس وتضامن حتى اننا سرعان ما اختصرنا الوقت الضروري للتجديد من عامين الى عام واحد فقط.
الوحيد الذي خرج عن هذا الاجماع الذي تحوطه وتحميه حكمة ابي و طاقة امي كان بالطبع اليزابتا، ربما جزئيا بسبب ان امي توقفت عن اعطائها علب الشيكولاتة ولكن السبب الاساسي كان المدرسة الجديدة.حيث تتوفق اليزابتا ليس فقط على اقرانها بل على حد زعمها على اساتذتها ايضا. "ابن الحرام شاطر"تلك هي الحكمة التي كانت جدتي تكررها دائما عندما كانت ماتزال تتمتع بالقدرة على الكلام، بالرغم من لا احد منا قد توقع ان تنطبق هذه الكلمات النبوءة على اليزابتا بهذا القدر من الصدق.
وذات احد واثناء الغداء اعلنت المراهقة العنيدة ان المنزل بكل ملحقاته مقام فوق تجمع خطر للتيارات الكهرومغناطيسية ،ومن ثم فأن كل مجهوداتنا لخلق نموذج الاسرة المنظمة المترابطة الحسن ستذهب ادراج الرياح حتما. فنحن نتعامل مع قوى لا تدري هي نفسها ماذا تريد، وهي تتصرف وكأنها غيلانا شقية تفعل ما يحلو لها في اية لحظة. وبعد هذا الاعلان ، كانت امي هي الوحيدة التي تنهدت فقد هز الباقون اكتافهم او حكوا رؤوسهم واستمروا في تناول الطعام.
لا تتحمل اليزابتا ردود الافعال البسيطة على استفزازاتها الكبيرة.لذا توجهت مباشرة الى قلب الهدف. فقالت ان ثمة اشياءا غريبة تحدث في المنزل. وحددت فقالت ان العمة مارا قد دأبت منذ فترة ليست بالقصيرة على ملأ السهول والوديان في مناظرها الطبيعية المرسومة بالالوان المائية بالخنازير وليس بالغنم. وان الجدة تتعارك يوميا تقريبا مع احدهم في غرفتها. وان الكتب التي نسقتها امي بعناية ووفقا للترتيب الابجدي لاسماء المؤلفين قد اعيد ترتيبها او بالاحرى بعثرتها مرتين وكل مرة وفقا لابجدية غير معروفة وربما شيطانية.و انه كل ليلة تأتي من ناحية حجرتي اصوات تأوهات و أنات كما لوان هناك من يخنق احدهم.و انها شاهدت العم فلاديمير مرتين اثناء عاصفة رعدية مدوية يقف عاريا حتى خصره في وسط حقل الذرة المجاور رافعا يديه للسماء و يناشد الصاعقة ان تصيبه. وانها لمحت على الطاولة في حجرة بيتر ملاحظات كتبها تفيد انه لاحظ من خلال المنظار المقرب مذنبا عملاقا يقترب من الارض بسرعة كبيرة و انه سيرتطم بها ويحطمها في غضون اسبوعين.وان الخال فينكو قد حفر في حديقته حفرا ليس لزراعة الكرنب ولكن في الواقع هي كبيرة بما يكفي لدفننا جميعا وهو مايزمعه بعد ان تخنقنا الارواح التي تحكم المكان . والحل الوحيد هو ان نبيع المنزل ونعود فورا للبلدة.
خيم الصمت بعد كلماتها البليغة. وتبادل بعض افراد الاسرة نظرات ذات معنى. وحدق البعض الآخر في اطباقهم.ومرة واحدة تحولنا جميعا نحو ابي. كان من الواضح انه الوحيد القادر على توفير الحكم السديد وتقديم التعليق الثاقب. اولا خفض ابي آخر قطعة من الكستليتة نحو فمهو مضغها بقوة وتأن.ثم وفي حرص بالغ تناول فوطة المائدة ومسح بعناية فمه ولحيته. وأخيرا ودون حتى ان ينظر لاحدوقف في بطء واتجه الى حجرته.وبدا لنا انه قد اغلق الباب بعناية واحكام اشد من المعتاد.
