Sunday, November 18, 2007

عام آخر او عامين



عام آخر او عامين
ايفالد فليسار

حياتي ليست سيئة،عدا انني بين الحين والآخر اسأم من العمل.لكن الادهى والامر انني اسأم من الاستراليين الذين يزعجونني باسئلة اجوبتها واضحة وضوح الشمس.يحدث احيانا ان يتقدم رجل نحوي من على الرصيف ويقول"سواق،لماذا لا تتحرك؟". وانا اعرف ان الاجابة المؤدبة لابد وان تبدأ بكلمة لأن ولكني احيانا لااجد لدي القوة لمثل هذه التأدبات لاني اكون ضيق الصدر لدرجة انني اقبض على كتف الرجل بيد من حديد و اديره نحو مقدمة القطار واشيرالى الضوء الاحمر. وعادة ما يؤتي هذا ثماره ويحل الرجل عن ظهري.
لكن بالامس سألني رجل يرتدي قميصا ابيض و كرشه اكبر من بكن المرأة الحامل على وشك الوضع سؤالا اكثر غباءا من كل الاسءلة الغبية التي تعرضت لها من قبل. كان القطار في المحطة الرئيسية و اتى الي يلهث من اثر صعود السلم وكأنه يهرب من خياله،وكان بوسعي ان اسمع برميلا من البيرة يترجرج بداخل كرشه وقال"سواق هل يذهب هذا القطار الى المحطة الرئيسية؟" ومن خلفه كانت هناك علامة تفقع عين الشمس مكتوب عليها بخط اسود واضح عريض اننا متوقفون في المحطة الرئيسية.
اعتدت على هذا ولايمر على عادة يوما دونما ان يحاول احدهم ان يسخر مني ،وعادة اظل هاديء وادعي انني اهبل. وهذا يرضي معظمهم ويتركونني وعلى وجههم ابتسامة تعال بلهاء.ولكن بالامس انفجر شيء ما وقلت لنفسي"كفاية".
بيدي اليسرى ضغطت على زرار التحرك فوق بوابة قمرة السائق التي احتلها. ومع تعتعة القطار واستعداده للحركة وجهت قبضة يدي اليمنى بكل قوة نحو كرش البدين الممتليء بالبيرة حتى ان عيناه كادتا ان تخرجان من محجريهما.صرخ الملعون"خنزير اجنبي".هذا هو الحال.
في يوم عطلتي اركب سيارتي و اذهب الى شاطيء بوندي لاشم البنات الاستراليات. معظمهن شابات صبغتهن الشمس باللون البرونزي مثل بسكوت الشكولاتة. وعندما يضحكن تلمع اسنانهن في بياض اشد من الابيض الناصع. وتبدو اجسادهن كما لوكانت تحاول جاهدة ان تهرب من البيكيني من الامام و الخلف و الجانبين. ومرتين او ثلاث جحت في لمح جزء من صدر عار او مؤخرة، بسرعة لانه ليس من الادب ان تحملق كما كانت امي تقول دائما.
لاتوجد بنت واحدة على الشاطيء قد اتردد ولو للحظة في مضاجعتها،ورحمة الله على جدتي التي كانت تستخدم هذه الكلمة كثيرا عند السباب. حتى اقلهن جمالا لديها ارداف تجلب الدمع لعيني عندما اراهم. اعرف بالطبع ان هذا لا يعدو ان يكون حلما في افضل الاحوال.لا توجد ادنى فرصة لدي كي اتقرب من اي منهن.ومعظمهن على كل حال محاط بثلة من المعجبين من ذوي العضلات المفتولة والشعر الذهبي.
بينما تأتي اولئك الخاليات من رفقة الرجال في جماعات من ثلاثة او اكثر وهكذا يسبحن معا و يجلسن معا.
بذلت مجهودا هائلا لتحضير 10عبارات تعارف مؤدبة لفتح باب المناقشة بطريقة تبدو شديدة البراءة.وللاسف حتى الآن لم تسنح لي الفرصة كي اختبر اي من هذه العبارات.عدا مرة واحدة كنت اراقب مجموعة من الفتيات يتشمسن على الرمال.كن6.5شقراوات والسادسة ذات شعر بني ،وواحدة تلو الاخرى جرت الشقراوات نحو الماء والقين بانفسهن في احضان الامواج وهن يصرخن صرخات اثارة. بقت ذات الشعر البني على الرمل و التقطت مجلة وبدأت في تقليب صفحاتها.
قمت على حيلي و شددت قامتي وخبطت صدري.لدي جسد ممشوق وانا اذهب للجيم القريب مني مرتين في الاسبوع فلا يوجد منظر اسوء من منظر شاب بلا عضلات. ووجهي ايضا ليس بالسيء،انا لا ادعي انني وسيم لكن ملامحي لا تخلو من جاذبية هذا على الاقل ما اراه عندما انظر الى نفسي في المرآة.
تقدمت من ذات الشعر البني وقلت"هل رأيتك في القطار بالامس؟" تلك هي احدى عبارات التقديم التي اعددتها.وتابعت"انا سائق مترو انفاق واقسم انني رأيتك تركبين في المحطة الرئيسية" قلبت صفحة من المجلة و نظرت الي. كانت نظرة عابرة اكثر منها متفحصة وقالت دون بلامبالاة"روح موت". غمغمغت باعتذار سريع و انسحبت وليس بنفس القدر من الكرامة الذي تمنيته. والصراحة انني التقطت سروالي و صندلي على عجل و اسرعت مبتعدا عن الشاطيء. ومنذئذ ازددت حرصا. اكتفي بالمراقبة والحلم.
بالقرب من الميناء هناك مطعم اذهب اليه احيانا لتناول طعام الغداء و شراب زجاجة من النبيذ ويحدث هذا في معظم الاحوال في ايام الاحاد والعطلات الرسمية. احدى النادلات من اوروبا، من بلدي في الواقع،تبدو دائما لاهثة والنمش يغطي وجهها.يعلم الله مالذي دعاها للقدوم الى استراليا.لم اسألها قط.ترتدي خاتم زواج عريض وسميك كأنه يقفز في عينك محذرا من اية افكار سيئة قد تجول في خاطرك.لكن لدي احساس ان زوجها يهملها وان مرحها مجرد زيف.
عندما تجلب لي حساء الدجاج-لا تسألني ابدا عما اريد،فهي تعرف دائما انني آت للغداء الموجود في قائمة اليوم وهو الارخص طبعا- تبتسم وتقول"اهلا يانش ااصبحت ثريا؟؟" ابتسم لها ولماذا لاافعل الابتسامة بلا مقابل ولا تكلف شيئا واقول"عام آخر او عامين يا ميلينا عام آخر او عامين!!"وهذا كل شيء. عندما تقدم الطعام للموائد الاخرى تنظر احيانا في اتجاهي من فوق كتفها وتبتسم لو تلاقت اعيننا. وعندما تجلب لي الطبق الرئيسي والسلاطة تموضع نفسها بطريقة تجبرها على ان تقدم الطعام عبر كتفي وعندئذ تحتك بي في خفة. وانا متأكد انها تفعل ذلك عامدة متعمدة.وقد قررت اكثر من مرة ان اطلب منها ان تأتي معي الى السينما.ثم آخذها خارج المدينة في سيارتي ،رحلة قصيرة للتلال،وسأطلب منها عندئذ ان تحكي لي حكايتها في اقل قدر ممكن من الكلمات وبعدئذ وربما في طريق العودة سأركن في موقع آمن بين الاشجار واعطيها ما اعرف انها تتوق اليه بشدة!! هي غير جذابة بالنسبة لي على الاطلاق،لكن ما المشكلة؟سأغلق عيناي و الموضوع لن يكلف شيئا وهي ستتمتع.انا متأكد ان هذا هوالسبب الوحيد الذي يجعلها لطيفة معي.
المشكلة انني لا اجد الوقت.لو لم اكن اعمل انام. وان لم اكن نائما افضل ان اعمل باسرع ما يمكن كي لا انفق المال فيما لاطائل وراءه. في وردية الصباح يبدأ يومي بالاستيقاظ في الثالثة صباحا واقود سيارتي الى المحطة الرئيسية.ثم ابحث عن رئيس الوردية كي يقوم بتوقيع الساعات التي عملتها في اليوم السابق ثم القي نظرة سريعة على الجدول اليومي ثم اسرع الى رصيف كذا وكذا لاحل محل السائق في هذا
القطار او ذاك. وانتظر صعود ونزول الركاب.ثم اطلق صافرتي و اضغط على الازرار التي تغلق وتفتح ابواب القطار باستخدام ضغط الهواء.و اضغط على الزر الذي يطلق الصافرة في قمرة القيادة وينطلق القطار في طريقه.
تتوالى المحطات داخل المدينة وكأنها سلسلة من الكوابيس،ما ان تغيب احداها في النفق من خلفنا حتى تلوح الاخرى في النفق امامنا وما ان اغلق الابواب واجلس حتى اجدني واقفا لافتحهم ثانية وهكذا بلا انقطاع....
افضل كثيرا ان اعمل ايام الاحاد،لان الساعات تدفع مضاعفة.وازور البنك مرة كل شهر وادفع من خلال النافذة حزمة من نقود اقتطعها من اجري وتسجلها موظفة البنك الشابة المثيرة في كمبيوتر البنك و دفتر التوفير الخاص بي.وتلك هي اسعد لحظات حياتي.احيانا اسمع زغاريد وموسيقى ترن في اذني.اقسم على هذا. وتعرف ميلينا اننا اوفر مرتبي في البنك ولذا ولهذا تسألني دائما ان كنت قد صرت ثريا.و لاانفك اجيب عليها"عام آخر او عامين يا ميلينا عام آخر او عامين!!"
انا احتفظ بدفتر التوفير في جيب القميص بالقرب من قلبي. بسبب خشيتي من ان يسرقه احد وايضا بسبب انني احب ان افتحه بين الفينة والاخرى لكي اختلس نظرات الى الارقام و حركة النقود واقرأ قواعد الادخار. السبب الاهم هو انني لا اريد ان تعبث السيدة هورتي صاحبة المنزل بدفتري. انها سيدة جد فضولية تحشر انفها في امور الآخرين،وهي تفتش ادراجي و تفتح حقائبي و تعبث باصابعها في مقتنياتي. ولو عرفت كم من المال ادخر فاكيد انها سترفع الايجار وتضاعفه بين عشية وضحاها.
انا اتناول وجباتي معها ايضا. الفطور والعشاء او الفطور والغداء على حسب وقت عودتي من العمل. وعادة ما يحدث ان اتناول عشائي في الثالثة صباحا و افطاري في الرابعة بعد الظهر. السيدة هورتي لا يهمها هذا على الاطلاق. انها لا تنام ابدا وتجلس طول الوقت في سريرها لتشاهد التليفزيون. ولم يحدث قط ان عدت من العمل ولم اسمع الاصوات المألوفة للمسلسل مع فتحي لباب الغرفة.حاسة السمع عندها خارقة
ولم تفشل قط في سماع صوت ايلاجي المفتاح في الباب.عندئذ تصيح"يوهانس" بعد ان ادخل الردهة.و تتابع"تعال،وشاهد معي هذا البرنامج اللطيف".احيانا ادعي الطرش،و ادخل حجرتي و ارقد،ولكن معظم الوقت احس بالاشفاق عليها فارد"دقيقة واحدة يا مدام هورتي.دعيني اولا اغسل يدي"ثم اذهب اليها وانا مرتديا اليونيفورم واجلس على كرسي فوتاي بالقرب من السرير و اشاهد اي شيء غبي موجود في التلفزيون.
ما يضايقني اكثر هو تعليقاتها المستمرة.لوكانت تشاهد فيلما تصرخ باستمرار"كنت متأكدة انه سيفعل هذا".ولوكانت تشاهد برنامج مسابقات تحاول الاجابة على كل الاسئلة وعادة تكون كل اجابتها خاطئة. ولو كانت الاخبار تزم شفتيها وتتأوه وتقول"عل ترى هذا يا يوهانس،يا له من عالم صعب هذا العالم الذي نعيش فيه"واوافق على كلامها دائما قائلا"حقا يا مدام هورتي"
وتقوم مرة واحدة على الاقل كل اسبوع بتقديم وصف دقيق مفصل لكيفية هروبها عام 1956 من المجر وكيف كادت ان تغرق وتتحطم سفينتها في طريقها الى استراليا وكيف انقذها الرب لتنعم بخيرات خلقه طوال عدة سنوات اخرى.وقد تضاعفت تلك السنوات كثيرا ففاقت كل سخاء قد تحلم به،وهي في الحقيقة من اولئك الذين ينساهم الموت فيتجاوزون السن المعقولة للرحيل.لقد تجاوزت بالتأكيد زوجها الالماني الذي اشترى لها منزلا في احد ضواحي المدينة و زاد كرمه فترك جارهم يدهسه وهو يدخل سيارته الى المرآب ورحل تاركا لها مايكفي من المال كي تعيش حياة كريمة دون عمل او تفكير في مستقبل.
ويبدو لي انها منذ هذا اليوم لم تبرح سريرها.بين الحين والآخر اعرض عليها ان آخذها في نزهة الى مكان ما:البحر او الحديقة العامة لتشم الهواء النقي.لكنها دائما ماترد على قائلة"لا يا يوهانس هناك برنامج مثير في التلفزيون واخشى ان يفوتني" ومرة كل اسبوع تعطيني قائمة طويلة من المشتروات فاذهب الى السوبرماركت واعود محملا بالبقالة ومسحوق الغسيل وغير ذلك مما تحتاجه .وهي تطبخ عندما اكون في العمل وتترك الطعام لي على الفرن. وبالرغم من انني اقيم عندها منذ حوالي ثلاثة اعوام تقريبا لم ارها قط خارج السرير.تجلس عليه وحولها اربع وسائد كبيرة يسندونها. وترتدي دائما قميص نوم حريري له ديكولتيه واسع يكشف عما ارى انه الكثير من صدرها الناشف المقشف. اما عن وجهها فهويشبه وجه زعيم من زعماء الهنود الحمر قبل المعركة. وعلى المائدة المجاورة للسرير تحتفظ دائما بمجموعة من المجلات التي تنشربرامج التلفزيون وصندوقا من بسكويت الشيكولاتة ولا تتوقف عن التهامه وتتساقط الفتات على صدرهاوعلى اللحاف وعلىالارض
في احيان كثيرة ىتستطيع ان تقرر ماذا تريد ان تشاهد و تستمر في الضغط على ازرار جهاز التحكم عن بعد في جنون.ثم تقول"يوهانس،قل لي ماذا تريد ان تشاهد؟"واقول لها اي شيء يامدام هورتي اي شيء الامر سيان عندي" وهنا تصل لحالة يأس واحيانا تحاول اجباري على اختيار برنامج. ولابد ان اعترف انني احيانا اشفق عليها فالقي نظرة سريعة على البرامج واختار اول مسلسل ممل يصادفني.وهذا يؤدي الى راحة فورية وان كانت مؤقتة.مؤقتة لانها سرعان ماتبدء في الاحساس بالغضب لان عليها انتشاهد شيئا لم تختاره بنفسها.ولذا تجدها لاتمانع عندما اقول اني اود ان ارقد قليلا،وما ان اصل الى الصالة اسمعها تغير القناة.
في حجرتي الصغيرة والتي تحتوي على سرير ودولاب ملابس ومكتب ادراجه لاتفتح استخدمه كطاولة ينتابني عادة شعور لااستطيع تحديد اسمه.كل ما اعرف انه ليس التعب.لو كنت متعبا وانا لا اعود من العمل ابدا الا متعبا جدا اجدني ابدأ في الشخير ما ان اضع رأسي على الوسادة.وعادة يتسلل هذا الشعور الي في منتصف الليل فأجدني وبدون سبب على الاطلاق استيقظ،و ابدأ في التفكير في الدنيا!!.
في افكاري اعود عادة الى القرية التي شببت فيها والتي مايزال والداي يعيشان فيها على نتاج قطعة صغيرة من الارض. واتذكر شجرة الكرز التي اعتدنا الجلوس تحتها و شرب عصير التفاح المخمر او السيدر ايام الاحاد. واتذكر ماري ابنة الجيران التي كانت تكبر لتصير فتاة جميلة مستعدة لاي شيء لو كنت بقيت هناك لفترة اطول.لكن الافكار التي تعتريني معظم الاوقات تتعلق كثيرا بمستقبل الايام. ومتى ما مفكرت في هذا الامر اسحب دفتر التوفير الخاص بي و احاول ان احسب كم النقود الذي ينبغي لي توفيره.
المشكلة ان اية كمية اتمكن من توفيرها تبدو اقل من الكفاية دائما.بعد العام الاول قلت"هذا الكم،وكفى"لكني عندما حصلت الرقم المنشود وجدته فجأة ضئيلامتواضعا غير كاف.اعدت النظر في مخططاتي،ولكن عندما وصلت للرقم المنشود المعدل وجدت انه ايضا غير كاف!!!
وهكذا...انا ببساطة غير قادر على التوفير بما يكفي.انا انفق اقل القليلنوافكر في كل مليم قبل ان ادعه يذهبنولا ارتاد البارات الغالية ولا حتى المطاعم.ولااشتري لنفسي ملابس غالية،وكل ما ارتديه بجانب اليونيفورم وهو بالمجان على كل حال هو بنطلون من الجينز الرخيص،وحلة ينقصها زر و على المرفقين رقعتان. انا لا يمكن ان اكون مسرفا باية حال،ولكن بالرغم من هذا لا استطيع ان اطرد هذا الشعور الذي يراودني بان رصيدي في البنك لا ينمو بالسرعة الكافية و احس بنفاد صبري.
ليس الامر هو انني اريد ان اغتني واصير ثريا. كل ما اريده هوان استطيع ان اقول :حسنا، الآن لا يهم سواء اصبت بعاهة مستديمة او قررت الكسل بقية ايام حياتي فرصيدي في البنك كبير بما يكفيني طوال بقية ايام عمري. وعندئذ وعندئذ فقط يمكنني ان اتنفس الصعداء. سارقد في الحديقة العمومية واشعل سيجارا ضخما كبيرا،وابدء في الحياة.اعرف بالضبط ما سوف افعل. سأشتري قصرا يطل على البحر في الريفيرا الفرنسية ربما بالقرب من كان،قصرا به شرفات متعددة فسيحة وحجرات متسعة جميلة وسأقوم بتأجير حجرات القصر فقط للشابات الاجانب الجميلات ومعظمهن شقراوات ومعظمهن المانيات او سكندنافيات !!!
سأطلب رؤية جوازات سفرهن قبل ان اؤجر لهن غرفي و إذا وجدت ان اي منهن يتجاوز عمرها 25سنة سأهز رأسي في ادب وانا اقول بالالمانية"آسف ليس لدي حجرات خالية". وساشتري قاربا سريعا بموتور،سأستخدمه كي اقل ضيفاتي الى الشواطيء الرملية البعيدة. وفي المساءآخذهن الى الديسكو لاراقصهن.وهلم جرا والباقي تعرفونه!!!
المشكلة ان القصور في الريفيرا الفرنسية تبدو غالية بعض الشيء!!!
وعندما يعتريني شعور نفاد الصبر هذا او الحزن او سمه ماشئت،اسرع للعمل فعلي الاقل تمر الساعات بشكل اسرع اثناء العمل و كل ساعة مدفوعة الاجر.تلك الساعات الفارغة بين ساعات العمل تمتلأ بالقلق و الاضطراب و الانتظار و الجلوس في اماكن مجانية ما لم اخلد الى النوم. لو ذهبت للشاطيء اعود في حالة مزاجية سيئة،إذا ذهبت لاي مكان آخر فهذا يكلف نقودا...
وهناك شيء آخر بدأ في اقلاقي.احيانا اجدني وانا نائم او شبه نائم في المنزل يتملطني احساس غريب يدفعني للقيام والضغط على زر متخيل فوق رأسي. ونفس هذا الاحساس ينتابني وانا اتسوق او حتى وانا اتمشى في الشارع. في البداية كنت احب ان اعمل ليلا وانام نهارا.لكني الآن اجد ان الوردية الليلية منفرة ويزداد نفوري منها باستمرار. لااستطيع النوم اثناء النهار. ففي النهار تكثر الضوضاء في الشوارع،ولا يفصلني عن حجرة السيدة هورتي الا جدار رقيق،وكل 5دقائق اسمعها تصرخ "اعرف انه كان سيفعل هذا".و اخيرا عندما اسقط في النوم يستمر عملي في احلامي:انا في القطار،اضغط الزر،اجلس ،اقف.
معظم رحلاتي دائرية.ابدأ من المحطة الرئيسية،وانطلق بالقطار غربا ثم جنوبا فالى الجنوب الشرقي ومنه اعود الى القرب عن طريق الشمال وبعدئذ الجنوب مرة اخرى.وعادة اقوم بخمس جولات من هذه الدورة.او قد اذهب الى آخر محطة على الخط ثم اكر عائدا.
ولأن الخط يجري تحت الارض في المدينة فقط اما في الضواحي فهي محطات علويةتتشابه و لا تنتهي.وعادة احس انني ذاهب الى لا مكان.
يمتد على جانبي الطريق بحر لا ترى له آخر من الحدائق الخضراء والمنازل ذات السطح الاحمر،مهما كان اسم المحطة فان المنظر لا يتغير من النافذة نفس البحر الممل من المنازل والشوارع المتشابهة يمتد لمسافة 30كم او 40كم او 50 كم او الى مالانهاية كم.لقد انهيت كل هذا في عام واحد ،لقد سافرت مسافات تعادل نضف الكرة الارضية.شيء غريب حقا:السفر دون ان الوصول الى اي مكان!!!
توصل زملائي الى وفاق مع هذا النوع من الحياة.يتحركون مثل الاناس الآليين وهم يرتدون زيا موحدا بين القطارات الرجراجة والضواحي المتشابهة لمدة 50او60 ساعة اسبوعيا.والشيء الوحيد الذي يخيفهم على ما يبدو هو الراحة.
حسنا انا لن اقع في هذه المصيدة!!لايمكن. سيحين اليوم الذي تصل فيه مدخراتي الى المستوى الذي استطيع ان اقول عنده:كفاية. الى حين هذا علي ان اتحمل عذا النوع من الحياة.
منذ اسبوع صادفني حظ حسن على الشاطيء.كانت هناك فتاة شقراء متموجة الشعر تتشمس بمفردها.ليست رائعة الجمال ولكن لديها تضاريس جيدة مقبولة على الاقل. استجمعت كل شجاعتي ومررت امامها نحو البحر.سمعت خطواتي على الرمال و شاهدت ظلي يمرفوقها وانا امر امامها. بالرغم من انني لست متأكدا الا انني واثق من انها جلست من وراء ظهري وتابعت تقدمي نحو البحر واهتمت اهتماما خاصا باكتافي العريضة و ردفي وهي اجزاء استطيع بلا فخر ان افتخر بانها من افضل اجزاء جسدي.
انا ايضا واثق تماما انها شاهدتني وانا اقف بلامبالاة كما تقول الناس بالقرب من الماءوكيف ادرت وجهي وكأنني انظر الى الشمس-كنت اريد ان اجعلها تشاهد المنظر الجانبي او البروفيل كما يقولون وهو من مناظري التي يحق لي ان افتخر بها.
وانا اقتفي اثار خطواتي عائدا كانت راقدة على بطنها تقرأ كتابا،لكن عندما مررت بها رفعت رأسها واعطتني ابتسامة خاطفة.اندهشتبل صدمت حتىوتجمدت متحولا الى تمثال في التو واللحظة.حاولت ان ارد الابتسامة لكن وجهي تصلب فلم استطع اخراج اي شيء الا تقطيبة غبية،يعلم الله ماذا ظنت. لقد خجلت حقا من نفسي حتى انني اسرعت بجمع ثيابي وانصرفت.
انا الآن اعود للشاطيء في كل لحظة فراغ اغتنمها. واجوس الشاطيء من اوله لآخره بحثا عنها. لم اراها حتى الآن لكني متأكد انها سترجع يوما مالقد بدأ الصيف لتوه.عندما اراها ثانية لن اتردد بل ساتقدم منها واقول بصوت رجالي خشن"الم ارك في القطار بالامس؟ يمكنني ان اقسم انني رأيتك تركبين من المحطة الرئيسية؟"
ثمة اشياء اخرى حدثت في الآونة الاخيرة وليست جيدة.لقد خفض البنك الفائدة على المدخرات بمقدار وصل الى 2% بين عشية وضحاها ودونما سابق انذار والحق يقال انا لااعتقد ان ثمة طريقة ابشع من هذه لمعاملة العملاء.وقدم البدين الذي حاولت ان افثأ كرشه المليء بالبيرة شكوى ضدي وساواجه لجنة تأديب.ايضا فالمصائب لاتأتي فرادى حولوني الى مجموعة عمل جديدة يقل العمل فيها ايام الاحاد.
لكن اسوء شيء هوانه ليلة امس سكرت السيدة هورتي بشدة وقالت لي ان بامكاني تمضية الليل معهاإذا احسست بالوحدة في حجرتي،كيف سأخرج من هذا المأزق،لا اعرف !!
اليوم استطعت ان اغتنم لحيظات قليلة كي اتناول غدائي في المطعم الصغير القريب من الميناء.وعندما اقبلت نحوي ميلينا حاملة الحساء المعتاد ابتسمت وفتحت فمها لتسألني السؤال المعتاد لكني بادرتها قائلا"اهلا ميلينا هل اغتنيت؟" استطعت رؤية يدها تتوقف لحظة قبل وضع الحساء على المائدة ثم اجبرت وجهها المليء بالنمش على الابتسام ابتسامة تحمل من المرارة عشر اضعاف ما تحمل من الحلاوة وقالت"عام آخر او عامين يا يانش عام آخر او عامين".