كان لابد وان تتسنم امي دور المحكم. فقالت ان بوسع العمة مارا ان ترسم ماتشاء من حيوانات وليس فقط خنازير فهي تستطيع ان ترسم زرافات و سباع بحر وعجول بحراو حتى وحوش ذات رؤوس خمسة فكل هذا محكوم بالوحي الفني. وان الجدة لا تتعارك مع احد في حجرتها وانما فقط تستمع للراديو لانها لا تستطيع النوم.وان الكتب على رفوفها لم تتبعثر من تلقاء نفسها او بفعل عفريت نفريت وفقا لابجدية شيطانية وانما تداخلت وارتبك نظامها بسبب انهيار الارفف تحت وطأة ثقل الكتب. وان اصوات التأوهات و الانات التي تصدر كل ليلة من حجرتي ما هي الا توابع الكوابيس التي كانت تصيبني مذ كنت في الخامسة وليست باية حال نتيجة للاستمناء الشديد وجلد عميرة بافراط وهي العادة التي يمارثها بكثافة الصبيان في نحو عمري. اما بالنسبة لفلاديمير فعلينا ان ندرك ان زوجه شابة خفيفة متهورة وانه قد تأتي اوقات حتى بطل الحرب الاهلية يتعب بالرغم من انه يفتخر بامتلاك العديد من نياشين البارتيزان.اما ملاحزات بيتر فهي مادة للنقاش و الحوار الدائر بينه وبين البروفسير الكبير المشرف على رسالته في الفلك ولن يحدث ان تتبخر الارض لمجرد ان بلهاء حمقاء قررت ان ترعب الاسرة. اما عن فينكو فقد ختمت ماما كلامها قائلة ان لديه لسانا وان عليه ان يقدم تفسيرا فوريا لما ينتوي ان يدفنه في خنادقه التي تشبه القبور.
زعلى الفور اعترف الخال فينكو ان الحفر التي حفرها تشبه القبور فعلا ولكن هوايته تملك عليه كل وقته حتى انه لا يخطر بباله حتى ان يقتل احد منا ولو على سبيل التسلية. ان كل هدفه هو ان يدفن بقايا الادوات الزراعية المغطاة بالاتربة التي تزحم المبنى الصغير في البستان وهو يريد ان يجدده ويحوله الى صوبة زجاجية.ماحاجتنا للمناجل و الجواريف والشوك و المحاريث وغيرها من ادوات لانعرفها نحن الذين ترك اسلافنا حياة القرية منذ جيلين على الاقل وليس لدى احد منا النية في العودة اليها.كل هذه الادوات لاطائل من ورائها و مجرد اثار من زمن بائدولذا لابد من دفنها واخفائها عن الانظار.بعد هذه الخطبة العصماء كانت امي اول من صفق له في حرارة ثم تبعها الجميع –فيما عدا اليزابتا التي اخرجت لسانها لنا وركضت خارج المنزل.
وحيث انني لم اجد شيئا آخر افعله فقد عرضت مساعدتي على الخال فينكو وقبلها على الفور. كانت بعض الادوات الموجودة في المبنى جد ثقيلة حتى انه لم يكن يستطيع حملها بمفرده الى حيث مكان الدفن الذي ازمع ان يواريها التراب فيه. وليظهرلي مدى امتنانه لمساعدتي فقد ترك لي حمل اقذرها واكثرها تهشما واثقلها.و عندما كنا نتعامل مع الادوات الاثقل التي تتطلب شخصين لكي يحملوها كنت دائما بما يشبه المعجزة اجد نفسي احمل الطرف الاثقل او الاصعب حملا.ولشد ما سررت عندما انضم الينا بيتر الذي بدأ في اغاظة الخال فينكو.سأله ماهي الجوانب الفلسفية العميقة الكامنة في حقيقة ان الخال قد يحتاج الى جاروف وهو يدفن جاروفا ؟ والاهم الا يرى في ان دفن الادوات القديمة وشراء اخرى جديدة عند الحاجة اليها نوعا من الرمزية التي تشير الى لا جدوى الكد البشري وسيزيفية العمل الانساني؟
رد الخال فينكو انه قد ترك التفلسف على طريقة التلامذة لطلبة السنة الرابعة من قسم الطبيعة وخاصة اولئك الذين رسبوا من قبل في الفلسفة. اما في رأيه في ما يفعله فأنه يعتقد انه المرحلة الحاسمة في علاج روح الاسرةالتي أجرت طوال اكثر من مائة جيل لعدد لا يحصى من المستغلين بكل اشكالهم من نبلاء لاقطاعيين للكنيسة لمديري المزارع التعاونية لكنها لم تعرق قط وتبذر في الارض بذرة مشحونة بالحب.
في هذه الادوات القديمة يحس المرء بكل معاناة وعذاب روح الاسرة تشع منها ولكن هذه المعاناة وهذا العذاب سيدفنان في الارض الى الابد مع هذه الادوات. وبعدئذفقط سنتحرر حقا-هذا اذا كانت الحرية حقا هي ما نريد او نطمح اليه.ومنذهذه اللحظة ستشارك كل اداة او آلة يأخذها اي منا في يده ويستخدمها في مشاعر تنبثق من حب الحياة و الاستمتاع بها وليس من الخوف من الفقر او السجن.
قال هذه الكلمات في هدوء وسكينة وليس في غضب. ثم طلب من بيتر ان يساعدنا لنخرج من المبنى آخر قطعة متبقية والتي كانت جد معقدة وجد كبيرة حتى انها احتاجت لثلاثة ازواج من الايدي. أخذ كل منا طرف وجررناها بصعوبة من ظلام المبنى الى نور النهار.ووضعناها على الحشيش وفحصناها.تملكتنا الدهشة فانعقدت السنتنا و اخيرا اخذنا نرتجف في ذهول.
لم يكن الشيء يماثل اي شيء قد رآه احدنا من قبل.اولا وقبل كل شيءلم يكن له سطح مستو يرتاح عليه.وتخرج من الكتلة المركزية التي، لم يكن لها لا شكل محددولا وظيفة ظاهرة،وفي كل الاتجاهات دون نظام اوتناسق زوائد من صلب او الومنيوم اوحديد او خشب حتى.ووبعض من خيال،كان من الممكن تمييز اشكال مختلطة من بين هذه الزوائد لجاروف و معول و ربما منجل او آلة حصاد وكذلك محراث و عدة اصناف اخرى من الادوات بالرغم من ان هذه الاشكال كانت اما بدايات اونهايات ما يمكن ان تكونه من ادوات. وفيما بين هذه الاشكال وفي توليفة مترابطة مع الاجزاء الاخرى كان من الممكن تحديد حلقات من سلسلة و نصف ترس و مقعد تواليت و آلية مرتبكة لساعة حائط وثقلين و يد مسودة لصينية مطبخ. لوكانت كل تلك الزوائد و الاجواء المكونة للشيء ملحومة في كل او مربوطة ببعضها بحبل كان بالامكان عندئذ اعتبار الشيء كله نتاج غريب لخيال جامح لنحات حداثي وعندئذ وعبر تحويل الشيء كلية الى نطاق الفن حيث كل شيء متاح وممكن فأننا نحيد الجزء العدواني في تعريفات العلم والذي يتطلب الدقة غير الممكنة في هذه الحالة التي تجمعنا امامها كما لو كنا ثلة من الاطفال.