Saturday, October 27, 2007

نهاية التاريخ ايفالد فليسار

من العسير علي ان اصف الفرح الذي تملك كل افراد اسرتنا عندما انتقلنا من البلدة الى الريف.وحتى العمة مارا التي كانت تنزع دائما الى المبالغة لم يكن بوسعها الادعاء ان ثمة شيئا مماثلا قد نقلها مثل هذه النقلة الحياتية.الاحساس الوحيد الذي يمكن ان يقارن بالشعور الذي غمرنا ونحن نفرغ سيارة النقل من محتوياتها ونحمل اجزاء العفش الى الحجرات الجديدة،وهذا في رأي اخي بيتر،هو احساس جدتنا الطاغي بالراحة لما عرفت في نهاية الحرب العالمية الثانية ان ابنها البكري،زوج مارا لم يمت في معتقل اوشفيتز،ولكنه سيعود للمنزل.(لكن لابد ان نذكر ان فرح مارا الطاغي والعلني كان اكبر عندما ابلغونا ان ثمة خطأ وان رغبة زوجها في حرق جثمانه بعد وفاته قد تحققت!ولو ان هذا قد حدث بشكل معكوس فقد كان الحرق سابقا على الوفاة،الا انها ترى ان الترتيب لا اهمية له في هذه الحالة)
بيد ان هذه الاحداث كانت في الماضي السحيق وقد نسيت او كادت تصير في عداد المنسيات،الا لو اريد استخدامها كاهانة في تلك اللحظات التي يسود فيها الاضطراب العائلة و يريد البعض منا ان يلقي في وجه الآخرين من الاقارب اسوء الاشياء الممكن تذكرها.بالطبع،كان انتقال القبيلة-كما يسمينا بعص الخبثاء من الجيران-النقيض الواضح لهذه اللحظات المذكورة آنفا. كانت الوجوه لامعة،حتى وجوه معتادي الكآبة فيما بيننا.وحتى جدتنا التي اصابتها جلطة في المخ،فشلت نصف وجهها الايسر،استطاعت بمعجزة ان تنجح في توسيع الجانب الايمن من فمها!
لم يكن المنزل في ذاته شيئا متميزا،كان على طرف القرية،ويذكرنا بالخان الريفي المهمل الذي يحتوي على مخزن للغلال وقبوللنبيذ ترك به المالك السابق كنوع من ابداء النوايا الطيبة(او الشريرة؟) بضعةبراميل من النبيذ(ولسوء الحظ او لحسنه تخثرت تماما وصارت خلا كما اعلنت خبيرة تذوق اطايب العيش،العمة مارا).ايضا كانت هناك عدة مبان اضافية،كان بوسعنا فقط ان نخمن فيما كانت تستخدم.احدها بالتأكيد كان حظيرة خنازير.حددت هذا الامر ابنة العم اليزابتا،وهي الابنة غير الشرعية لمارا.لا تحس اليزابتا فقط بالروائح التي لا يعرف معظم الناس بوجودها حتى،لكنها تحس ايضا بتاريخ الاماكن،وكذلك تستشعر كثافة الالوان التي تصبغ الاحاسيس التي تترك معلقة في الهواء وتظل على هذه الحال لفترة طويلة بعد ان تنتهي الاحداث التي انتجتها في المقام الاول.قالت وهي تدخل الى المنزل الجارجي الذي قررت العمة مارا، وهي رسامة هاوية ذات طموحات كبيرة لا تقابلها موهبة، ان تحوله الى مرسم،"اشم رائحة الخنانيص".
ولحسن الحظ لم يسمعها الاي وامي.وعندما مدت اليزابتا انفها واضافت انها تستطيع ان تشم رائحة الخوف القاتل الذي اعترى تلك الكائنات الصغيرة عندما كانت تساق لتذبح في الفناء،هبت فيها امي طالبة منها الصمت بحق الرب!فرغم كل شيء كانت العمة مارا هي التي اختارت المنزل الخارجي ليكون مرسمها بسبب المنظر المطل على النهر والوادي و التلال المحيطة؟بالاضافة لهذا،سيعاد طلاء المكان ويهوى بعناية و في غضون لحظات ستفوح منه رائحة هي مزيج من الوان العمة مارا وعطورها.وعلى اية حال فحتى الاسر الانجليزية العريقة تقطن في قصور كانت من قبل اسطبلات خيول.
وفي صوت هاديء اعلنت اليزابتا انها ستلزم الصمت ولن تتكلم عن الموضوع ثانية في مقابل 3صناديق من الشيكولاتة متوسطة الحجم. وردت امي"2"وفاصلت اليزابتا"من الحجم الكبير"وقبلت امي"حسنا ولكن هذه آخر مرة"
لم تشك قط العمة مارا في ماهية الاصوات التي حلت محلها اغنيات الاوبرا الباروكية التي تصاحب عملها في محلها الجديد والفرشاة في يد والسيجارة في الفم من اجل تحقيق "رؤيتها المتجددة". ولكن مرة اثناء العشاء وعندما لاحظت اليزابتا بصوت عال ان الاغاني التي تسمعها العمة مارا تذكر المرء بقباع الخنازير،انزعجت العمة مارا بشدة،بالرغم من ان امي اسرعت وقرظت اسلوبها الجديد مما خفف من تأثير الملاحظة المزعجة حتى انها نسيت ان تقرع اليزابتا وتنعتها بانها" ابنة حرام" واستجابة لهذا التقريظ انخركت في سعادة في شرح مطول عن الفرق بين الالوان المائية والوان الزيت مما ابهج اعضاء الاسرة الآخرين،وسرعان ما اخذ كل فرد في الانسلال من المائدة مقدما اعذارا اقل ما يقال عنها انها واهية كي لا ينهي طعامه.وفي الصباح التالي اعطت امي لاليزابتا علبة اخرى من الشيكولاتة.
بالرغم من هذا كان يبدو ان حياة الريف ستضمن لكل فرد تحقيق اقصى امنياته.بالنسبة لجدتي رائحة التربة المحروثة حديثا،وخوار الابقار القادم من بعيد وغيرها من الاصوات والروائح التي تذكرها بطفولتها. وكتبت على قصاصة ورقية بسبب ان جلطة المخ قد حرمتها من القدرة على الكلام"القرنفل،سيزهر القرنفل في كل مكان وسننام بجانب النوافذ المفتوحة بحيث تتسلل روائح زهر القرنفل الينا وتحملنا مع آخر انفاسنا الى العالم الآخر".وكانت امي تأمل في ان تقيم في المنزل الجديد مرطزا خاصا للتأمل والحياة الصحية،وايضا وجدت فراغا يكفي لترتيب مالايقل عن 2000كتاب في بوذية الزن(تفريعة خاصة من البوذية تنتشر في كوريا وتقوم على فكرة التركيز عبر رياضة القوس والسهم-المترجم) واليوجا وغيرها من مكونات العصر الجديد -عصر الدلو. بعد ان تقاعدت امي وتركت عملها كمدرسة في مدرسة ثانوية كانت تلك المسائل هي شغلها الشاغل والوحيد الذي كرست اليه نفسها كلية.
وكان اشد ما اسعدها هو طرق الريف التي تلتف في رقة نازلة الى الوادي ثم تأخذ في الصعود الى الغابة،كما لوكانت قد وجدت كذلك بشكل متعمد لمساعدتها في جريها اليومي الصباحي او الماراثون الصغير،كما يسمى الطبيب النفسي هذا النوع المتطرف من تعذيب الذات ،وهو الطبيب النفسي الذي حضرت امي وابي طزال اعوام عديدة برنامجه للوصول الى الحياة الصحيحة،وكان هذا في البداية لعلاج ابي من ادمان الكحول.وبعد اعوام طويلة من الصراع المرير ضد مناهج الطبيب النفسي فقد ابي فجأة كل متعة ليس فقط في الشراب ولكن ايضا في كل مباهج الحياة الاخرى بما في ذلك تلك التي لا تريد امي منه ان يتركها.ومن ثم فقد صار ماراثون الصباح الذي تجريه يوميا سبيلها الوحيد لمعادلة فائض الطاقة المتراكم بداخلها بسبب لا مبالاة ابي.ولأن ابي كان يدرك هذا جيدا فقد كان يوميا كل مساء يقوم بملأ المنبه لايقاظها في الموعد المحدد لتستطيع امي ان تجري!
وبعد ان تركا البرنامج الصحي مباشرة بناءا على طلب ابي ،ذهب لمقابلة ناظر المدرسة الداخلية التي كان يدرس التاريخ فيها طوال 30عاماوطلب احالته الى التقاعد المبكر.وقال نهاية التاريخ.ولم يكن هذا بناءا على رأي فوكوياما،لكن بسبب النجاح الذي حققته امتنا الصغيرة
فالحرية تلك النعمة المختلطة التي لا يدري المرء ان كانت نعمة ام نقمة، قد دمرت تماما كل ارضية قد تنبت صراعات مأساوية او افكار عظيمة،وبذرت اعشاب الانشقاق ضيق الافق ،و الطعن في الظهر كما في عالم المال و الاعمال،وتفاهات وسائل الاعلام الجماهيرية.وبين عشية وضحاها تحول العلم الذي كان يدرسه الاوهو التاريخ الىشيء متحفي غرائبي،وحيث ان لا نية لديه للمشاركة في هذه المهزلةفهويريد الانسحاب وبالطبع مكافأة مجزية .
كان الناظر ابن عم امي وصديق للعائلة ولذا بعد عناء رضخ لمطلب ابي.وكانت المكافأة هي المبلغ الناقص المطلوب لتكملة ثمن المنزل الذي اشتراه ابي ليجد كل فرد من افراده- كما قال تحديدا – الحرية الحقيقية التي هي مصدر السعادة الوحيد.واضاف في جدية ان واجبنا ان نكون احرارا فالدولة الحرة تحتاج مواطنين احرار.
فهم ابي السلام على انه الاسترخاء التام في حالته، على العكس من امي التي ارادت دائما ان تظل الى الابد شابة وكانت على استعداد لأن تموت في سبيل هذه الامنية،ولذا قرر ان يتبع نصيحة يونج: ان الرجال الذين هم على مشارف الستين يجب ان يودعوا تلك الاشياء التي كانت تلائم اعوام الصبا،ويتجهوا الى التأمل الداخلي في ذواتهم،كي يتمكنوا من تكوين لوحة فسيفسائية من كل ذكريات الحياة لتكون تلك اللوحة معنى لوجودهم وفي نفس الوقت تصير الجسر الذي يربطهم بالرب. ولكنه اكد ايضا انه سيظل دائما متاحا بالرغم من ان شاغله الشاغل سيكون التأمل و هو يتوقع منا ان نحترم حاجته للابتعاد عن العالم الخارجي للاقتراب من كينونته الداخلية حيث تنتظره العديد من المهمات الجليلة. فقد حظينا جميعا بما كنا نتمناه: بيتر مكان مثالي ليضع منظاره المقرب ويحملق في النجوم، وانا فرصة لا تعوض للتجول بلا هدف بين الغابات و الخوف بلا جدوى من المستقبل الذي لن يختلف كثيرا عن الحاضر في حالتي. و حصل خالي فينكو وهومحاسب تملكته منذ سنوات عديدة فكرة زراعة اكبر رأس من الكرنب في التاريخ وبذا يحصل على حق دخول موسوعة جينيس للارقام القياسية،على التربة الغنية،بينما حصل ابن عم ابي فلاديمير على الزمن والهدوء اللازمين لاتمام مذكراته عن الاعمال البطولية التي اداها اثناء سنوات الحرب الاهلية في يوغوسلافيا السابقة و بطولاته بين البارتيزان(انصار الماريشال تيتو الذين حرروا يوغوسلافيا من النازي- المترجم) وزوجته الاصغر منه بخمس وثلاثين عاما كريقا جيدا لتنسل في هدوء لتحظى بلقاء عاطفي مع احد اصدقائها و تتركه في سلام.
وبعد هذا الخطاب تراجع ابي الى حجرته و وتركنا جميعا نضرب اخماسا في اسداس ونتساءل هل يوجد بيننا حقا من يستحق هذه الهالة من القدسية التي تشع من ابي. ولاول مرة في حياتنا ادركنا جميعا ان ابي كان يخبأ مواهبه و يخفيها محتفظا بها لهذه اللحظة التاريخية و ان شيئا سيئا مستحيل ان يحدث لنا طالما بقينا بالقرب منه. وانطلق تجديد المنزل وملحقاته التي تبلغ 6 منازل اخرى في حماس وتضامن حتى اننا سرعان ما اختصرنا الوقت الضروري للتجديد من عامين الى عام واحد فقط.
الوحيد الذي خرج عن هذا الاجماع الذي تحوطه وتحميه حكمة ابي و طاقة امي كان بالطبع اليزابتا، ربما جزئيا بسبب ان امي توقفت عن اعطائها علب الشيكولاتة ولكن السبب الاساسي كان المدرسة الجديدة.حيث تتوفق اليزابتا ليس فقط على اقرانها بل على حد زعمها على اساتذتها ايضا. "ابن الحرام شاطر"تلك هي الحكمة التي كانت جدتي تكررها دائما عندما كانت ماتزال تتمتع بالقدرة على الكلام، بالرغم من لا احد منا قد توقع ان تنطبق هذه الكلمات النبوءة على اليزابتا بهذا القدر من الصدق.
وذات احد واثناء الغداء اعلنت المراهقة العنيدة ان المنزل بكل ملحقاته مقام فوق تجمع خطر للتيارات الكهرومغناطيسية ،ومن ثم فأن كل مجهوداتنا لخلق نموذج الاسرة المنظمة المترابطة الحسن ستذهب ادراج الرياح حتما. فنحن نتعامل مع قوى لا تدري هي نفسها ماذا تريد، وهي تتصرف وكأنها غيلانا شقية تفعل ما يحلو لها في اية لحظة. وبعد هذا الاعلان ، كانت امي هي الوحيدة التي تنهدت فقد هز الباقون اكتافهم او حكوا رؤوسهم واستمروا في تناول الطعام.
لا تتحمل اليزابتا ردود الافعال البسيطة على استفزازاتها الكبيرة.لذا توجهت مباشرة الى قلب الهدف. فقالت ان ثمة اشياءا غريبة تحدث في المنزل. وحددت فقالت ان العمة مارا قد دأبت منذ فترة ليست بالقصيرة على ملأ السهول والوديان في مناظرها الطبيعية المرسومة بالالوان المائية بالخنازير وليس بالغنم. وان الجدة تتعارك يوميا تقريبا مع احدهم في غرفتها. وان الكتب التي نسقتها امي بعناية ووفقا للترتيب الابجدي لاسماء المؤلفين قد اعيد ترتيبها او بالاحرى بعثرتها مرتين وكل مرة وفقا لابجدية غير معروفة وربما شيطانية.و انه كل ليلة تأتي من ناحية حجرتي اصوات تأوهات و أنات كما لوان هناك من يخنق احدهم.و انها شاهدت العم فلاديمير مرتين اثناء عاصفة رعدية مدوية يقف عاريا حتى خصره في وسط حقل الذرة المجاور رافعا يديه للسماء و يناشد الصاعقة ان تصيبه. وانها لمحت على الطاولة في حجرة بيتر ملاحظات كتبها تفيد انه لاحظ من خلال المنظار المقرب مذنبا عملاقا يقترب من الارض بسرعة كبيرة و انه سيرتطم بها ويحطمها في غضون اسبوعين.وان الخال فينكو قد حفر في حديقته حفرا ليس لزراعة الكرنب ولكن في الواقع هي كبيرة بما يكفي لدفننا جميعا وهو مايزمعه بعد ان تخنقنا الارواح التي تحكم المكان . والحل الوحيد هو ان نبيع المنزل ونعود فورا للبلدة.
خيم الصمت بعد كلماتها البليغة. وتبادل بعض افراد الاسرة نظرات ذات معنى. وحدق البعض الآخر في اطباقهم.ومرة واحدة تحولنا جميعا نحو ابي. كان من الواضح انه الوحيد القادر على توفير الحكم السديد وتقديم التعليق الثاقب. اولا خفض ابي آخر قطعة من الكستليتة نحو فمهو مضغها بقوة وتأن.ثم وفي حرص بالغ تناول فوطة المائدة ومسح بعناية فمه ولحيته. وأخيرا ودون حتى ان ينظر لاحدوقف في بطء واتجه الى حجرته.وبدا لنا انه قد اغلق الباب بعناية واحكام اشد من المعتاد.
كان لابد وان تتسنم امي دور المحكم. فقالت ان بوسع العمة مارا ان ترسم ماتشاء من حيوانات وليس فقط خنازير فهي تستطيع ان ترسم زرافات و سباع بحر وعجول بحراو حتى وحوش ذات رؤوس خمسة فكل هذا محكوم بالوحي الفني. وان الجدة لا تتعارك مع احد في حجرتها وانما فقط تستمع للراديو لانها لا تستطيع النوم.وان الكتب على رفوفها لم تتبعثر من تلقاء نفسها او بفعل عفريت نفريت وفقا لابجدية شيطانية وانما تداخلت وارتبك نظامها بسبب انهيار الارفف تحت وطأة ثقل الكتب. وان اصوات التأوهات و الانات التي تصدر كل ليلة من حجرتي ما هي الا توابع الكوابيس التي كانت تصيبني مذ كنت في الخامسة وليست باية حال نتيجة للاستمناء الشديد وجلد عميرة بافراط وهي العادة التي يمارثها بكثافة الصبيان في نحو عمري. اما بالنسبة لفلاديمير فعلينا ان ندرك ان زوجه شابة خفيفة متهورة وانه قد تأتي اوقات حتى بطل الحرب الاهلية يتعب بالرغم من انه يفتخر بامتلاك العديد من نياشين البارتيزان.اما ملاحزات بيتر فهي مادة للنقاش و الحوار الدائر بينه وبين البروفسير الكبير المشرف على رسالته في الفلك ولن يحدث ان تتبخر الارض لمجرد ان بلهاء حمقاء قررت ان ترعب الاسرة. اما عن فينكو فقد ختمت ماما كلامها قائلة ان لديه لسانا وان عليه ان يقدم تفسيرا فوريا لما ينتوي ان يدفنه في خنادقه التي تشبه القبور.
زعلى الفور اعترف الخال فينكو ان الحفر التي حفرها تشبه القبور فعلا ولكن هوايته تملك عليه كل وقته حتى انه لا يخطر بباله حتى ان يقتل احد منا ولو على سبيل التسلية. ان كل هدفه هو ان يدفن بقايا الادوات الزراعية المغطاة بالاتربة التي تزحم المبنى الصغير في البستان وهو يريد ان يجدده ويحوله الى صوبة زجاجية.ماحاجتنا للمناجل و الجواريف والشوك و المحاريث وغيرها من ادوات لانعرفها نحن الذين ترك اسلافنا حياة القرية منذ جيلين على الاقل وليس لدى احد منا النية في العودة اليها.كل هذه الادوات لاطائل من ورائها و مجرد اثار من زمن بائدولذا لابد من دفنها واخفائها عن الانظار.بعد هذه الخطبة العصماء كانت امي اول من صفق له في حرارة ثم تبعها الجميع –فيما عدا اليزابتا التي اخرجت لسانها لنا وركضت خارج المنزل.
وحيث انني لم اجد شيئا آخر افعله فقد عرضت مساعدتي على الخال فينكو وقبلها على الفور. كانت بعض الادوات الموجودة في المبنى جد ثقيلة حتى انه لم يكن يستطيع حملها بمفرده الى حيث مكان الدفن الذي ازمع ان يواريها التراب فيه. وليظهرلي مدى امتنانه لمساعدتي فقد ترك لي حمل اقذرها واكثرها تهشما واثقلها.و عندما كنا نتعامل مع الادوات الاثقل التي تتطلب شخصين لكي يحملوها كنت دائما بما يشبه المعجزة اجد نفسي احمل الطرف الاثقل او الاصعب حملا.ولشد ما سررت عندما انضم الينا بيتر الذي بدأ في اغاظة الخال فينكو.سأله ماهي الجوانب الفلسفية العميقة الكامنة في حقيقة ان الخال قد يحتاج الى جاروف وهو يدفن جاروفا ؟ والاهم الا يرى في ان دفن الادوات القديمة وشراء اخرى جديدة عند الحاجة اليها نوعا من الرمزية التي تشير الى لا جدوى الكد البشري وسيزيفية العمل الانساني؟
رد الخال فينكو انه قد ترك التفلسف على طريقة التلامذة لطلبة السنة الرابعة من قسم الطبيعة وخاصة اولئك الذين رسبوا من قبل في الفلسفة. اما في رأيه في ما يفعله فأنه يعتقد انه المرحلة الحاسمة في علاج روح الاسرةالتي أجرت طوال اكثر من مائة جيل لعدد لا يحصى من المستغلين بكل اشكالهم من نبلاء لاقطاعيين للكنيسة لمديري المزارع التعاونية لكنها لم تعرق قط وتبذر في الارض بذرة مشحونة بالحب.
في هذه الادوات القديمة يحس المرء بكل معاناة وعذاب روح الاسرة تشع منها ولكن هذه المعاناة وهذا العذاب سيدفنان في الارض الى الابد مع هذه الادوات. وبعدئذفقط سنتحرر حقا-هذا اذا كانت الحرية حقا هي ما نريد او نطمح اليه.ومنذهذه اللحظة ستشارك كل اداة او آلة يأخذها اي منا في يده ويستخدمها في مشاعر تنبثق من حب الحياة و الاستمتاع بها وليس من الخوف من الفقر او السجن.
قال هذه الكلمات في هدوء وسكينة وليس في غضب. ثم طلب من بيتر ان يساعدنا لنخرج من المبنى آخر قطعة متبقية والتي كانت جد معقدة وجد كبيرة حتى انها احتاجت لثلاثة ازواج من الايدي. أخذ كل منا طرف وجررناها بصعوبة من ظلام المبنى الى نور النهار.ووضعناها على الحشيش وفحصناها.تملكتنا الدهشة فانعقدت السنتنا و اخيرا اخذنا نرتجف في ذهول.