بعد مجهود واضح وجهد جهيد تمكن العم فينكو من لم شتات نفسه و اعلن اننا سندفن هذه النكتة السخيفة غير المكتملة التي انتجتها قريحة حداد سكران في قرية في الحفرة وننسى كل شيء عن الموضوع. كان بيتر رافضالهذا الرأي تماما.قد يكون الشيء مكونا اساسيا من سفينة فضاء هبطت هبوطا اضطراريا وتحطمت في مكان ما قريب! وعلى اية حال لابد للمرء ما فحص كل ما هو مجهول وتصنيفه عبر تسميته وتحديد وظيفته والغرض منه بحيث لا يخرج علينا فيما بعد من القبشعور في شكل عصاب شديد. لكن العم فينكو اصر في عناد على رأيه، واظن والله اعلم انه كان سيلقي بالشيء في الحفرة بمفرده لو لم تحضر ماما في هذه اللحظة بالذات بعد ان عادت من ماراثون بعد الظهر(كانت قد الغت جري الصباح بسبب الغيث). ذهلت واخذت في تفحص الشيء من كل جوانبه وكانت تضغط هنا و ترج هناك و تحرك ذات اليمين وذات اليسار واخيرا وفي صوت مرتعش من الاستثارة امرتني ان استدعي ابي. وفي خمس دقائق كانت الاسرة كلها حول اللقية بما في ذلك زوجة العم فلاديمير التي كانت قد عادت لتوها من احد غزواتها الغرامية.
غسلنا الآلة العجيبة بمساعدة دفقة من الماء من خرطوم الحديقة ازالت التراب والوسخ عنها.كنا نريد ان نرى ما إذا كان ثمة اثار مخفية للحام او لصق تحت طبقة الارض المضغوطة المتراكمة فوقها. وفحص بيتر الآلة بمساعدة عدسة مكبرة دون جدوى.
كنا جميعا في انتظار ما سيقوله ابي الذي ظل على صمته لفترة طويلة. واخيرا عندما تحركت شفتاه لم يحل ولم يربط وانما سألنا عن رأينا جميعا وما نعتقده بصدد هذا الشيء.
قالت اليزابتا اننا امام آلة جهنمية سبكتها الارواح الشريرة في جنح الظلام من اجل ايقاع اسرتنا في الحيرة والارتباك و بث بذور الصراع فيما بينها و لطردنا من المكان حيث انه من الواضح بما لا يدع مجالا للشك ان هذا المطان لن يعطينا سلاما ولا امنا. انفجرت امي قائلة "حديث خرافة يمكننا فقط الكلام عن الارواح عندما ننتهي واعني ننتهي تماما من فحص كل التفسيرات المنطقية الممكنة"لكن حيث انها لم تتمكن من ايجاد تفسير منطقي واحد فقد صمتت صمتا خجولا.
على اية حال صار من الجلي بعد لحظات ان بحثنا عن تفسير لسر الآة العجيبة الماثلة امامنا لم يحاول فحص الارشيف المعرفي المنطقي الموجود في ذاكرة كل منا وانما كان مسابقة في جموح الخيال. في هذه المسابقة كان لزوجة العم فلاديمير قصب السبق حيث عزت اصل الآداة الى تصادم حدث بين سيارة شبابية و جرار كان ينقل ادوات زراعية ونتيجة شدة الصدمة وانفجار الوقود اندمج كل شيء معا ليتكون شيء لا داعي لأن نشغل انفسنا به ولا نضيع وقتنا الثمين في مناقسته حيث يمكننا تمضية هذا الوقت في اشياء انفع و الذ(في حالتها هي الغزوات الغرامية في المدينة والتي انطلقت على الفور الى واحدة منها بعد ان قالت قولها هذا).
اعلن فلاديمير انه كرجل مادي علمي يرى ان لاوجود لاسرار في العالم لايمكن الوصول لقرارها عبر المقاربة الجدلية التاريخية.كل ما نحتاج اليه هو ان نلقي نظرة على الماضي ونسأل المالك السابق و من كان قبله فهذا الشيء لم يهبط من السماء بل صنع في مكان ما وقد تركه احدهم هنا او وضعه احدهم هنا لافرق. فالمهم ان هناك شخص متورط، شخص ما مسؤول . ومن الضروري تحديد من هو فالحرية ممطنة فقط متى تحددت المسؤولية مهما كانت تافهة او متشابهة.
جلبت العمة مارا عدتها وبدأت في تلوين الاداة المجهولة.واكدت ان الشيء قد سقط من السماء بالرغم ان الامر لايهم بالنسبة للفنان. فكل شيء في الوجود ما هو الا تحد فني اولا ثم تتضح ماهيته او لاشيء بعد ذلك.
تحول ابي الي"وماذا عنك؟" وحيث انني لم اكن اريد ان اعطي انطباع بأن الامر سيان بالنسبة لي فقد اسرعت بالقول انه بالنظر للاسلاك و الغطاء الرصاصي و آلية الساعة في مركز الشيء فاننا اما م قنبلة بلا ادنى شك بعد ان نزع صمام امانها حدث قصور في دائرتها الكهربائية مما ادى الى انفجارها للداخل وليس للخارج.
عقب بيتر قائلا ان الفكرة ليست بهذا القدر الظاهر من السخافة،بالرغم من التروس الموجودة في المركز ليست تروس ساعة وانما هي تروس راديو موجة قصيرة.وسرعان ما احضر ثلاث بطاريات ودفع بهم الواحدة بعد الاخرى الى الوعاء الصغير في مركز الآلية فتنحنح الكائن و اصدر صوتا لرجل بلغة مجهولة- اقرب ما تكون الى العربية-ويبدو انه كان يلقي بيانا او خطابا!!!!
وبايد مرتعشة واعين مغرورقة بالدموع تحلقنا حول المخلوق الشيطاني،نستمع لصوته القادم من مكان لا يعلمه الا الله وربما من الفضاء الخارجي وربما من الكائن الداخلي الموجود في الشيء ذاته او حتى من خيالنا المهزوم الذي تجلط تحت تأثير الحدث بالضبط مثل الاداة الماثلة امامنا فصار الخيال كتلة شوهاء من الشك والتردد. بدأت الامطار في الهطول فغطينا الشيء بغطاء من قماش وعدنا الى حجراتنا.
بدء تجديد المنزل في التباطؤ وأخيرا توقف تماما. و بدء بيتر في اهمال دراساته وقرر في النهاية الا يدخل امتحانات نهاية العام ويؤجلها للعام القادم. قبع الشيء المجهول في منتصف البستان على مرمى البصر من الجميع. وفي هذدوء تحمل القيظ،و الغيث، والرفس و الخبط، والتحليل الكيميائي والتصوير الفوتوغرافي والاهم من كل شيء الاهتمام الجماهيري حيث صار منزلنا قبلة للسياح ومزار يرتاده الحجاج سواء من بلادنا او من الاجانب. وعرض امريكي على ابي ربع مليون دولار ثمنا للشيء الغامض. ورد ابي ان بوسعه ان يحصل عليه مجانا لو اخبره اولا ما هو هذا الشيء و من اين اتى وما الغرض منه. وبعد فترة بدأ اهتمام الزوار و الصحفيين يقلق راحتنا ومن ثم بنينا حول المنزل و البستان سورا عاليا عليه قفلا غليظا يحكم اغلاق البوابة الحديدية الكبيرة. ومنذ ذلك الحين اخذت امي في الجري حول المنزل لتقوم بحوالي مئتي دورة يوميا. وكل بضعة دقائق كان ظلها يبرق امام نوافذنا فيما عدا نافذة ابي التي كانت في الطابق العلوي.
مع العلم بان ابي لم يكن ليلاحظها حتى لو رفرفت بجناحين امام نافذة حجرته.لقد كان غارقا حتى اذنيه في دراساته لهندسة الآلات و الكيمياء و الزراعة و علوم الطبيعة و غيرها من العلوم.كان قد استعار بعض من كتب بيتر والبعض الآخر اما استعاره من المكتبات او اشتراه وجلبه للمنزل في شاحنة. كان يزداد نحولا و شحوبا واخذت عيناه في اللمعان كما لو ان ثمة وميض داخلي يشعلهما كانت هناك نيرانا جهنمية تلتهمه في بطء ولكن في ثبات. وبالمثل لم يؤد منهج ابن العم فلاديمير الى اي نتيجة فبالرغم من انه استطاع حقا ان يجمع معلومات وافية عن تاريخ المنزل و ملاكه السابقين وليس فقط آخرهم،لكن احدهم لا يتذكر انه رأى هذا الشيء حتى.