لم يكن الشيء يماثل اي شيء قد رآه احدنا من قبل.اولا وقبل كل شيءلم يكن له سطح مستو يرتاح عليه.وتخرج من الكتلة المركزية التي، لم يكن لها لا شكل محددولا وظيفة ظاهرة،وفي كل الاتجاهات دون نظام اوتناسق زوائد من صلب او الومنيوم اوحديد او خشب حتى.ووبعض من خيال،كان من الممكن تمييز اشكال مختلطة من بين هذه الزوائد لجاروف و معول و ربما منجل او آلة حصاد وكذلك محراث و عدة اصناف اخرى من الادوات بالرغم من ان هذه الاشكال كانت اما بدايات اونهايات ما يمكن ان تكونه من ادوات. وفيما بين هذه الاشكال وفي توليفة مترابطة مع الاجزاء الاخرى كان من الممكن تحديد حلقات من سلسلة و نصف ترس و مقعد تواليت و آلية مرتبكة لساعة حائط وثقلين و يد مسودة لصينية مطبخ. لوكانت كل تلك الزوائد و الاجواء المكونة للشيء ملحومة في كل او مربوطة ببعضها بحبل كان بالامكان عندئذ اعتبار الشيء كله نتاج غريب لخيال جامح لنحات حداثي وعندئذ وعبر تحويل الشيء كلية الى نطاق الفن حيث كل شيء متاح وممكن فأننا نحيد الجزء العدواني في تعريفات العلم والذي يتطلب الدقة غير الممكنة في هذه الحالة التي تجمعنا امامها كما لو كنا ثلة من الاطفال.
بعد مجهود واضح وجهد جهيد تمكن العم فينكو من لم شتات نفسه و اعلن اننا سندفن هذه النكتة السخيفة غير المكتملة التي انتجتها قريحة حداد سكران في قرية في الحفرة وننسى كل شيء عن الموضوع. كان بيتر رافضالهذا الرأي تماما.قد يكون الشيء مكونا اساسيا من سفينة فضاء هبطت هبوطا اضطراريا وتحطمت في مكان ما قريب! وعلى اية حال لابد للمرء ما فحص كل ما هو مجهول وتصنيفه عبر تسميته وتحديد وظيفته والغرض منه بحيث لا يخرج علينا فيما بعد من القبشعور في شكل عصاب شديد. لكن العم فينكو اصر في عناد على رأيه، واظن والله اعلم انه كان سيلقي بالشيء في الحفرة بمفرده لو لم تحضر ماما في هذه اللحظة بالذات بعد ان عادت من ماراثون بعد الظهر(كانت قد الغت جري الصباح بسبب الغيث). ذهلت واخذت في تفحص الشيء من كل جوانبه وكانت تضغط هنا و ترج هناك و تحرك ذات اليمين وذات اليسار واخيرا وفي صوت مرتعش من الاستثارة امرتني ان استدعي ابي. وفي خمس دقائق كانت الاسرة كلها حول اللقية بما في ذلك زوجة العم فلاديمير التي كانت قد عادت لتوها من احد غزواتها الغرامية.
غسلنا الآلة العجيبة بمساعدة دفقة من الماء من خرطوم الحديقة ازالت التراب والوسخ عنها.كنا نريد ان نرى ما إذا كان ثمة اثار مخفية للحام او لصق تحت طبقة الارض المضغوطة المتراكمة فوقها. وفحص بيتر الآلة بمساعدة عدسة مكبرة دون جدوى.
كنا جميعا في انتظار ما سيقوله ابي الذي ظل على صمته لفترة طويلة. واخيرا عندما تحركت شفتاه لم يحل ولم يربط وانما سألنا عن رأينا جميعا وما نعتقده بصدد هذا الشيء.
قالت اليزابتا اننا امام آلة جهنمية سبكتها الارواح الشريرة في جنح الظلام من اجل ايقاع اسرتنا في الحيرة والارتباك و بث بذور الصراع فيما بينها و لطردنا من المكان حيث انه من الواضح بما لا يدع مجالا للشك ان هذا المطان لن يعطينا سلاما ولا امنا. انفجرت امي قائلة "حديث خرافة يمكننا فقط الكلام عن الارواح عندما ننتهي واعني ننتهي تماما من فحص كل التفسيرات المنطقية الممكنة"لكن حيث انها لم تتمكن من ايجاد تفسير منطقي واحد فقد صمتت صمتا خجولا.
على اية حال صار من الجلي بعد لحظات ان بحثنا عن تفسير لسر الآة العجيبة الماثلة امامنا لم يحاول فحص الارشيف المعرفي المنطقي الموجود في ذاكرة كل منا وانما كان مسابقة في جموح الخيال. في هذه المسابقة كان لزوجة العم فلاديمير قصب السبق حيث عزت اصل الآداة الى تصادم حدث بين سيارة شبابية و جرار كان ينقل ادوات زراعية ونتيجة شدة الصدمة وانفجار الوقود اندمج كل شيء معا ليتكون شيء لا داعي لأن نشغل انفسنا به ولا نضيع وقتنا الثمين في مناقسته حيث يمكننا تمضية هذا الوقت في اشياء انفع و الذ(في حالتها هي الغزوات الغرامية في المدينة والتي انطلقت على الفور الى واحدة منها بعد ان قالت قولها هذا).
اعلن فلاديمير انه كرجل مادي علمي يرى ان لاوجود لاسرار في العالم لايمكن الوصول لقرارها عبر المقاربة الجدلية التاريخية.كل ما نحتاج اليه هو ان نلقي نظرة على الماضي ونسأل المالك السابق و من كان قبله فهذا الشيء لم يهبط من السماء بل صنع في مكان ما وقد تركه احدهم هنا او وضعه احدهم هنا لافرق. فالمهم ان هناك شخص متورط، شخص ما مسؤول . ومن الضروري تحديد من هو فالحرية ممطنة فقط متى تحددت المسؤولية مهما كانت تافهة او متشابهة.
جلبت العمة مارا عدتها وبدأت في تلوين الاداة المجهولة.واكدت ان الشيء قد سقط من السماء بالرغم ان الامر لايهم بالنسبة للفنان. فكل شيء في الوجود ما هو الا تحد فني اولا ثم تتضح ماهيته او لاشيء بعد ذلك.
تحول ابي الي"وماذا عنك؟" وحيث انني لم اكن اريد ان اعطي انطباع بأن الامر سيان بالنسبة لي فقد اسرعت بالقول انه بالنظر للاسلاك و الغطاء الرصاصي و آلية الساعة في مركز الشيء فاننا اما م قنبلة بلا ادنى شك بعد ان نزع صمام امانها حدث قصور في دائرتها الكهربائية مما ادى الى انفجارها للداخل وليس للخارج.
عقب بيتر قائلا ان الفكرة ليست بهذا القدر الظاهر من السخافة،بالرغم من التروس الموجودة في المركز ليست تروس ساعة وانما هي تروس راديو موجة قصيرة.وسرعان ما احضر ثلاث بطاريات ودفع بهم الواحدة بعد الاخرى الى الوعاء الصغير في مركز الآلية فتنحنح الكائن و اصدر صوتا لرجل بلغة مجهولة- اقرب ما تكون الى العربية-ويبدو انه كان يلقي بيانا او خطابا!!!!
وبايد مرتعشة واعين مغرورقة بالدموع تحلقنا حول المخلوق الشيطاني،نستمع لصوته القادم من مكان لا يعلمه الا الله وربما من الفضاء الخارجي وربما من الكائن الداخلي الموجود في الشيء ذاته او حتى من خيالنا المهزوم الذي تجلط تحت تأثير الحدث بالضبط مثل الاداة الماثلة امامنا فصار الخيال كتلة شوهاء من الشك والتردد. بدأت الامطار في الهطول فغطينا الشيء بغطاء من قماش وعدنا الى حجراتنا.
بدء تجديد المنزل في التباطؤ وأخيرا توقف تماما. و بدء بيتر في اهمال دراساته وقرر في النهاية الا يدخل امتحانات نهاية العام ويؤجلها للعام القادم. قبع الشيء المجهول في منتصف البستان على مرمى البصر من الجميع. وفي هذدوء تحمل القيظ،و الغيث، والرفس و الخبط، والتحليل الكيميائي والتصوير الفوتوغرافي والاهم من كل شيء الاهتمام الجماهيري حيث صار منزلنا قبلة للسياح ومزار يرتاده الحجاج سواء من بلادنا او من الاجانب. وعرض امريكي على ابي ربع مليون دولار ثمنا للشيء الغامض. ورد ابي ان بوسعه ان يحصل عليه مجانا لو اخبره اولا ما هو هذا الشيء و من اين اتى وما الغرض منه. وبعد فترة بدأ اهتمام الزوار و الصحفيين يقلق راحتنا ومن ثم بنينا حول المنزل و البستان سورا عاليا عليه قفلا غليظا يحكم اغلاق البوابة الحديدية الكبيرة. ومنذ ذلك الحين اخذت امي في الجري حول المنزل لتقوم بحوالي مئتي دورة يوميا. وكل بضعة دقائق كان ظلها يبرق امام نوافذنا فيما عدا نافذة ابي التي كانت في الطابق العلوي.
مع العلم بان ابي لم يكن ليلاحظها حتى لو رفرفت بجناحين امام نافذة حجرته.لقد كان غارقا حتى اذنيه في دراساته لهندسة الآلات و الكيمياء و الزراعة و علوم الطبيعة و غيرها من العلوم.كان قد استعار بعض من كتب بيتر والبعض الآخر اما استعاره من المكتبات او اشتراه وجلبه للمنزل في شاحنة. كان يزداد نحولا و شحوبا واخذت عيناه في اللمعان كما لو ان ثمة وميض داخلي يشعلهما كانت هناك نيرانا جهنمية تلتهمه في بطء ولكن في ثبات. وبالمثل لم يؤد منهج ابن العم فلاديمير الى اي نتيجة فبالرغم من انه استطاع حقا ان يجمع معلومات وافية عن تاريخ المنزل و ملاكه السابقين وليس فقط آخرهم،لكن احدهم لا يتذكر انه رأى هذا الشيء حتى.
وبعد عدة شهور،استمرت محاولة البحث عن اجابة من قبل ابي و بيتر،فقد سأم الباقون هذا العمل غير المجدي،وعدنا جميعا بالتدريج لاحوالنا المعتادة و مشاغلنا المستمرة.لقد صار السر مزعجا بل اصبح مدعاة للضحك وخاصة عندما كنا نلاحظ في الهزيع الاخير من الليل من خلال النافذة كيف يقيس ابي وبيتر في منتصف البستان وعلى ضوء المشاعل المسافات والزوايا بين اجزاء الاداة ويدونون كل شيء،ثم نجبر على سماع صوتهما آتيا في صخب متزايد من الحجرة العلوية و عما يتجادلان ويتناقشان حتى اولى ساعات النهار . وذات يوم توسلت امي امام الجميع لابي كي يكف عن هذا السلوك الاحمق الذي لن يؤدي الى شيء الا الدمار وليفعل هذا لمصلحته وان لم يكن يأبه بمصلحته فليفعل هذا لمصلحة ابنه الذي كان نجما في جامعته وصار الآن على حافة الهاوية.قالت له"اتوسل اليك توقف".
صمت بيتر ولم يتفوه بشيء. لكن ابي وللمرة الاولى منذ زمن بعيد خاطب العائلة بنفس الطريقة التي كان يحبها في الاوقات الشعيدة الغابرة قبل ظهور الشيء الغامض. في حياتنا. قال ان الاسرة لم تصاب بسوء الطالع كما يعتقد البعض منا،بل على العكس تماما. فكل شيء في هذا العالم له معناه وهو اجابة على شيء ما . ولا يوجد شيء سواء من خلق الله او من صنع البشر بلا مصدر. ولو كنا والعياذ بالله من الملاحدة ولا نؤمن بالرب فنحن نصدق في نظرية النشوء والارتقاء و نظرية الكم ونظرية الفوضى،وفي ضوء هذه النظريات ايضا فلا مكان لخلق شيء من عدم ولا وجود لشيء في مكان ما دونما علة او فائدة لشخص ما. دعونا نواجه الحقيقة بشكل مباشر:نحن اسرة اضطرت تحت تأثير منغصات الحضارة ان تأخذ الكريق الخطأ وخوفا من الالمصير المحتوم فقد عادت الى الريف بحثا عن جذورها. عسى ان تجد في هذه الجذور دما جديدا و طاقة لبعث الحياة فيها. وبالرغم من انه من المؤطد ان الايمان بامكانية الهروب من القدر هو وهم كبيرفمهما كان الاتجاه الذي ستختاره سيكون عليك ان تواجه ابو الهول الذي لن يدعك تذهب في حالك ابدا. بل سيطرح عليك اللغز الذي يجب ان تحله ان لم تكن تريد ان تجد نفسك مريوطا في مكان او لم ترغب في الفرار عائدا الى المكان الذي فررت منه في المقام الاول. لقد اعتادت اسرتنا على الهروب دائما. من الفقر الى المدينة ومن الفقر في المدينة الى امريكا ومن العالم الغريب الى الوطن ثانية ومن متاعب انحسار الوهم الى الخمر و من الخمر الى العلاج و من مشاكل الحياة الصحيحة الى التصوف ومن هناك نعود مرة اخرى الى الايمان بالقدرة الكليانية للمنطق والعقل.وطوال الاعوام الثلاثمائة الاخيرة لم يجرؤ احد افراد اسرتنا ابدا على مواجهة اللغز العظيم المركزي الموجود في حياتنا اللغز الذي لايمكن ان نتخطاه ولا ان نقفز فوقه ونتغاضى عنه. ولقد حانت لحظة الحسم بالنسبة لنا جميعا .هل سنهرب ثانية ام سنواجه التحدي الماثل امامنا؟ و مع انتهاء هذه الكلمات استدار ابي وتوجه الى حجرته لم يكن قد مس حتى الطعام الموجود في طبقه. ودون كلمة واحدة بدأت امي في النحيب. واخذت قطرات من الدمع الثخين في التساقط على قطع القنبيط التي وضعتها في شرود في فمها.حاول بيتر ان يضيف شيئا آخر،
ربما رغبة منه في تفسير ما قاله ابي او ايضاح ما لم يقله او لم يفسره بما فيه الكفاية. او هكذا ظننت فقد جالت عيناه في وجوهنا وكأنما كان يبحث عن التشجيع و الدعم واننا سنفهم الكلمات التي كان على وشك التفوه بها. والتي لم يستطع اخراجها من اعماقه بعد ان رأى عيوننا الخالية من كل بريق. وهكذا حكم الصمت وصار لون و طعم الحياة في المنزل نصف المجدد وبدا الصمت من الظاهر حكمة في اعظم تجلياتها،بينما كان في الواقع آخر دفاع لنا ضد اليأس الذي كان يتحين الفرصة للانقضاض علينا وخنقنا.
بدأ ابي وبيتر في دعوة "خبراء" الى المنزل. وكانوا يشربون كميات كبيرة من النبيذ ويتفوهون بكلمات كثيرة.صمم احدهم برنامجا خاصا باستخدام كمبيوتر بيتر لتحليل الاشكال والعلاقات بين اجزاء الشيء. وكان هو من اندهش كثيرا من الاجابة التي فاجأته حقا فبعد كل محاولة كان يحصل على رسالة تظهر على الشاشة "اداة من اصل غير معروف" وهو الشيء المعروف لنا جميعا. وبعدئذ بفترة قصيرة وصل الى ابي خطاب من فلاح من قرية بعيدة في الطرف الآخر من البلاد يقول لابي ان هذه الاداة ليست شيئا عجيبا وهو ما يبدو من صورتها المنشورة في الجرائد انما هي في الواقع لاتعدو ان تكون محراثا عاديا. وبدون حتة انتظار رد ابي وجدنا الفلاح يدق الباب بعد ثلاثة ايام وقد برر موقفه بقوله ان الموضوع قد اهمه كثيرا ولم يترك له فرصة كي يستريح. ولو كان لدينا حقلا يحتاج لحراثة سيظهر لنا في لحظات ان الذكاء الفلاحي الفطري يحل كل الالغاز.
استعار الفلاح حقل جارنا وثوره،وساعدنا هذا على حمل الاداة الى الحقل عبر التل و ربطها بالثور ثم امسك الفلاح بيده اليسرى بالزائدة التي تشبه المقود وبيده اليمنى امسك بالاخرى التي تشبه السلسلة وقلب الاداة بحيث واجه السلاح المشرشر الارض و قرقع بالسوط وسحب الثور الاداة وتحرك السلاح خلف الاداة رأينا خطوطا جميلة متناسقة متساوية على الارض. كرر الفلاح"محراث"بعد ان انتهى من حراثى الحقل لآخره. بيد ان الراديو في مركز الاداة كان يذيع اثناء الحرث نفس الصوت الرجالى القوي وبنفس اللغة و بنفس الطريقة التي لم تتغير منذ سمعناها للمرة الاولى. وسأل ابي المزارع هل ازعجه الراديو اثناء الحرث،تردد الرجل قليلا ثم اجاب انه كان يفضل طبعا سماع موسيقى شعبية وبعدئذ بان عليه الحرج وعدم الرضا فانطلق لا يلوي على شيء.
حل الخريف علينا ومعه جاءت السوداوية. كانت ماما قد كفت عن جري الماراثون في الصيف واشترت لنفسها حملا من كتب الطبخ وبدأت في خبز الحلوى التقليدية في الفرن. في مدرستها عضت اليزابتا مدرسة الرياضيات وهربت الى الغابة حيث وجدناها بمعاونة البوليس بعد عدة ايام متسخة تماما وتبكي وفي حالة يرثى لها. واتم فلاديمير كتابة مذكراته الا انه ابدى سخطه عليه واحرقها واقسم الا يكتب حرفا بعدئذ.
وبالطبع لا يمكننا فصل هذا الحدث عن واقعة ان زوجته لم تعد من احد غزواتها ووصل بدلا منها خطابا تخبره فيه انها تهجره:فلو قررت يوما ما ان تكتب مذكراتها عليها اولا ان تجد شيئا تكتبه. اما عن الخال فينكو فقد غير وظيفته وكان يعمل حتى ساعات متأخرة من الليل حتى انه اهمل تماما مشروع الكرنبة!!!
وبعد ذلك وقبل بدايةالثلج ماتت جدتي. و خربشت قبل موتها على صفحة بيضاء في الكراس الموجود بجانب سريرها آخر كلماتها: البرق.
وبعد مرور ثلاثة اسابيع اي قبل الكريسماس بفترة قصيرة اندلع الجدل بيننا حول معنى هذه الكلمة. في رأي امي انها احست مع اقتراب الموت كما لو أن البرق قد ضربها.لكن العمة مارا ادعت انها ارادت ان ترسل لنا رسالة تحمل معنى جد مختلف : الا وهو انها تدعو ان يضربنا البرق جميعنا بلا استثناء. قالت اليزابتا التي قلت نزواتها في الاونة الاخيرة ان كلمة البرق تتعلق في المقام الاول بالشيء الذي مايزال قابعا في البستان بالرغم من اننا قد نسيناه بسبب ان الجليد قد اخفاه عن اعيننا. ذات مرة اصيب المبنى الذي كان يستخدم لمخزن لكل صنوف المهملات بما في ذلك راديو عتيق و كرسي حمام اصابة بالغة بصاعقة من البرق اثناء عاصفة وتحت تأثير الحرارة الشديدة للطاقة النارية اندمجت اجزاء الاشياء المهملات و تحولت الى الشيء الغامض وهذا ما ارادت الجدة ان توصله لنا عبر آخر كلماتها قبل رحيلها عن عالم الفناء و الى عالم البقاء.لم تستطع اليزابتا ان تجيب على السؤال البديهي وهو كيف لم يحترق المبنى وكان رأيها ان تلك معضلة غامضة اخرى ليس علينا ان ننشغل بها.
انتظرنا رأي ابي لكنه لم يقل شيئا،ولم يجرؤ اي منا حتى على محاولة دفعه للكلام،كنا نعلم انه منذ مدة قد عاد للشرب. وان توتره القديم ينمو بداخله بوتيرة غير محسوسة لكن بلا توقف. وكنا نأمل في سرنا ان يعود مع امي الى العلاج النفسي الذي لم ينجح اساسا كما نعتقد بسبب انه سلبهم ميزة التواضع و الانفتاح على المجهول و ادخل اليهم الكثير من الاعتداد بالنفس المتصلب والثقة المفرطة في الذات. ربما عند المحاولة الثانية و مع الخبرة التي تجمعت لديهما ومرا بها سيستطيعان ان يؤثرا تأثيرا حسنا على الطبيب النفسي و من خلاله عليهما وعلى المرضى الآخرين لديه.
بعد ان ذاب الجليد اعدنا الاداة المجهولة الى المخزن واشترت ماما قفلا كبيرا و طلبت مني ان احكم تثبيته على الباب وعندما فعلت اغلقت الباب و القت بالمفتاح في بئر الحديقة.
بدأت في التمشية مع ابي لاوقات طويلة بين التلال المحيطة. كان الربيع على وشك القدوم. واحسسنا ان ماما تحاول ان تعيد ابي الى علاقة مع الطبيعة و مع تنفس الاحياء و الاشياء الذكية و مع رائحة التربة الذي كان يرى فيه ايضا ذات يوم الحل الوحيد والعلاج الناجع من السوداوية التي تنبع من محدودية العقل البشري. لكن قامته ازداد انحنائها. و كشف مظهره عن ثقل الهزيمة الذي لايمكن للمرء ان يخرج منها في شهر او اثنين. لكننا كنا نلاحظ احيانا في عينيه بريق يوحي بأنه من الممكن في عام او اثنين ان يتصالح مع حقيقة ان العالم ملئ بالاشياء و الاحداث التي لايمكن قط الوصول الى قرارها المكين.