وبعد عدة شهور،استمرت محاولة البحث عن اجابة من قبل ابي و بيتر،فقد سأم الباقون هذا العمل غير المجدي،وعدنا جميعا بالتدريج لاحوالنا المعتادة و مشاغلنا المستمرة.لقد صار السر مزعجا بل اصبح مدعاة للضحك وخاصة عندما كنا نلاحظ في الهزيع الاخير من الليل من خلال النافذة كيف يقيس ابي وبيتر في منتصف البستان وعلى ضوء المشاعل المسافات والزوايا بين اجزاء الاداة ويدونون كل شيء،ثم نجبر على سماع صوتهما آتيا في صخب متزايد من الحجرة العلوية و عما يتجادلان ويتناقشان حتى اولى ساعات النهار . وذات يوم توسلت امي امام الجميع لابي كي يكف عن هذا السلوك الاحمق الذي لن يؤدي الى شيء الا الدمار وليفعل هذا لمصلحته وان لم يكن يأبه بمصلحته فليفعل هذا لمصلحة ابنه الذي كان نجما في جامعته وصار الآن على حافة الهاوية.قالت له"اتوسل اليك توقف".
صمت بيتر ولم يتفوه بشيء. لكن ابي وللمرة الاولى منذ زمن بعيد خاطب العائلة بنفس الطريقة التي كان يحبها في الاوقات الشعيدة الغابرة قبل ظهور الشيء الغامض. في حياتنا. قال ان الاسرة لم تصاب بسوء الطالع كما يعتقد البعض منا،بل على العكس تماما. فكل شيء في هذا العالم له معناه وهو اجابة على شيء ما . ولا يوجد شيء سواء من خلق الله او من صنع البشر بلا مصدر. ولو كنا والعياذ بالله من الملاحدة ولا نؤمن بالرب فنحن نصدق في نظرية النشوء والارتقاء و نظرية الكم ونظرية الفوضى،وفي ضوء هذه النظريات ايضا فلا مكان لخلق شيء من عدم ولا وجود لشيء في مكان ما دونما علة او فائدة لشخص ما. دعونا نواجه الحقيقة بشكل مباشر:نحن اسرة اضطرت تحت تأثير منغصات الحضارة ان تأخذ الكريق الخطأ وخوفا من الالمصير المحتوم فقد عادت الى الريف بحثا عن جذورها. عسى ان تجد في هذه الجذور دما جديدا و طاقة لبعث الحياة فيها. وبالرغم من انه من المؤطد ان الايمان بامكانية الهروب من القدر هو وهم كبيرفمهما كان الاتجاه الذي ستختاره سيكون عليك ان تواجه ابو الهول الذي لن يدعك تذهب في حالك ابدا. بل سيطرح عليك اللغز الذي يجب ان تحله ان لم تكن تريد ان تجد نفسك مريوطا في مكان او لم ترغب في الفرار عائدا الى المكان الذي فررت منه في المقام الاول. لقد اعتادت اسرتنا على الهروب دائما. من الفقر الى المدينة ومن الفقر في المدينة الى امريكا ومن العالم الغريب الى الوطن ثانية ومن متاعب انحسار الوهم الى الخمر و من الخمر الى العلاج و من مشاكل الحياة الصحيحة الى التصوف ومن هناك نعود مرة اخرى الى الايمان بالقدرة الكليانية للمنطق والعقل.وطوال الاعوام الثلاثمائة الاخيرة لم يجرؤ احد افراد اسرتنا ابدا على مواجهة اللغز العظيم المركزي الموجود في حياتنا اللغز الذي لايمكن ان نتخطاه ولا ان نقفز فوقه ونتغاضى عنه. ولقد حانت لحظة الحسم بالنسبة لنا جميعا .هل سنهرب ثانية ام سنواجه التحدي الماثل امامنا؟ و مع انتهاء هذه الكلمات استدار ابي وتوجه الى حجرته لم يكن قد مس حتى الطعام الموجود في طبقه. ودون كلمة واحدة بدأت امي في النحيب. واخذت قطرات من الدمع الثخين في التساقط على قطع القنبيط التي وضعتها في شرود في فمها.حاول بيتر ان يضيف شيئا آخر،
ربما رغبة منه في تفسير ما قاله ابي او ايضاح ما لم يقله او لم يفسره بما فيه الكفاية. او هكذا ظننت فقد جالت عيناه في وجوهنا وكأنما كان يبحث عن التشجيع و الدعم واننا سنفهم الكلمات التي كان على وشك التفوه بها. والتي لم يستطع اخراجها من اعماقه بعد ان رأى عيوننا الخالية من كل بريق. وهكذا حكم الصمت وصار لون و طعم الحياة في المنزل نصف المجدد وبدا الصمت من الظاهر حكمة في اعظم تجلياتها،بينما كان في الواقع آخر دفاع لنا ضد اليأس الذي كان يتحين الفرصة للانقضاض علينا وخنقنا.
بدأ ابي وبيتر في دعوة "خبراء" الى المنزل. وكانوا يشربون كميات كبيرة من النبيذ ويتفوهون بكلمات كثيرة.صمم احدهم برنامجا خاصا باستخدام كمبيوتر بيتر لتحليل الاشكال والعلاقات بين اجزاء الشيء. وكان هو من اندهش كثيرا من الاجابة التي فاجأته حقا فبعد كل محاولة كان يحصل على رسالة تظهر على الشاشة "اداة من اصل غير معروف" وهو الشيء المعروف لنا جميعا. وبعدئذ بفترة قصيرة وصل الى ابي خطاب من فلاح من قرية بعيدة في الطرف الآخر من البلاد يقول لابي ان هذه الاداة ليست شيئا عجيبا وهو ما يبدو من صورتها المنشورة في الجرائد انما هي في الواقع لاتعدو ان تكون محراثا عاديا. وبدون حتة انتظار رد ابي وجدنا الفلاح يدق الباب بعد ثلاثة ايام وقد برر موقفه بقوله ان الموضوع قد اهمه كثيرا ولم يترك له فرصة كي يستريح. ولو كان لدينا حقلا يحتاج لحراثة سيظهر لنا في لحظات ان الذكاء الفلاحي الفطري يحل كل الالغاز.
استعار الفلاح حقل جارنا وثوره،وساعدنا هذا على حمل الاداة الى الحقل عبر التل و ربطها بالثور ثم امسك الفلاح بيده اليسرى بالزائدة التي تشبه المقود وبيده اليمنى امسك بالاخرى التي تشبه السلسلة وقلب الاداة بحيث واجه السلاح المشرشر الارض و قرقع بالسوط وسحب الثور الاداة وتحرك السلاح خلف الاداة رأينا خطوطا جميلة متناسقة متساوية على الارض. كرر الفلاح"محراث"بعد ان انتهى من حراثى الحقل لآخره. بيد ان الراديو في مركز الاداة كان يذيع اثناء الحرث نفس الصوت الرجالى القوي وبنفس اللغة و بنفس الطريقة التي لم تتغير منذ سمعناها للمرة الاولى. وسأل ابي المزارع هل ازعجه الراديو اثناء الحرث،تردد الرجل قليلا ثم اجاب انه كان يفضل طبعا سماع موسيقى شعبية وبعدئذ بان عليه الحرج وعدم الرضا فانطلق لا يلوي على شيء.
حل الخريف علينا ومعه جاءت السوداوية. كانت ماما قد كفت عن جري الماراثون في الصيف واشترت لنفسها حملا من كتب الطبخ وبدأت في خبز الحلوى التقليدية في الفرن. في مدرستها عضت اليزابتا مدرسة الرياضيات وهربت الى الغابة حيث وجدناها بمعاونة البوليس بعد عدة ايام متسخة تماما وتبكي وفي حالة يرثى لها. واتم فلاديمير كتابة مذكراته الا انه ابدى سخطه عليه واحرقها واقسم الا يكتب حرفا بعدئذ.