Monday, October 01, 2007

مختارات من القصة السلوفينية



1- البن البرازيلي

افتتاح على الصباح

ايجور براتوش

البدايات و شغف القراء بالبدايات. كل ما يتبقى لا يهم. قدرية البدايات , بدايات، بدايات ،بدايات . بدأ اليوم بشكل جيد جدا . 7:12 صباحا , بشكل مشجع. كانت الطيور تغرد منذ ما لايقل عن ساعة ونصف و تحوم في الفضاء ربما بسبب الاحلام . بدايات. هوة البدايات . فرض البدايات على المؤلف. حسنا دعنا نشبع هذا الوله!!

كامبوس اليزيوس( الحقول المقدسة بالبرتغالية – المترجم) افقر منطقة في نطاق نوسا سنيورا دو بيلار (سيدتنا التي ظهرت في بيلار- المترجم) وهو افقر نطاق في مقاطعة دوق كاشيوس و هي افقر مقاطعة في محافظة ريو دي جانيرو ، تغرق في وحل العواصف الصيفية . تقودنا حوار خشبية ضيقة الى خارج عتمة الصباح الضبابية التي تطل منها عشرات الاكواخ القميئة ، و تتجمع معا في الطريق الوحيد غير المعبد المتعرج عبرالبلدة. يسير جواو انطونيو في احدها . ومثله مثل كل رجال القرية يستيقظ مبكرا. ففي الرابعة من فجر كل يوم يحملهم القطار العجوز المتهالك الذي اشترته الحكومة مستعملا من الالمان في عام 1937 الى العمل في ريو التي تقع على مسافة 80 كم.

العمل في مخازن البن قاتل. و الاجر قليل بفظاعة. وقد اثبت الزمان ان هذا العمل مقصور على او بوفو دي ديوس( الفقراء الى الرب- المترجم) و هم سلالة من البشر ذوي البشرة الداكنة يحملون غضبا متحجرا في مقلاتهم و يجولون في شوارع المدينة يوما بعد يوم الى ان يختفوا في ضواحيها الخانقة . و يسميهم البعض بدون اية سخرية مرة و بلا خجل الاشباح و هي تسمية لا تبعد كثيرا عن الحقيقة.