وبالطبع لا يمكننا فصل هذا الحدث عن واقعة ان زوجته لم تعد من احد غزواتها ووصل بدلا منها خطابا تخبره فيه انها تهجره:فلو قررت يوما ما ان تكتب مذكراتها عليها اولا ان تجد شيئا تكتبه. اما عن الخال فينكو فقد غير وظيفته وكان يعمل حتى ساعات متأخرة من الليل حتى انه اهمل تماما مشروع الكرنبة!!!
وبعد ذلك وقبل بدايةالثلج ماتت جدتي. و خربشت قبل موتها على صفحة بيضاء في الكراس الموجود بجانب سريرها آخر كلماتها: البرق.
وبعد مرور ثلاثة اسابيع اي قبل الكريسماس بفترة قصيرة اندلع الجدل بيننا حول معنى هذه الكلمة. في رأي امي انها احست مع اقتراب الموت كما لو أن البرق قد ضربها.لكن العمة مارا ادعت انها ارادت ان ترسل لنا رسالة تحمل معنى جد مختلف : الا وهو انها تدعو ان يضربنا البرق جميعنا بلا استثناء. قالت اليزابتا التي قلت نزواتها في الاونة الاخيرة ان كلمة البرق تتعلق في المقام الاول بالشيء الذي مايزال قابعا في البستان بالرغم من اننا قد نسيناه بسبب ان الجليد قد اخفاه عن اعيننا. ذات مرة اصيب المبنى الذي كان يستخدم لمخزن لكل صنوف المهملات بما في ذلك راديو عتيق و كرسي حمام اصابة بالغة بصاعقة من البرق اثناء عاصفة وتحت تأثير الحرارة الشديدة للطاقة النارية اندمجت اجزاء الاشياء المهملات و تحولت الى الشيء الغامض وهذا ما ارادت الجدة ان توصله لنا عبر آخر كلماتها قبل رحيلها عن عالم الفناء و الى عالم البقاء.لم تستطع اليزابتا ان تجيب على السؤال البديهي وهو كيف لم يحترق المبنى وكان رأيها ان تلك معضلة غامضة اخرى ليس علينا ان ننشغل بها.
انتظرنا رأي ابي لكنه لم يقل شيئا،ولم يجرؤ اي منا حتى على محاولة دفعه للكلام،كنا نعلم انه منذ مدة قد عاد للشرب. وان توتره القديم ينمو بداخله بوتيرة غير محسوسة لكن بلا توقف. وكنا نأمل في سرنا ان يعود مع امي الى العلاج النفسي الذي لم ينجح اساسا كما نعتقد بسبب انه سلبهم ميزة التواضع و الانفتاح على المجهول و ادخل اليهم الكثير من الاعتداد بالنفس المتصلب والثقة المفرطة في الذات. ربما عند المحاولة الثانية و مع الخبرة التي تجمعت لديهما ومرا بها سيستطيعان ان يؤثرا تأثيرا حسنا على الطبيب النفسي و من خلاله عليهما وعلى المرضى الآخرين لديه.
بعد ان ذاب الجليد اعدنا الاداة المجهولة الى المخزن واشترت ماما قفلا كبيرا و طلبت مني ان احكم تثبيته على الباب وعندما فعلت اغلقت الباب و القت بالمفتاح في بئر الحديقة.
بدأت في التمشية مع ابي لاوقات طويلة بين التلال المحيطة. كان الربيع على وشك القدوم. واحسسنا ان ماما تحاول ان تعيد ابي الى علاقة مع الطبيعة و مع تنفس الاحياء و الاشياء الذكية و مع رائحة التربة الذي كان يرى فيه ايضا ذات يوم الحل الوحيد والعلاج الناجع من السوداوية التي تنبع من محدودية العقل البشري. لكن قامته ازداد انحنائها. و كشف مظهره عن ثقل الهزيمة الذي لايمكن للمرء ان يخرج منها في شهر او اثنين. لكننا كنا نلاحظ احيانا في عينيه بريق يوحي بأنه من الممكن في عام او اثنين ان يتصالح مع حقيقة ان العالم ملئ بالاشياء و الاحداث التي لايمكن قط الوصول الى قرارها المكين.