محني الظهر تحت وطأة الاجولة الثقيلة و التي تزداد ثقلا مع مرور الوقت كان جواو انطونيو يتحرك بين معدات الرفع الثقيلة ذات الاشواك الضخمة و يرص الاجولة في نظام داخل الصناديق الخشبية الكبيرة. في التاسعة بدت الاجولة اثقل من ضعف وزنها المعتاد ، كما لو كانت تلك الاجولة تمتص كل قطرة عرق يفرزها و تخزنها في قماشها السميك الذي تسطع عليه كلمة البن البرازيلي المكتوبة بحروف ذهبية كبيرة.

ما تلى ذلك غير مهم : حول سائق شاحنة مجنون جواو انطونيو الى كومة متجانسة من اللحم الاسود، و وضع الجوال الملطخ بالدم في سفينة- واثناء ابحارها خبطت كرة من الصلب الخالص تحررت من مكانها اولاف و هو احد بحارة السفينة فعجنته بحيث ثبتت نظرته المندهشة على الفتحة المطلة على السماء الفسيحة في الاعالي و هو يرقد ميتا على الجوال الذي يحمل كلمات البن البرازيلي والذي تلطخ للمرة الثانية بالدم. وفي مارسيليا حمل الجوال الملطخ بالصبغة الحمراء الى احشاء شاحنة نقل ثقيل تحمل مقدمتها الحروف الفضية اللامعة

MACK

و التي فيما بعد طحنت ، في خضم حادثة سير ضخمة شملت عدة سيارات ، سيارة صغيرة بيضاء من طراز سيتروين ديان و عجنت سائقتها الشابة جوزينت و التي كانت قد امضت آخر لياليها في ممارسة الحب للمرة الاولى مع زميلها الوسيم جاك. ووصل الحمل اخيرا الى مصنع التحميص في ميلانو الميناء الايطالي . وللحظة صار الجوال الذي يحمل كلمات البن البرازيلي اثقل مما يطيق الملاحظ لوسيانو ان يحمل فسقط الاخير و تحمص مع حبات البن ذات الرائحة الفواحة.ووجدت حبات البن نفسها معبأة في اكياس زنة 1كجم مكتوب عليها كلمات البن البرازيلي . ووصلت كمية مطلوبه من هذه الاكياس الي دكان السيد ارنالدو كونتي في بلدة جوريزيا على الحدود الايطالية السلوفينية. تقوم ابنته الخلابة ادلين التي تعشق قيادة الفسبا الحمراءالتي اشترتها مؤخرا بمساعدة اباها في الدكان. وللاسف فبينما كانت ترص الاكياس على رف عال سقطت فأنكسر حوضها و انكسرت جمجمتها و صارت بين الحياة والموت و اصابعها متصلبة بشكل غريب على الكيس الذي يحمل كلمات البن البرازيلي . في الساعة السابعة و اثنى عشرة دقيقة صباحا ، فتحت الكيس المكتوب عليه كلمات البن البرازيلي و طحنت حوالي 250 حبة بن تكفي تقريبا لعمل كوبين او ثلاثة من القهوة. وقبل ان يغلي الماء حتى كنت قد رأيت بعيني خيالي الطريق الدامي الذي سلكته حبات البن الصغيرة الفواحة. و الآن عندما استقر الكوب بمحتوياته ذات الرائحة العطرة و التي اضفت لها القليل من اللبن الحليب على مكتبي و صارت الساعة السابعة و خمسة عشرة دقيقة صباحا سألت نفسي في تردد ما إذا كان لي ان اشربه بلا مبالاة –" كما لو كان كل شئ آخر لا يهم "- و ابدأ يومي بكتابة قصص قصيرة لطيفة.

Thursday, September 06, 2007

من مغامرات بيكي وارجو -ترجمة عن الكرواتية




مايا جلوشتشيفتش




كيف اكتشف بيكي وارجو اللص؟؟؟


- - لن افرط في بيكي ولو مقابل كنوز الدنيا!!!
- هكذا اعتادت العمة حبيبة ان تقول . و كانت تضيف دائما: لقد قابلت كل اشكال والوان الكلاب في حياتي ،لكن ليس من بينها من يشبه بيكي!!! هذا العزيز الصغيرالهجين بشعره الكستنائي الغزير ومنخاره المفلطح.
نعم ،هناك كلاب جميلة وذكية وربما اجمل واذكى من بيكي ولكن ليس من بينها من هو خفيف الظل مثله...
كان مجرد التفكير في مغامرات بيكي الشقية يجعل عيناها تغرورقان بدموع من فرط الضحك....
كان بيكي كلبا مضحكا بحق. و كان رأسه ممتلأ دائما بكل انواع الافكار الغريبة .
تخيلوا انه ذات مرة اخذ القطيطات الصغيرات من امهن...ذات مرة نادت
كاتا المرأة الفلاحة التي تساعد عمتي في ادارة المنزل على القطة : بس بس بس .... هاكي حليبك
عندئذ نظرت القطة لقطيطاتها في حب وحنان .. وعندما اقتنعت تماما انهن يغططن(يصدرن غطيطا اي شخيرا علامة على النوم العميق) غارقات في نوم عميق...انسلت قافزة من السلة و هرعت الى المطبخ...
انتهز بيكي الفرصة السانحة و بينما كانت القطة تشرب الحليب في سعادة
حمل القطيطات من السلة الى كوخه..
ذعرت القطة عندما اكتشفت ما حدث بعد عودتها الى سلتها من المطبخ.
اخذت تهس وتنفخ و يتطاير الشرر من عينيها الخضراوين...لكن كل هذا كان بلا طائل..لم يتحرك بيكي قيد انملة ، ولم يعرها ادنى انتباه.
وعندما ادركت القطة المسكينة أخيرا ان بيكي لن يعيد القطيطات و ان ليس لديه اية نية لفعل هذا ... خضعت لمصيرها و سكنت.
اعتقد انها كانت تعرف انه لا يوجد على وجه الارض من سيعتني بالقطيطات افضل من بيكي ...تعرفون ... لو لم يكن الامر هكذا كانت ستهاجمه في عنف و غضب...
قالت كاتا: بصوا
(ثمة اعتقاد خاطيء ان فعل بص هو فعل من العامية ولكنه عربي فصيح وقد استخدمته هنا للدلالة على شخصية كاتا و بيئتها) عليه!!!
ان بيكي يعتني بالقطيطات كما لو كان امهن!
وانخرطت في ضحك عنيف وهي تشاهد القطيطات يتمسحن في بيكي بداخل كوخه كما لو انه حقا امهن!!!
وعندما
كانت القطيطات تجعن ،كان بيكي يلتقط باسنانه الواحدة تلو الاخرى من كية قفاها (الجلدة الصغيرة التي تحمل القطة الام قطيطاتها منها) ويأخذهن لامهن القطة لترضعهن!!!
لم اكن لاصدق هذا لو لم اكن قد رأيته بعيني رأسي!!!
و صدقوني لم يكن بيكي يسمح لاي فرد كأئن من كان ان يقترب من القطيطات حتى لو كانت العمة حبيبة ذاتها..
و كانت هذه تقترب احيانا في فضول لتلقي نظرة على ما يجري في كوخ بيكي وعندما كانت تحاول الإطلال برأسها كان بيكي ينبح في غضب - هاو هاو...كأنه يقول لها اذهبي !!!
لكن الامر المضحك حقا حدث عندما تبنى بيكي مجموعة من الصيصان(الكتاكبت وهي جمع صوص و تنتشر الكلمة في الشام) الصغيرة حالما خرجت من البيض!!!
في اليوم التالي لفقس البيض عندما صارت الصيصان قوية بما يكفي للمشي و الخروج ... اخذها بيكي في تمشية حول المزرعة.
تخيلوا معي هذا المنظر!!
الدجاجة الام غاضبة. تصيئ في غضب و تجري في كل مكان تطارد صيصانها ...بينما الصيصان الصفراء مثل زهرة تباع الشمس تجري خلف بيكي في فناء المزرعة ...
منظر جد مضحك حقا ... اليس كذلك؟؟؟؟
××××××××××××××
رأيت بيكي لاول مرة في عيد ميلاد العمة، عندما اجتمعت الاسرة على الطاولة الكبيرة المزينة الموجودة تحت شجرة الجوز الضخمة العتيقة . في هذا اليوم اعلنت العمة:
عندي لكم مفاجأة ....على وجهها البشوش ارتسمت ابتسامة غامضة....من لا يحب المفاجآت ؟؟؟؟
هتفنا جميعا باعلى صوت : ماهي تلك المفاجأة... ماهي....؟؟؟
قالت في غموض – سترونها حالا.
وفعلا ، رأينا جميعا في اللحظة التالية جروا صغيرا يجري خلف كاتا التي كانت قد خرجت لتوها من المنزل و اتخذت طريقها في سرعة عبر الفناء نحونا وهي تحمل كعكة عيد الميلاد الجميلة!!!
قالت العمة : اسمه بيكي!!!
كان اسما ملائما جدا لهذا الجرو الصغير...
هنا نبح بيكي – هاو هاو، واخذ يجري حول الطاولة وكان من الواضح انه سعيد بالصحبة و الجمع..كم كان جميلا ومضحكا.
وكان من الواضح ايضا انه شقي جدا!!!
بدء بمحاولة انتزاع دمية من يدي...ثم قطع شراب العمة سالمة ام يحيى حينما كان يحاول الوصول الى حجرها.
اقول لكم بالحق لم يتغير بيكي كثيرا بعد ان كبر . لقد ظل صغير الحجم، ظريفأ، محبا للتدليل و ايضا شقي جدا كما قد عرفتم.
كانت العمة تشكو منه قائلة : ان بيكي كلب لا يعتمد عليه ... انه يستقبل كل من يأتي الينا سواء كان مرغوبا في قدومه ام غير مرغوب فيه...بتحريك ذيله في حبور.
×××××××××××××
كانت مزرعة العمة كبيرة واسعة تمتد حتى الغدير. و كان منزلها الريفي الكبير في لون العسل. وخلف المنزل حظيرة حيوانات كبيرة بها الفرس " جميلة" و البقرة" بيضاء". وكانت هناك ايضا خراف و ماعز ودجاج و بط وديكة رومية.
باختصار كانت المزرعة تحتوي على كل انواع الحيوانات الاليفة . كان ماينقصها فقط هو كلب حراسة امين يعتمد عليه.
وخاصة مع حدوث بعض الاحداث المريبة في المزرعة الآمنة. ففي احدى الليالي اختفت دجاجة،ثم بعد عدة من ليال أخر
اختفى ديك رومي. و اخيرا ، اختفت بطة سمينة!!!
عنفت العمة الكلب بيكي و كان هذا واقفا امامها غير مدرك لخطورة ما حدث...اخبرته في غضب ان اسلوبه هذا يمكن ان يؤدي الى ان يسرق كوخه هو ذاته وهو بداخله غير دار بشيء ودون ان ينبح ولو مرة واحدة.
واخيرا رأت ان بيكي لا فائدة منه و قررت انه لابد لها من الحصول على كلب حراسة حقيقي.
كانت في هذه اللحظة تنظر من نافذة المطبخ كأنها تأمل في ان تضبط اللص معدوم الحياء مختبئا في مكان ما ينتظر الظلام و يتأهب لسرقة بطها ودجاجها وحيواناتها....
نفذت العمة ما قررته .ففي اليوم التالي نزلت من السيارة وهي تحمل جروا صغيرا ... حملقت كاتا فيها و في الجرو وقالت متعجبة:
كرة الفرو الصغيرة هذه هي التي ستحمي المزرعة كلها؟؟
ضحكت العمة منها و ردت في ثقة:
تأكدي من هذا و سترين عندما يكبر. سيكون حارس حقيقي نادر المثال.
لابد وانكم قد خمنتم ان بيكي كان في قمة الاثارة عندما رأى هذا الكائن الصغير بين ذراعي العمة!!!
نبح في حب وسعادة محييا اياه!
مد الجرو عنقه ونظر الى بيكي في فضول. ونبح بدوره لرد التحية .

وكان نباحه عالي النبرات طفولي. وبدء في التململ مبديا استعداده للقفز ....
عندئذ قالت العمة في حبور :
انظروا اليه ..جرو صغير شجاع... ثم وضعت الجرو على الحشيش و اضافت:
اسمه ارجو!!!
انصت بيكي في انتباه وفكر:
ارجو ..اسم مخيف حقا!!
توقفت كاتا عن كنس الفناء وصعدت الكائن الصغير بعينيها
و هو يجري فرحا حول بيكي. ثم قالت: ارجو ..!هذا الشيء الضئيل ؟؟ اسمعي لابد ان بيكي يفكر ان الافضل تسميته تيتي او لولو!!!
تفكرت العمة لحظة ثم رفضت الاقتراح رفضا حاسما بهزة من رأسها.
و عقبت: تيتي او لولو لا يمكن...نحتاج لكلب صارم مهاب يحرس المزرعة و المنزل و الحظيرة وليس لعبة ندللها ... وتتمسح بنا!!!
احس بيكي بوطأة الموقف ..فطأطأ اذنيه...كان يحس ان هذا الكلام يخصه... فهو من يتمسح بكل من هب ودب.
لكن ماذا عساه ان يفعل ان كان قد فطر على هذا..؟؟؟
حسنا المهم انه احب ارجو منذ اللحظة الاولى وتقبل وجوده على الفور. وبالمثل احبه ارجو ايضا.
اخذ الاخير في النباح نباحا عاليا متواصلا طفوليا عالي النبرات و هو يطوف حول بيكي الذي كان محبورا جدا من وجود ارجو.
لقد توصل بيكي لقناعة هامة في هذه اللحظة الا وهي ان الحياة ستصير افضل في وجودهذا الرفيق و على الفور دعاه الى اللعب.
اتحب ان نلعب هاو هاو بارطوس(لعبة اطفال في منطقة حوض البحر المتوسط حيث تجري مجموعة وتطاردها مجموعة اخرى احيانا تسمى عسكر وحرامية ) او هاو هاااووو استغماية(لعبة اطفال شهيرة حيث تختبيء مجموعة وتبحث عنها مجموعة اخرى)....
ثم انطلق بيكي يجري في كل مكان .. ويختبيء خلف الشجيرات ويقضم الاوراق وعندما هبط الليل وارخى سدوله و سطع القمر ..صاعدا من خلف شجرة الجوز الكثيفة المورقة ...حاولت العمة ان تأخذ ارجو بين ذراعيها و تحمله الى المنزل و لكنه اخذ في النباح المتواصل وكأنه يعترض بل ويبكي وينتحب...و كان لا يسكت الا عندما تتركه يجري في الفناء و يهرع الى كوخ بيكي ويتمسح فيه و يغرقان معا في سبات عميق وهما يدفئان بعضهما البعض.
وكان هذا يتكرر كل يوم.
بالرغم من ان بيكي كما نعرف كان كلبا هجينا كستنائي الشعر صغير الحجم له انف مفلطح مضحك، لكن ارجو كان يرى انه الزعيم!!. وقد اوضح له على الفور كم انه يحبه وكم يثق به. ومنذ اليوم الاول لمقدمه اخذ يتبع بيكي و كأنه مربوط اليه بخيط خفي.
وماذا عن بيكي ؟؟؟
كان بيكي يستمتع ايما استمتاع بالدور الجديد الذي اسنده الى نفسه...دور المعلم!
وهكذا اخذ على عاتقه العناية بهذا الجرو الشقي .
كانت كاتا تنظر من نافذة المطبخ وتشير الى بيكي وهي تضحك:
بص ..بص..بيكي يتباهى بنفسه و يمشي مختالا فخورا.
كان بيكي يتمشى في الفناء و يتبعه ارجو كظله..وكأنهما في تمشية عصر كل يوم.
هل كان بيكي يفخر ويختال؟؟هذا امر يجوز ان نناقشه فيما بعد...الامر الاكيد هو ان بيكي كان معلما جيدا.
فسرعان ما علم الجرو الصغير ما يجب فعله وما لا يجب فعله. وطبعا كان هذا وفقا لقواعد بيكي الخاصة.
مثلا علمه ان من الممكن الجري وراء الدجاج في الفناء ومطاردته
لكن من المحظور تماما الاقتراب من القط الابيض الكبير حيث ان مخالبه حادة مثل السكاكين المسنونة...
وايضا حذر صاحبه الصغير من الدخول الى الحظيرة في سرعة
و اتبع هذه النصيحة بنبحة عالية تحمل كل معاني الانذار والتحذير و تفيد انه من الممنوع منعا باتا الاقتراب من الفرس جميلة حيث انها قد تغضب و تركله بحافرها ركلة قوية مؤلمة . كذلك اوصاه بالابتعاد عن حظيرة الخراف والماعز حيث تعيش النعجة بيكوشا .. وهذا لانها صارت قلقة وترفض صحبة اي كائن..لماذا حدث هذا ؟؟؟هذا ما سنكتشفه فيما بعد.
وبالرغم من ان بيكي كان معلما صارما و كان ينبح بشدة منبها ارجو عندما يقترف الاخير اي خطأ. الا انه ايضا كان شفوقا يسمح لربيبه الصغير في احيان كثيرة بكل ضروب الحماقات والشقاوة...بل انه كان يسمح له ان يعضه ويدغدغ باسنانه الصغيرة ذيله واذنه.
كانت العمة عندما تشاهد ما يجري بينهما تضحك وتهز رأسها وتقول لبيكي : انه قد تبنى الجرو و تلك هي الحقيقة بعينها.
صدقوني حتى ام الجرو الحقيقية لم تكن لتعتني به مثلما فعل بيكي.
وعندما كبر ارجو واشتد عوده علمه بيكي السباحة في الغدير و ايضا علمه كيف يخدع كاتا بذكاء كي يحصل على قطعة لحم جيدة.
كانا عندما يشمان رائحة الشواء اللذيذ يهرعان الى المطبخ، وقبل ان تدرك كاتا المسكينة ما يحدث كانت تجدهما واقفين على ارجلهما الخلفية وفي لمح البصر تختفي افضل قطع اللحم من الطبق.
ولعلمكم لابد ان تكون ماهرا لتهرب من كاتا. فبالرغم من ان كاتا كانت سمينة عرضها اكبر من طولها الا انها كانت سريعة ماهرة وكانت تحتفظ بغصن يابس في متناول يدها دائما كي تضرب به من يقترف الخطأ.
عندئذ كانت كاتا تصرخ في غضب:
انتظر يابيكي .. انتظر ايها الشقي...سأضربك و اعلمك ... فلقد كانت تعلم تماما ان كل ماحدث من تخطيط وتدبير بيكي.
علم بيكي ارجو انه من الضروري الابتعاد عن كاتا الغاضبة لانها تنفجر بسهولة و لكنه علمه ايضا ان كاتا تهدء بسهولة ايضا.
كل ماكان على بيكي ان يفعله كي تهدء كاتا هو ان يهز ذيله عدة مرات عندئذ كانت تنفجر في ضحك يجعل وجهها المستدير السمين يحمر من السعادة.
بل انها كانت تربت على رأس بيكي علامة على انها قد غفرت له ما حدث.
بعد الغداء كان بيكي يعشق نوم القيلولة و يذهب ليستلقي تحت شجرة الكمثرى
لكن ارجو لم يكن يحب هذا .. بل كان يفضل الجري في البستان
و الذهاب الى الغدير الذي يخر(صوت الماء الجاري هو الخرير) في سكينة في الوادي.
كان يذهب الى بيكي وينبح:هاوهاو ... ليوقظه داعيا اياه الى اللعب
ولم يكن بوسع بيكي مقاومة مثل هذه الدعوة الممراح فكنت تجده يقفز على الفور وينطلق مع ارجو يجريان على الحشيش الاخضر .
في البداية كان ارجو هو الذي يطارد بيكي ثم انعكس الحال وصار بيكي هو الذي يجري خلف ارجو.. وحدث هذا لان ارجو نما كفطر بسرعة شديدة حتى انه سرعان ماتجاوز حجم بيكي.. ومر شهر ثم آخر وصار ارجو كلبا اسودا مخيفا
الا انه في الواقع ذا طبيعة سلسة .
لم يكن كلب حراسة شرس على الاطلاق.
استسلمت العمة لقدرها و اخذت تهز رأسها كعادتها عندما لايعجبها شيء:
هذا ما جنته يدا بيكي.. تلك هي مدرسته.. بدلا من حراسة المنزل صار ارجو يهز ذيله ويحيي كل من يأتي .وطوال
الوقت كانت الحيوانات تختفي.دجاجة او بطة واحيانا ديكا روميا.
و طفح الكيل بالعمة عندما سرق احدهم كل البيض من خن الدجاج قبل شم النسيم مباشرة.قالت العمة في غضب:
آه لو عرفت هذا اللص الجريء عديم الاخلاق سوف اجازيه بما يستحقه.
كان شتيوي العامل في المزرعة يعيش في قرية قريبة
وكان يأتي كل صباح لينظف الحظيرة و يعاون كاتا في قطع الاخشاب و جمع الحطب.
وعندما سمع العمة تقول هذا ، تمعن فيها وقال في صوت خامل رتيب: انه ثعلب!تسلل الى لكل اخنان الدجاج في القرية وسرق البيض منها.
لم تقتنع العمة بهذا التفسير و ردت: آمل الا يكون ثعلبا يسير منتصبا على قدمين!!!
فغر شتيوي فاه دهشة لانه لم يفهم على الفور ما كانت العمة ترمي اليه.
ثم ادرك مقصدها فحرك كتفيه في انزعاج و حك انفه الكبير كجزرة ناضجة و ضحك ضحكة عالية وقال: ربما.
××××××××××××××××
تساقطت كل اوراق الشجر ، ولم يكتشف بعد من هو هذا الثعلب الذي يسير قائما على قدمين!!
فقط عندما وضعت العنزة بيكوشا صغارها ،بدءت الامور في الاتضاح.كان بيكي في غاية السعادة عندما اختلس نظرة الى حظيرة العنزة ووجد ثلاث عنزات صغيرات.وقع على الفور في حبهن!! واخذ ينبح في سعادة :
هاو هاو هاو
انه يدعوهن الى اللعب و اللهو ولكن ربما كان هذا النباح يعني ايضا: يا بيكوشا لم لا تعطيني اطفالك اربيهم لك؟؟
قال شتيوي عندما رآه في الحظيرة : ماذا يفعل هذا الكلب المجنون في حظيرة العنزة؟؟ واخذ يحرك مكنسته مهددا...
وفي لحظة مرق بيكي من بين قدميه ..وانسل هاربا..ولكن عندما استدار شتيوي ، رجع بيكي الى اصحابه المرحين مرة اخرى..
كان بيكي يحرس العنزات الصغيرة كما لو انهن قرة عينيه.
كان ينبح في غضب عندما تغافلنه و تهربن منه وتجرين الى الفناء في مرح وسعادة...
و على الفور كان يلاحقهن و يعيدهن الى الحظيرة كما لو كان راع يعيد قطيعه الى حظيرته.
ودائما كان ارجو يهرع الى مساعدته في هذه المهمة و من الواضح انه كان يعتبر ان مطاردة العنزات في الفناء لعبة مرحة ممتعة حيث انه كان ينبح في سعادة.
ذات صباح ، غيمت السماء وهطل المطر مدرارا و مع المساء نزل الثلج . وصار الجو باردا حقا....
وانزعج بيكي انزعاجا شديدا عندما وجد الريح تدفع الثلج المتساقط الى داخل كوخه الصغير.
اولا تخيلت العمة انها سمعت اصوات مكتومة عند الباب.احست ان هذا بيكي يخبط الباب بمخالبه ..ثم تيقنت عندما سمعت نباحه المضطرب: هاوووووهاووووووووو
لابد انه كان يقول ادخليني ادخليني.
فكرت العمة – المسكين بيكي لابد وانه على وشك التجمد ...وعلى الفور قامت من على كرسيها واسرعت عبر الممر لتفتح له الباب.
و نادته قائلة – هيا ادخل...
لم ينتظر بيكي و اندفع للداخل و تابع طريقه عبر الممر ...كان يعرف جيدا اين هو المكان الامثل للنوم العميق ...انه في المطبخ بالقرب من الفرن الدافيء.
وماذا عن ارجو؟؟
كان ارجو يريد الدخول ايضا. فهو ملازم لبيكي. لكن العمة اغلقت الباب في وجهه...
وقالت له في حزم: لا ليس انت. انت كلب حراسة .لا يجب ان تجلس في المطبخ تحت المنضدة.
كان هذا يؤرق ضميرها ويزعجها. لكنها لم تكن تريد ان يتحول هذا الكلب الضخم القوي الى لعبة مدللة مثل بيكي!!!
نادت عليه من النافذة قائلة بصوت عال:
لديك كوخك الخاص.
تقبل ارجو مصيره. ودلدل ذيله بين رجليه و غمغم باصوات غير واضحة ... لابد انه كان يقول : عمتم مساءا.
كان بيكي ينصت في انتباه لصوت وقع خطوات ارجو على الثلج الحديث.
كان واضحا انه غير راض عما حدث. وكان يظن انه ليس من العدل ما فعلته العمة عندما لم تسمح لارجو بقضاء الليلة معهم . لانه بدلا من هز ذيله في حبور كالعادة ، اخذ ينبح نباحا عاليا في اتجاه النافذة وكأنه يواسي ارجو ويقول له
عمت مساءا انت ايضا!!!
وبالرغم من ان بيكي كان يرى انه ليس من العدل ان يستمتع هو بدفء المطبخ بينما يتجمد ارجو في صقيع الفناء ، الا انه سرعان ما تكور على نفسه تحت المنضدة و غط في ثبات عميق على الوسادة المعدة له.
لكن الاحداث التي وقعت في تلك الليلة اثبتت كم كانت العمة محقة عندما اغلقت الباب في وجه ارجو . وحتى بيكي اعترف لها بذلك فيما بعد.
وهاكم ماحدث....
مع حلول منتصف الليل او لنكن اكثر تحديدا فنقول انه مع التقاء عقربي ساعة الحائط العريقة و تعالي صوت دقاتها مؤذنة ببلوغ الثانية عشرة مساءا... استيقظ بيكي على حين غرة ، ليس بسبب صوت دقات الساعة ، لا... لكن لانه سمع خطوات شخص ما على الثلج. اصاخ السمع وانصت بكل جوارحه...لا ..هذا ليس صوت خطوات ارجو المتقافزة...انها خطوات شخص متسلل يحاول جاهدا الا يجعل لخطواته صوت. لابد ان شخصا ما قد اقتحم المزرعة و ها هو يمشي الهوينا في الفناء...بسرعة ،خرج بيكي من تحت المنضدة و هرع الى النافذة...ولكن لانه قصير وارجله قصيرة لم يستطع ان يرى الا الثلج يغطي كل شيء بعد ان توقف عن الهطول. والقمر في الاعالي يخرج على استحياء من بين السحب.
وكما تعرفون بيكي هو بيكي...لا يهمه من القادم و لا ماذا سيفعل ... آه لو كان فقط ينبح ...لا.. انه يهز ذيله في حبور مرحبا بمن وصل.
وحتى ارجو الذي كان يغالب النوم ويفتح عينيه بصعوبة في كوخه لم يفعل شيئا عندما رأى شبحا غير واضح المعالم يتقدم في بطء نحو حظيرة الماعز،على اية حال كان ارجو تلميذا نجيبا في مدرسة بيكي .
وماذا عن اللص الشبح؟؟؟
كان الاخير يعرف جيدا نوعية المزرعة التي دخلها. كان يعلم تمام العلم ان كلابها لا تنبح و انها لا تشكل خطرا على الاطلاق.
-هس!!!ششششششش!!!وضع اللص اصبعه على فمه محذرا ارجو من النباح عندما رآه يخرج من كوخه و يستعد لتحيته بنباح سعيد.
وبعدئذ فتح باب الحظيرة..ببطء و حذر كي لا يصدر اي صوت. وفي ثانية توالت الاحداث...امسك اللص بالماعز الصغير المسكين المرتعب وو ضعه تحت ابطه و انطلق مسرعا لا يلوي على شيء.
صرخ الماعز وصرخ و كأن اللص يسلخه... وهنا جن جنون بيكي .وانتفض شعره وبدء في النباح بعنف وغضب ، لا انه ليس على استعداد للتخلي عن ربيبه الماعزالصغير الجميل!!!
لما سمع ارجو نباح بيكي الغاضب انتفض بدوره ونبح بشدة
هاووووووووووووهاوووووووهاووووو
وخرج بسرعة من الكوخ و جد في مطاردة اللص الشبح وكأنه محارب مقدام في طريقه الى المعركة...
آيييييييييييي....تردد صدى صوت مرتعش خائف في الفناء الواسع. لقد ادرك اللص اخيرا انه ليس كل مرة تسلم الجرة(مثل مصري شهير وهو هنا معادل للمثل الكرواتي وترجمته الحرفية قد تكون لا يمكن عبور الغديراثناء العاصفة بسلام كل مرة) و ان ارجو لا يمزح هذه المرة. وعندما رأى ان الكلب الاسود المخيف قد شارف على الامساك به.. وضع الماعز الصارخ على الارض. وبدء في تسلق السور الخشبي المحيط بالمزرعة. ولكن يا حسرتاه ما ان لامست قدماه السور كان ارجو قد وصل اليه و غرس انيابه الحادة في حزامه فقطعه....و في ثانية سقط سرواله الواسع وظهرت مقعدته البيضاء لتسطع في ضوء القمر.
هاهاها لعلعت ضحكة رنانة في فناء المزرعة . انها كاتا السعيدة التي رأت المقعدة فاضحكها منظرها وابتهجت لما حدث للص.
وحتى الآن لا يعرف احد ما إذا كان نباح الكلاب المتواصل الغاضب هو الذي ايقظ العمة من نومها ام ان السبب في هذا هو ضحكة كاتا المجلجلة؟؟
المهم ان العمة قفزت في سرعة من السرير و جرت الى النافذة فلم تر الا رجل يجري بدون سروال ويحاول جاهدا الوصول الى الغابة القريبة المظلمة...
هل عرفت اللص؟ سألت كاتا وماتزال غارقة في ضحكها...
ردت العمة- وكيف لي ان اعرفه؟؟ وضحكت بدورها وهي تكمل: كل المقاعد تتشابه في ضوء القمر!!!
×××××××××××××××××××××

في اليوم التالي وجد سروال على الثلج . وجده ارجو الذي كان يتشمم حول السور فخورا.كانت العمة قد قرظته ومدحته و اخبرته انه افضل كلب حراسة ، واعتقد ان بيكي كان فخورا ايضا ، فهو من نبه ارجو بنباحه المتواصل و بهذه الكيفية منع اللص من سرقة ربيبه الماعز الصغير.
وربما كان ثمة سبب آخر يدعوه للفخر.. من يدري ماذا يدور في عقل بيكي.
الاكيد انه لم يكن يحمل مثقال ذرة من حسد او غيرة تجاه ارجو. بل انه اعطاه عظمة ضخمة كانت كأتا قد اعطتها له كهدية. وهو بدروه اهداها لارجو مكافأة له على انقاذ الماعز وكشف اللص.
لكن بالمقابل اراد بيكي ان يأخذ السروال من ارجو ولو بالقوة و اخذا يتجاذبان السروال بعد ان امسك كل منهما برجل من رجليه. وبينما هما في معركة السروال القديم . كانت العمة تهرع اليهما وهي تتعثر عبر الفناء مرتدية روب المنزل وحذاء بكعب عال. لقد كانت تخشى ان يمزق الكلبان المجنونان السروال القديم قبل ان تصل اليهما وتستخلصه من بين اسنانهما. كانت على ثقة ان هذا السروال هو سبيلها الى معرفة اللص الشبح الذي كان يتسلل الى المزرعة تحت ستار الظلام.
قالت لكاتا: كوني على ثقة من ان السروال سيكشف عن اللص.
في البداية لم تفهم كاتا فردت: السروال...؟كيف؟؟
ردت العمة في انتصار ساقول لك كيف. واستطردت بينما هي تضع معطفها الشتوي الثقيل وترتدي حذائها الطويل ذا الرقبة
- عندما اكتشف من هو صاحب هذا السروال ساعرف من العيار( السارق الذي يتسلل فلا يراه احد) الشبح الذي سرق حيوانات مزرعتي
كان شتيوي قد تغيب عن العمل هذا الصباح . واخبرتها كاتا ان الجارة رئيسة قد حملت رسالة منه تفيد انه يعاني من الام فظيعة في صدره ولا يستطيع الحضور بل لا يستطيع القيام من سريره.كانت رئيسة في طريقها الى السوق لبيع جبنتها اللذيذة و حليبها الطازج عندما قابلت كاتا وابلغتها الرسالة.
وهكذا اضطرت العمة لاخراج الفرس جميلة من الاسطبل بمفردها.ثم قامت بربطها الى العربة. ولحسن الحظ لم تكن القرية بعيدة. و ايضا كانت العمة حبيبة امهر من يقود العربة التي تجرها الخيل.كان بوسعها الاشتراك في سباقات العربات تلك مع فرستها جميلة.
- هيا .. شي شي... لما سمعت جميلة هذه الاصوات صهلت و حمحمت ودفعت بقائمتيها الاماميتين في فرح.كما لو انها كانت على اهبة الاستعداد للانطلاق وفي انتظار الاشارة.
اندفعت العربة وكأنها مجنحة(ذات اجنحة مثل العربات الاسطورية) على طريق القرية حيث تناثر الجليد و تزايد ذوبانه مع سطوع الشمس و طلوع النهار. ومثلما الثلج يذوب ..للاسف ذابت ايضا آمال العمة...
لقد تنقلت بين منازل القرية تطرق كل الابواب على امل ان تعرف من من الفلاحين يمتلك هذا السروال القديم الذي انتزعه ارجو من اللص. لكن لم يعطها اي منهم اجابة شافية.
كانت الناس تضحك و تسخر من اللص صاحب السروال ومقعدته المكشوفة و يمدحون ارجو ويتناقلون الخبر بفخر واحترام و خوف ايضا.وهكذا انتشر الموضوع انتشار النار في الهشيم (القش اليابس) وتناقلت الناس النبأ:
ارجو افضل كلب حراسة في الدنيا
لكن كان هذا نهاية الموضوع في القرية!!!
السراويل تتشابه. هكذا قال الجميع بعد تفحص السروال...ومن يعلم من هو مالك السروال
عادت العمة بخفي حنين ...( اي رجعت بدون فائدة وهو مثل عربي شهير يضرب لمن يذهب في مهمة ويرجع منها خائبا)
وبدت مقتنعة ان اكتشاف اللص صاحب السروال هو المستحيل الرابع( مثل عربي قديم يضرب للشيء الذي لا يجب توقع حدوثه .. حيث ان العرب كانت تقول ان المستحيلات ثلاثة هي الغول والعنقاء و الخل الوفي)
واعلنت في اسى:
سيظل الامر سرا مغلقا الى الابد.
- وكم كانت مخطئة. طوال عدة ايام لم يحدث اي جديد.. لكن ساد السلام في المزرعة و توقف اختفاء الحيوانات تحت جنح الظلام.
- كانت العمة تفخر بهذا و تقول : على نفسها جنت براقش(مثل عربي قديم يضرب لمن يفعل شيئا فيؤدي الى ان يضر نفسه وهو عن انه كانت هناك كلبة تدعى براقش نبحت فعرف مكانها الاعداء وقتلوها)
- ارجو جمد الدم في عروق اللص و اعطاه درسا لن ينساه!!!
- اما كاتا فكانت تزايد على العمة وتقول:
- لقد هرب العيار الجبان مطأطا عبر سبع ارضين و سبع بحار( من القصص العربية القديمة البحار السبعة والاراضي السبعة) خوفا من ارجو ... يخاف ان يفقد سرواله مرة ثانية!!!
×××××××××××
ظهر شتيوي ليلة وقفة عيد الاضحى، قدم الى البوابة وقال بصوت مخنوق يشبه صوت من كان يعاني من آلام شديدة في الحنجرة( عضو الكلام عند البشر وبداية الجهاز التنفسي):
لقد تعافيت.
وبينما يقول هاتين الكلمتين كان يفحص الفناء ببصره في حذر.
كالعادة حياه بيكي بهز ذيله مرحبا. لكن ارجو وقف امام كوخه في صرامة واخذ يرنو اليه بنظرات متوجسة....
تساءلت كاتا في دهشة:
ما الامر؟ لماذا هذا التربص..؟
رد شتيوي متصنعا اللامبالاة: ما عسى ان يكون الامر؟ لقد نساني....
لكنه سار مبتعدا عن ارجو محاولا قدر الامكان تحاشيه.
في هذه اللحظة ظهرت العمة ..ونادته:
تعالى يا شتيوي تعالى يا بنيّ ..الجو بارد جدا ... تعالى في البداية دخل بيكي وتبعه على الفور شتيوي.
كان الجو باردا جدا في الخارج حقا.
كان الثلج يتساقط كأنه نتف من قطن في محلج...وكانت انف شتيوي الكبيرة محمرة كجزرة ناضجة من شدة البرد...
قال شتيوي: لقد جئت اتمنى لك عيدا سعيدا يا عمة.
وكان في هذه الاثناء ينظر في تخابث الى العمة. كان يعلم جيدا انها ستعطيه عيدية جيدة(هبة او منحة تمنح للاطفال و العمال في الاعياد) مثلما هي الحال مع كل عيد. ربما 50دينارا او اكثر.وهو لن يفوت فرصة سانحة مثل هذه للحصول على المال سواءأ كان مريضا ام سليمأ.
كان المطبخ دافئا ويمتلآ برائحة الطعام والحلوى الشهية.
خلع شتيوي طاقيته وفرك اذنيه المتجمدتان. وتمعن في كاتا التي كانت تخرج صواني الطعام و الحلوى ذات الرائحة الشهية التي يسيل لها اللعاب.
كان وجهها احمرا مستديرا و انفها مبيضا من اثر الدقيق.
فكر شتيوي في نفسه:
هي نعم الرفيق في المنزل.
سألته العمة :
اتحب ان تشرب قدحا من الشاي الساخن بالنعناع يا شتيوي؟؟
لم يكن شتيوي يحلم باكثر من هذا خاصة في هذا الصقيع.
وشرب ليس قدحا واحدا ولكن قدحين وكان على وشك اعادة ملأ القدح الثالث .. وهو يحملق في نافذة المطبخ المتجمدة و التي ظهر فيها من وراء رسومات الجليد الهندسية رأس ارجو الاسود الضخم.
زمجر ارجو زمجرة اقرب الى الهسيس سمعها من بالداخل فتساءلت العمة في دهشة:
ما هذا ماذا حل به اليوم؟
كان شتيوي مبهوتا فرد في قلق: كلب عجيب . يزمجر ويفح ويهس بداع او بدون...
هاو هاو هاو هاو جاء الرد من بيكي . اعتقد ان ترجمة هذا الكلام من لغة الكلاب الى لغة البشر هي : اسكت. لان ارجو ما ان سمع هذا النباح حتى صمت على الفور.
في العادة كان بيكي يطوف( يدور حول نقطة ثابتة مثل الطواف حول الكعبة المشرفة)
حول كاتا منتظرا ان تنفحه (تهبه او تعطيه او تمنحه) قطعة لحم شهية او كعكة من الحلوى اللذيذة. المدهش انه في هذا اليوم بالذات كان يدور حول شتيوي.ثم فجأة توقف. وتمعن فيه. كان يمكنك ان تحدس من منظر خطمه( الخطم للحيوان مثل الانف للانسان)
انه على وشك ان يفعل شيئا.
سألته العمة في دهشة : ما الامر يابيكي....؟؟هنا صعد بيكي شتيوي بناظريه وتوقف محدقا في سرواله الضيق القصير على غير العادة... وعلى حين غرة استدار وخرج من المطبخ ...وسمعه الجميع يجري هابطا الدرج وسمعوا صوت صرير (صوت المفصلات العتيقة مثلما الخرير صوت المياه) باب المخزن وتخبط السلال والجرادل والصفائح ..
تعجبت العمة: عماذا يبحث بيكي في المخزن؟ ووضعت امام شتيوي طبقا به بعض اللحم و بعض الحلوى.
وسرعان ما اتتها الاجابة..
فقد ظهر بيكي على الباب.....
فهتفت: ياربي!!!
لقد كان يحمل بين اسنانه ذلك السروال القديم المتهريء الذي انتزعه ارجومن اللص بعد ان اخرجه من غياهب ( جمع غيهب اي المكان البعيد المظلم)المخزن.
من يمكنه ان يخمن ماذا كان يجول بخاطر بيكي في هذه اللحظة ؟؟؟
ربما كان يريد ان يكشف هذا اللص الشبح الذي كان يسرق حيوانات العمة طوال ايام وليال عديدة بل تجرء واراد ان يخطف ربيبه الماعز الصغير ومن تحت انفه. ربما!!!
او ربما لانه طيب بشوش لا يتذكر الاساءة كان فقط يريد ان يعيد لشتيوي سرواله القديم.
مهما كانت الحقيقة فقد بهت شتيوي و تحول وجهه لصفار عكر.
كان واضحا ان امره قد انكشف للجميع
فقد خبطت كاتا بيدها على جبينها هاتفة:
كيف لم احدس( اخمن) هذا من قبل؟؟ انه سروال شتيوي!!!
قال شتيوي من بين اسنانه:
ايها الكلب الشرير!!!
وغمغم بكلمات لم يفهمها احد وبدء في تحريك يديه امام وجهه وكأنه يدافع عن نفسه..لابد انه تذكر وجه ارجو الغاضب وانيابه الحادة القاطعة.
لم تعرف العمة ما يجب ان تفعله هل تضحك مما فعله بيكي ام تغضب وتصرخ في شتيوي المرتعش
طوال هذا الوقت كانت كاتا منخرطة في ضحك محموم عميق
هاهاهاهاها ضحكت حتى انها تكورت على نفسها وممسكة بخاصريها(تقول العرب ضحك حتى امسك بخاصريه اي امسك بجنبيه او تقول ايضا ضحك على استلقى على قفاه)
وستبدي لك الايام ما كان خافيا ويأتيك بالاخبار من لم تزود(بيت شهير للشاعر الجاهلي طرفة بن العبد وضعته كمقابل لبيت من الشعر الكرواتي القديم لشاعر شهير ايضا)
وحقا تنتشر الاخبار بسرعة البرق.
في اليوم التالي كانت القريةكلها قد عرفت ان بيكي الصغير قد كشف شتيوي و ان شتيوي هو الثعلب الذي يمشي على قدمين و يقتحم اخنان الدجاج وحظائر الحيوانات و يسرق البيض والحيوانات الصغيرة.
وماذا عن شتيوي؟؟ لقد اختفى تماما دون ان يترك اي اثر في نفس الليلة.
اظن انه كان يخشى من الوقوع في يد جيرانه الغاضبين.
في عيد الاضحى تحلقنا( جلسنا في حلقة) حول المائدة الكبيرة المزينة البيضاوية في غرفة المائدة واخذنا نتأمل في اعجاب الزينة والطعام الشهي.
كانت العمة حبيبة ترتدي ثوبا جميلا لونه احمر قاتم مثل ثمار البنجر. ولم يكن لها حديث الا عن خيانة شتيوي و خيبة املها فيه.
ياله من نذل جبان لم يحدث قط وطوال عمري الكبيران خدعني شخص شرير بهذا الشكل.
القت كاتا التي كانت تضع صواني الطعام اللذيذ على المائدة نظرة خاطفة على ارجو ثم عقبت :
لقد لقى ما يستحق.
واعتقد انها تذكرت في هذه اللحظة كيف فقد شتيوي سرواله وجرى خائبا مدحورا(مهزوما) خائفا من ارجو ومقعدته عارية مكشوفة لانها ضحكت من صميم قلبها
هاهاهاهاها
كان لابد ان يحدث هذا في وجود كلب حراسة مثل ارجو.
هاوهاو هاو نبح بيكي مؤكدا على ماقالته وهو يخرج من تحت المائدة
ثم انطلق مسرعا الى الباب و نبح من جديد نباحا مطولا حتى قدمت كاتا وفتحت له الباب فخرج الى الفناء
كان من الواضح انه قد قرر ان الافضل له اللعب مع ارجو في الثلج في الخارج وليس الجلوس مع الضيوف في دفء حجرة الطعام.
كان ارجو ربيبه وتلميذه قد تضاعف حجمه فبلغ ضعفي حجم بيكي.لكن بيكي لم يكن يأبه لهذا على الاطلاق.فمازال يتبناه و يوجهه.بالطبع كان بيكي يعلم انه جبان و يخشى من الذهاب للقرية بمفرده ومواجهة كلاب القرية القوية الكبيرة وهي تنبح فيه غاضبة.لكن في صحبة ارجو يتبخر هذا الخوف تماما ويتلاشى...
اقترب من ارجو والقى عليه نظرة خاطفة ثم تسلل من البوابة قبل ان يلحظه احد....
فهم ارجو الامر فورا فلحق به. لم يكن ليتركه يذهب بمفرده .
اتعرفون ما الذي جعل بيكي يريد الذهاب للقرية؟
ولد في حظيرة رئيسة عجل جديد !!!
عجل اصفر فاقع لونه يسر الناظرين له خطم وردي جميل...
و لابد انكم تعرفون ما حدث بعد ذلك...



اسامة القفاش
زغرب
25 يوليو 2007

Thursday, August 23, 2007

المشكينو فلسطين احمد خلف


المشكينو
أحمد خلف-فلسطين
هذا يوم آخر من أيام الفراق والهجران، اخترت فيه العودة إلى بلدتي المشكينو، هذا عهد جديد يا بلدتي ليس كآخر عهد من العهود المنسحقة؛ صخرة تنقلب على نفسها أو تفاحة تتدحرج من علو. عهد تركت فيه مدناً تجثو باكية أمام زوبعتها، لينطوي شجر البيوت منحنياً على حافات الحيطان، متكسراً تحت ضغط الصحية المدوية، الصيحة الأولى. كل شيء تبدل بالسرعة المباغتة، هواء لاهب وقصب ناشف وعيون تحدق في فراغ، أجساد غضة تيبست ورؤوس ثابتة لا تدري إلى أي الجهات تستدير، كأن الطير حط عليها منذ زمن سحيق، لفه غبار العالم الفاني، زمن آدم ونوح وثمود، عهد يجر خلفه عهداً آخر. ترى أنين تختفي هذه العهود؟ يا أيها الواحد الأحد، يا أيها الجبار المتكبر أما ينتهي عهد الفراق والبعاد والجفوة المؤلمة؟ أهي تفاحتك المغبرة أسقطتها لتتبع خطواتي الحيرى؟ أما انتهت خبطة السحر والشعوذة ولصوص آخر الليل في المداهمات السرية، أعني الخناجر الفضية والصدئة، سكاكين المطابخ ومعاول الهدم؟ خبطة سُجلت في عهد الصفحة المنسية من تاريخ المشكينو، إذ تستفيق اليوم جرذان المشافي والصراصير ودود الأرض والكلاب السائبة وشهود الزور ورواة الحكايات المنعوتون بالشهوة الأزليين: غربان الخطيئة الأولى. اندفعوا كلهم مذعورين تحت وابل من مطر يهطل بغزارة وبرد يثلج القلوب والعظام، تدافعوا جزعين فوق الصفحة الرمادية لورق التوت والتين والعنب الحامض، يتدافعون بالمناكب والأكتاف والصدور والمؤخرات بحثاً عن الخلاص الوثني، يجرّون وراءهم خراطيم الذعر لائذين بما منّت عليهم حكمة الأولين: انُج سعد فقد هلك سعيد: ترى هل أصابعهم الخرس لايتفوهون بحرف واحد أوكلمة؟ هلعين مما رأت أعينهم من عراك دام وموت محقق لا خلاص منه لأحد من أحد. عراك الضواري الشرسة، التي لم تدجن حتى الآن، لذتُ بركن قصيّ من بيوت البلدة، فاجأني صوت غريب يناديني: أنهض وإلاّ جرى لك ما حدث لعامة الناس…خشيت أن تكون الملائكة والشياطين قد أنهت عبها المرح بالبلدة لحين من الزمن. تحركت خطاي تجاه السوق. أتذكره، كان غاضباً بالناس والحركة، قلت في السوق يمكن للمرء أن يبدد وحدته ويخفف من ثقل محنته ويجد السؤال فيه جواباً شافياً لسؤاله الحائر قبل أن يجف السؤال: لم جرى هذا كله؟ لكني لم أجد في السوق أحد. لا بشر هناك، بل كائنات مسحورة تتحرك هامسة كأنها أصيبت بالداء أو الوباء، رأيتهم يدفنون موتاهم في العراء الشاسع المترامي، مخذولين، بعضهم يلوح من بعيد، أيد ثابتة ورؤوس تومئ لأخرى، عيون ثابتة النظر. سأحصرهم في زاوية لأستعملهم عما جرى لهم وما يجري الآن في الخفاء والعلن. كانوا صامتين مقطبي الوجوه ثقيلة نظرتهم على الروح والجسد، إذن هذه مدينة التماثيل النحاسية! اية تفاحة الجنون إن لم يكن هذا قد جرى مع أحد سواي، فمن الجائز أني سأموت من الغيظ والهجران. قيل أن أبي هو الذي لجّ بالسؤال عني وألح بطلبي وألتمس من المعارف والأصدقاء (أصدقاء أبي،إذ ليس لي أصدقاء في أي مكان من هذا العالم الفاني) مجيئي للتعرف على أحوالي. كان أبي يعلم علم اليقين ألاّ أحد لي في البلاد البعيدة عن بلدته هذه، البلاد التي ظل يحلم بها ولم يرها، كان يقول عنها:- مدن البلاد البعيدة معلقة في الهواء بين السماء والأرض، على ارتفاع قامة رجل متوسط الطول، مدن تضاء بالمصابيح الملونة تخيلها اذن، تلك المدن ترفل بالنعيم، مدن راقصة مع أضواء الليل المنعكسة على صفحة النهر، ليست بيوتها من حجر أو آجر بل من ضوء المصابيح المنعمة بالنور الأبدي، في التاسعة عشرة من عمري قفزت إلى أول مركب شراعي لحمل المحاصيل الموسمية ليرحل بنا عبر شط السماوة/ البصرة، أي شيء لم يكن ضدنا، إذ المركب الشراعي يبدو ثملاً متهادياً وسط موجات النسيم، جاءت ريح عاتية تهدر من بعيد وتزمجر. تعبنا كلنا، وامتلأت رئتاي برائحة غبار المحاصيل، تجادلنا. مزهواً كنت بقوتي ويفاعتي ورماحها، حملت مع تسعة عشرة عاماً كي أغادر المشكينو تاركاً أمي وأبي وحيدين مهجورين ولم ألتفت إلى الوراء أبداً، لم أترك وارائي أثراً أو وصية والافلاس لم يدع لي فرصة كي أوصي بشيء أبداً، ولما وضعت الحرب أو أوزارها وانتهى ضجيجها وعجاجها، قلت الآن حان الوقت لأذهب منتشياً بفرحي أنعم بدفء القلوب وحرارة الأيدي. إلى المشكينو؛ يا غريب أذكر الله وأحبابك.. جئت إليها، وها هي المشكينو تغص بصمتها ووجلها وتغرق بتعاستها ومحنتها فقد نهشتها كلاب الصيد الضارية ودمرتها الأيدي الغريبة، بالمنجنيق درسوها حتى استفاقت على ظلامها الدامس ووحلها الغارق باللعنات، جرجروها من كل جانب وناحية، ركلوها بالأرجل والجزمات بالعراك العنيف والصراخ المدوي، بالطلقات النارية والخناجر المسمومة… تغضنت وجنتاها وضاق صدرها لما رأتني أدور في أزقتها، تائهاً، ضائعاً، لا أعرف أحداً، وليس ثمة من يعرفني أو يدلني على بيت أبي وأمي الذي تركته قبل سنين، قلقل الليل وأناخ على قلبي.. هل أنام في زريبة؟ أم أرقد في الزرائب، لم أسند رأسي إلى وسادة ولم أتمدد على فراش وثير، هل قلت وثيراً؟ ما معنى أن يكون الفراش وثيراً؟ شكله وهيأته؟ لا أعرف هذا كله أبداً. سألت أحد المارة من جانب السوق، قال لي: هذه بلدة لا مكان فيها لغريب، كان محدثي شيخاً مسناً، ظل يتفرس في وجهي باذلاً جهده في التعرف عليّ:قلت: يا عم لست غريباً عن المشكينو.قال الشيخ: أتريد الذهاب معي؟قلت له: ساعدني على منام هذه الليلة فقط.- هيا بنا يا ولدي. أنا أُدعى حمزة الغريب.أخذتني الدهشة وأنا ألفظ اسمه كاملاً: حمزة الغريب. كنا نسير جنباً إلى جنب، وسمعته يتحدث، ربما خيّل اليّ أني أسمع صوتاً بشرياً يحاول أن يجعلني أسمع ما يقول: - كنت صبياً ولم تكن هناك مدارس تعلم فيها بل كانت الصحراء كل شيء، كذلك السفن تنقل ما تجود به الأرض إلينا، لكنها الحرب جاءت وتغير كل شيء، أليس عجيباً يا بني؟ تصور، كانت الدروب، هنا تغص بالمارة من الناس كذلك السوق، كل شيء هنا كأنه يتبدل نحو الأحسن، لكنها الحرب جاءت وتغير كل شيء يا بني. الطعام والشراب والملبس كانت كلها متوفرة حتى السلام. لكنها الحرب جاءت وانتهى كل شيء يا بني. ها أنت تراها تطفئ مصابيح الزيت من أول المساء خوفاً من شحة الزيت، أعذرني يا بني لو قلت لك ومن الضيوف لئلا يجيئون على هدي المصابيح لأن الحرب جاءت يا بني. ها هي المشكينو تنام وتسبقها فئران الليل إلى الغرف والحجرات فئران الصحراء ألا تعرفها؟ أسنانها تقرض الحديد الصلب. قيل إن الله وهبها كل خبث الأرض وحيلة الصحراء، تصورياً بني، تخافها الذئاب والثعالب حتى قطط البيوت الهاجعة تخاف فئران الصحراء، قيل أنها تسد منافذ البيوت ولا تدع أحداً يخرج أو يدخل، بل ربما كان ذلك الموت السريع بدافع من تكاثرها وتلاحق أنفاسها خلال الليل. ما الذي يفعله الناس؟ فالحرب جاءت وانتهى كل شيء يا بني، لا يستطيعون أن يفعلون شيئاً، فئران شرهة أكول، ربما مسعورة كالكلاب.. كان العجوز ناشف الوجه واللسان وكان الصوت يأتيني من بعيد، يخرج نحو الفضاء المهجور، والعجوز يجري لا يلوي على شيء، مرات يسبقني فيها بخطوات وأخرى أتركه ورائي لأعود إليه وأتوقف عن السير برهة لأدعه يلحق بي، إذ كيف أدع هشاشة الماضي تتدحرج خلفي، أسمعه يقول:- لم أتناول طعاماً منذ الصباح. هيا أسرع لم يعد بيت ببعيد من هنا.ثم أردف العجوز يتساءل: هل قلت لي أنك غريب عن المشكينو؟ كيف يحدث هذا، إذن لماذا أتيت؟- أنا لست غريباً عنها.- آه. إذن لم أسمعك جيداً. ما تعرف عن هذه البلدة التي لا شبيه لها؟ قل لي بصراحة يا بني؟ أأنت أسير حرب انتزع قيوده أم تراك سجيناص هارباً من سجنه؟وتقول أنك لست غريباً عن البلدة؟ يا اسم الله، ماذا يجري ويدور من حولك يا حمزة الغريب؟ لا يهم لا يهم، أنت ضيفي الليلة وسأكرمك لئلا يقال عني لم أُحسن إكرام ضيفي، تعال يا بني، أنت وحيد مثلي، وهذه المشكينو لا رجاء فيها.. هيا بنا ولدي. امض ولا تتردد. هل تخشى شيئاً؟ هل يتبعك أحد؟ من تراه يطاردك هنا؟ها هي ذي البلدة تستسلم لصمتها ونومها وأغلب الظن أن ذاكرتها مشحونة بالرؤى والهواجس فتقلق راحتها، لأن ما أسمعه كان أنيناً وربما آلاماً تأتيها من وجع مزمن كأنها تعاني من ساعات المخاض. قطار أرعن يتخبط في مروره البطئ على جسدها فتقاوم ذلك الضغط المهول الذي وجدت نفسه رازحة تحت ثقله. تئن. أتراها تتلذذ في عذابها ومخاضها؟ ايه مشكينو، أي الأسماء يليق بهذا التوجّس المريب الدائم اذ ينخر العظام حتى النخاع يحليها إلى رماد.. دفع الشيخ باباً خشبياً تعالى صريره. ليس ثمة عابر فيما حولنا. قال الشيخ: ادخل يا عبد الله. ادخل يا بني. هذا بيتي فأنا أعيش وحدي فيه، أصنع طعامي بيدي مرات كثيرة، ومرات أخرى تأتي امرأة من الجيران تصنعه لي. تعال عندنا خبز ولبن وقليل من اللحم، تعال سأعدّ لك الشاي.. سحرتني وحدته وعزلته، أليس هذا مرتجاي من مقتفي أثري؟ أليس الأمان التام والسلام النقي مُناي؟ أعني الأمان القريب من القلب؟ ترى هل القلب مسلة أحزان؟ اذ كل شيء ينبغي أن يسير متهادياً متريثاً، لا خوف أو التردد في سائر أيامي، اية تفاحة آدم المغبرة هل أيامي نعشٌ أم صندوق أسرار؟ أي الأسماء يليق بهذا التوجّس المريب إذن؟ إن لم يكن هذا ولا ذاك فمن الجائز أني سأموت من الترقب والدناءة المستترة.قلت للشيخ: - يا عم، ألا يسكن أحد غيرك في هذا البيت؟حك العجوز كتفيه في جدار الحجرة وتأملني برهة ثم قال لي:- لا أحد.أشعل نار موقدة ودفأ يديه. سرتْ حرارة طيبة في المكان. انتعش الجسد ولان الخاطر وتوضحكت معالم الوجه. أنف مستقيم ووجه غزاه شحوب مرضي، عينان التمع فيهما اطمئنان راسخ، ربما كان يأساً عميقاً من كل شيء حي يدور من حوله. شاربان ناعمان ينسدلان برفق فوق زاويتي فمه. كان وجهاً سمحاً لازمه الخمول والوهن والذبول. وبصوت خائر خاطبني:_ أترى ما يدور وما يحدث خارج البيت؟أبعدت نظري عنه باتجاه الباب. قال:لا عليك أنظر ولا تتكلم أبداً.

Friday, August 03, 2007

طقوس امرأة
سحر سليمان
صباحاً استيقظت على صوت عصفوري الرائع ...‏ هذا الأمير الصغير المغرور، بمعطفه الملون . وحركاته الرعناء وأجنحته الصغيرة القزحية، رمشت بأهدابي فتداخلت الصور، وظل صوت الكناري يملأ كل ما حولي، ثم تمطيت وأنا أرفع رأسي وجذعي عالياً أريد أن أطير مثل فراشة باتجاه الضوء والفرات، كي أترك فرصة للنوم، يتسلل من مسامي وأعصابي كلص فاجأه نور الصباح فأسرع بالهرب خوف افتضاح أمره.‏ - صباح الخير يا سفير العصافير‏ صحت بالعصفور، فتحرك داخل القفص بصخب، وكأنه يرد على تحيتي الصباحية بحركاته الاعتباطية تلك، دون أن يكف عن تغريده، أو ينتظر يقظتي الكاملة .‏ - صباح الخير يا أشجار السرو والحور والكينا .‏ صحت بالأشجار التي تطل بقاماتها السامقة من نافذة غرفتي في الطابق الثاني حيث يمتد أمامي منظر المنتزه الذي كان يوماً مقبرة موحشة فحولته البلدية إلى وضعه الحالي.‏ - صباح الخير أيها الموتى الذين رحلوا وظلت رائحتهم تسكن التراب والشجر .‏ صحت من مكاني وأنا أحاول أن أركز ما تبعثر مني والملم أجزائي المتباعدة بعد موتنا الليلي الذي نسميه النوم .‏ - صباح الخير يا وجهي العاري الحزين .‏ همست لنفسي، ثم مددت رجلي الحافية اتلمس بأصابعي وبر البساط الصوفي فأغرق في متعة تتسرب عبر أصابعي إلى مفرق رأسي، متعة عاشقة لا يدرك لغة عشقها غير الأصابع.‏ أصابع امرأة صغيرة ومحاصرة بالحزن والفراغ والخيبة في قرية كبيرة، تستريح على خاصرة الفرات في الجزيرة .‏ هذا الفرات الذي كان يقول عنه أبي بحزن وعشق :‏ - الفرات ...؟‏ يهز رأسه ريثما يرشف من قهوته .. ثم يتابع :‏ - كان حياتنا ووجعنا، يعطينا الحياة والمواسم بيد، ويسرق أطفالنا وأفراحنا باليد الاخرى، .. كان جبارا وطاغية .‏ وتقول أمي:‏ - هذا النهر مثل الرجال، خائن وغدار.‏ ومع هذا كنت أجد هذا النهر قريباً من قلبي، فهو الوحيد القادر على فك أسرار جسدي حين أرميه عاريا في أحضانه، فيدس أصابعه الطرية المرحة في كل جزء منه، وكأنه عاشق مفتون، لا سفاح مشهور.‏ - كلانا مهزوم يا فرات . أنت هزمتك الشيخوخة والسدود وأنا هزمتني سنوات الحزن والخيبة .‏ قلت ثم تحركت، وقفت وسط الغرفة، كان كل شيء هادئاً،‏ فواجهتني بقايا طعام العشاء التي تركناها، والصحون التي لم تغسل بعد، فمددت يدي إلى ( ركوة ) القهوة، غسلتها ثم ملاتها وانصرفت إلى طقسي الجديد، أعداد القهوة أشعلت نار الغاز فشعت بزرقتها الصافية، وتركت الركوة فوقها ريثما أعددت الصينية وفنجانين نظيفين وفارغين . ترتفع قامة كل منهما في الصينية بترفع وكأنهما جنرالان يتفاوضان في ساحة خالية في غبش الفجر ومع أنتهائي من أعداد كل شيء حملت الركوة بيد وباليد الأخرى الصينية، ثم توجهت إلى الشرفة . وضعت حلمي بعد أن تركت فرصة للقهوة، لتصفو خلال دقائق . غسلت وجهي، ورتبت شعري على عجل حتى لا أفسد خلوتي مع عزيزتي القهوة، وسرقت من حقيبتي علبة الدخان والقداحة وعدت إلى الشرفة. كانت منازل الحارة تمتد أمامي.‏ حين تحركت يدي ترفع الركوة، وتدلق القهوة الحارة في الفنجان الأول، فالثاني، فمن عادتي أن أسكب في فنجانين، واحد لي والآخر أزعمه لرجل يشاركني قهوة الصباح .‏ - تفضل يا عزيزي‏ قلت وأنا أضع الفنجان الأول جانباً، ثم تناولت فنجاني أرشف منه بلذة ومتعة ودخان لفافتي يتصاعد في حلقات زرقاء يشكل تاجا حول رأسي.‏ - ما رأيك بقليل من القهوة يا أميري المغرور.‏ خاطبت عصفوري ضاحكة . ثم سكبت قليلاً منها في أصيص صبارتي الشوكية وأنا أشعر بخدر ممتع‏ بعد الفنجان الأول، امتدت أصابعي تقطف زهرة حمراء وتزرعها في شعري بينما كانت القهوة الباردة في الفنجان الآخر تنتظر أصابع صاحبها الذي لن يحضر، ذاك الذي قال لي يوماً :‏ - لا يستسلم إلا اثنان، العاشق أو المغلوب، وأنا عاشق.‏ وتابعت ارتشاف قهوتي وقد بدأت الحركة تدب في البيت، طالعني وجه أمي، ثم أختي و...و...شعرت بالحصار فلبست قناعي المعتاد بعد أن أطفات لفا فتي وشربت آخر ما في قعر الفنجان حتى المرارة .‏ قال أخي:‏ - ما رأيك لو شاركتنا فطور اليوم ..؟‏ - شكراً . شربت القهوة‏ قالت أمي :‏ - هذه البنت مجنونة . قهوة ودخان وكتب أكلها وشربها‏ ولم أعقب، انطلقت برشاقة فمدرستي بعيدة، وأنا احتاج إلى مدة طويلة للوصول إليها، فهي تجاوز النهر من الطرف الآخر، حيث الحياة لها طعم آخر أيضاً.‏ في الساعة الثانية عشرة إلا ربعاً تماماً انتهى الدوام اليومي، وقد اخترت في هذا اليوم أن أعود وحيدة منفردة أباري ضفة النهر لا لسبب واضح، وإنما رغبة نبعت في داخلي فجأة، رغبة عرشت مثل دوالي اللبلاب، ترتفع عالياً .‏ وقفت بمهابة أمام النهر، لأن عيني تنظران إلى ما تبقى منه، هذا العجوز الباقي الخالد يتدفق بعسر، كأنما يشكو من أمراض غير وافدة .‏ - يا فرات ...... يافرات ...‏ صحت مثل طير خائف يريد أن يحتمي بأي ساتر خوفا من بنادق الصيادين، ثم تابعت المسير والجوع بدأ يدق جدران معدتي الخاوية التي لا تعرف الطعام قبل الظهر.‏ تابعت مسيري بإصرار وعناد، رأيت أمامي سلحفاة تختبيء في درعها، حملتها بين يدي ومضيت، ولم أفق إلا وماء النهر بدأ يبلل قدمي، ثم ساقي، فارتعشت ثم جمدت، رميت بالسلحفاة في الماء فغاصت، ثم أفردت ذراعي ورفعت عيني حدقت بزرقة السماء الصافية فهالني عمقها، فتصلبت مثل شجرة صفصاف عارية ووحيدة، بينما كانت رفوف العصافير تملا الفضاء بزقزقاتها.‏
من مجموعة حرق الليل -- من منشورات اتحاد الكتاب العرب - 1997

Friday, July 27, 2007

8-اغنية جزائرية حزينة


أغنية جزائرية حزينة

ياسمينة صالح- الجزائر


تفتح المدينة نوافذها على صباح من الدخان..تتبختر
الكآبة في الشوارع والطرقات..الوقت يتكرر ببلادة على
الساعة الجدارية الجاثمة وسط شارع المدينة الرئيسي..

دوريات العساكر تعبر الشوارع الخالية إلا من رائحة
الحرب و الفوضى المتراكمة على حدود الكلام،في مدينة
أعلنت حالة الطوارئ على ذاتها..
كان "البشير" جالسا قرب منزله..يرتشف قهوة صباحية
خالية من البهجة..بينما مذياعه الصغير يبث بيانات
عسكرية تدعو إلى الهدوء و الصمت..كان حزينا، بيد انه
لم يكن يدري لماذا هو حزين كل هذا الحزن ؟ لقد عاش
حياته يتمنى و يحلم بالنهوض..النهوض الذي يعني
ببساطة التغيير الجذري و الفاعل..
عندما وقف ذات "1962" أمام قبر رفاقه، لم يذرف دمعة
واحدة..قرأ الفاتحة و ………….
-استرجعنا الجزائر يا رفاق….
قالها و مضى ..مضى إلى الغد..
بالنسبة إليه، كانت الثورة عملا نضاليا لا يكف عن
الوجود و عن العطاء والتضحية..لم يكن هنالك شيء
اسمه"الارتجالية" في منطق الواجب إزاء الوطن..كل شيء
كان يجب أن يكون امتدادا للوعي القومي الذي صنع
شهداء يغطون وجه الشمس..
لا يذكر كيف مر الوقت..كل هذا الوقت..
لكنه يذكر أنه انتظر طويلا ..بصبر مدهش..انتظر الغد
الآتي..
يذكر جيدا ما جرى بعد الاستقلال..بالضبط عندما اكتشف
–شيئا فشيئا- الخيبة والشعور بالانحراف..
في صيف "1965"،زار صديقه "العربي"..لم يزره بمحض
إرادته، بل بدعوة ملحة من هذا الأخير..كان يحب
"العربي"..و يحترمه..و يصدق إيمانه بالجزائر أولا و
قبل كل شيء..هذا ما جعله يذهب إليه، و يدخل مكتبه
بشوق سنوات النضال، و الكفاح المشتركين..
لكنه، اندهش و هو يكتشف الاستقبال الفاتر الذي خصه
به صديقه القديم، لولا ابتسامة متقنة، وسؤال مفتعل
عن الصحة و الأهل و………..
الحزب لا ينام على أذنيه يا" سي البشير" ، و هو يملك
أسماء كل المعارضين لمسار الثورة….
صعق..لم يصدق ما سمعه..
معقول؟
اقشعر بدنه..نظر حوله..
معقول؟
يقول له- هو- هذا الكلام؟
هو الذي كرس شبابه لأجل الثورة، و الوطن، و الحال
أنه رفض تقلد المناصب كي لا يسيء إلى أحلامه
الحميمة،إزاء الوطن و الناس..كل الناس….
معقول؟
و "العربي" من يقول له ذلك؟
حتى كلمة (صديقي) بخل بها عليه..استبدلها ب" سي
البشير" و كأنه لم يكن رفيقه عبر مسالك "الأوراس"
الوعرة..كأنه ليس هو من حمله جريحا و عبر به خط
"موريس" المكهرب..
شعر بالبرد، بينما "العربي" يرمقه بنظرة شزراء..
في تلك الصائفة، اكتشف أنه خسر أشياء كثيرة، و أن
الثورة التي غذتها أرواح الشهداء قابلة للمساومة، و
التعليب ..
كان يدرك أنه محق في قناعاته تلك كلما بعث "العربي
"وراءه، كي يوبخه و يهدده باسم حزب لا ينام على
أذنيه..؟
منذ البدء، عرف أنه يملك قوة إضافية، لم يتردد في
استغلالها..
أبناؤه..
انتظر طويلا اليوم الذي فيه يرى نتيجة صبره..
كبر الأبناء، و هو يرفل بحلمه الحميم..
لكن الانكسار حدث..رحل ابنه البكر إلى "فرنسا" بحثا
عن عمل..
فجع..و الحال أن فجيعته تلك نابعة من إحساس باغته،
بأنه فشل في إيصال الرسالة إلى ابنه البكر..كانت
الهجرة، إلى فرنسا..فرنسا بالذات، تشبه هزيمته
الشخصية،
و مع ذلك..ظل متمسكا بأمله، و بابنه الأصغر"كريمو"..

-كريمــــــــــــــــو..
خفق قلبه..مص سيجارته، و اقرب فنجان قهوته من
شفتيه..لم يرجع "كريمو" منذ بداية الأحداث..يذكر أنه
لم يمنعه من الخروج عندما قرر الالتحاق
بالمتظاهرين..بل انه يعترف بينه و بين نفسه أنه سر و
ابتهج..
في عيني صغيره قرأ ما تمنى قراءته..
رفع رأسه إلى السماء..رأى الغيوم تتكدس حاجبة
الشمس..
عرف بحاسته أنها ستمطر..
ستمطر كما لم تمطر أبدا.