دهمنا الليل في خطى سريعة أسرع من كل توقعاتنا, فما ان هبطت الشمس خلف الجبال حتى بدأت الظلال في التسلل من الحفر والأوكار و آخذت تغلظ حتى لفتنا في ظلام شامل. بدأ الطريق الملتوي في التراقص أمامنا على ضوء مصابيح سيارتنا , أدركنا أن علينا أن نجد مكانا نستريح فيه ونقضي ليلتنا وخاصة أن الحدود الهندية مازالت بعيدة. ولحسن الحظ بعد عشر دقائق وصلنا إلى نقطة حراسة حيث طلب منا الجنود وثائقنا.
قالوا مندهشين" فندقا؟ " و أضافوا " في هذا المكان؟"
ظهر جاويش بشارب كبير من كوخ خشبي , و اخبرنا انه بعد كيلومترين من المكان ثمة انحناءة في الطريق ستقودنا إلى قرية عبر طريق غير معبد. القرية على الجانب الآخر من الجبل , هناك علينا أن نسأل عن ديف اناند والرجل سيسعد بتوفير سقفا نبيت تحته هذه الليلة. لم نستطع أن نقرر على الفور , فقد كنا نود تجنب القيادة على طرقات صعبة . لكن عندما وصلنا للانحناءة حول فيرنر العربة في ثانية إلى طريق ضيق اخذ ينزل عبر الغابات
إلى ما بدا انه هوة لا تنتهي
عندما وصلنا إلى مبتغانا. وظهرت القرية على أضواء مصابيح السيارة امتلأنا بالخوف أن نكون قد أخطأنا الطريق أو ربما أراد الجاويش الملتحي أن يعبث على حسابنا. كانت المنازل تنمو على السفح كأنها عيش الغراب ينمو على جنب شجرة أعطتنا انطباعا بالخراب و الفراغ. لم تكن هناك أدنى إشارة لوجود بشر في هذه المنازل
عندما أوقفنا المحرك ملء الصمت المحيط صوت خرير المياه من شلال تحتنا في مكان ما.
ثم لاحظنا على ضوء مصابيح سيارتنا زوجا من الأرجل الملفوفة بالخيش. فقد انبثق شئ ما من ظلام اقرب منزل وكان قادما نحونا.شئ بشري. عندما اقترب توقف , ورأينا أمام السيارة الفان رجل رفيع كأنه كومة من عظام في منتصف العمر., يحمي عينيه بيديه, ويحمحم بصوت خافت. فتحنا الأبواب و نزلنا من السيارة.
سأل الرجل" ديف اناند؟"
قلنا نعم هذا هو مبتغانا. هل يمكنه أن يقودنا إلى منزله؟
قال وهو يربت بكفه على صدره"أنا" واضاف بسرعة" ديف اناند هو انا"
بعد قليل كنا جالسين في حجرة الجلوس عنده. نرشف الشاي , في ضوء مصباح زيتي يتراقص لهيبه ., ونحن نحاول أن نتغلب على شعورنا بالحرج. كان هناك ديف اناند الذي كان يصر على أسنانه طوال الوقت ربما اعتقادا منه أن هذا سيجعلنا نسترخي و زوجه التي أعدت الشاي والآن كانت تطبخ نوعا من اليخني على فرن مكشوف. وكان هناك أولادهم الثلاثة وكان أصغرهم في الخامسة عشر من العمر. وفتاة مكتئبة صفراوية ذات شعر اسود ناعم تجلس في ركن الحجرة و تشغل نفسها بطفل رضيع كان ملفوفا في أسمال , ويجلس في سلة كبيرة بتأملنا بمزيج من الخوف و الفضول. وكانت الفتاة, ومن الواضح أنها أم الرضيع , تنحني على السلة من وقت لآخر و كان هذا ينحني يمينا أو يسارا محاولا تجنبها ليمكنه رؤيتنا و مراقبتنا.
قبل أن نجلس لشرب الشاي أخذنا اصغر الصبية الذي كان يعرف بضعة كلمات من الإنجليزية إلى حجرة خلفية شديدة البرودة حيث أشار إلى مرتبتين عاريتين على الارض قائلا" هنا اسرة" " هنا تنامون". كنا متعبين لدرجة كنا على وشك السقوط فورا على المرتبتين لولا إحساس رهيب بالجوع كان ينتابنا. كانت الروائح القادمة من المطبخ تعد بأي شئ إلا لذائذ الطعام , لكن الجعان يحلم بسوق الخبز.
سألنا ديف اناند أن كنا في طريقنا للهند ؟ وعندما اجبنا بالإيجاب , اندلعت مناقشة عائلية حامية , لم نفهم منها كلمة واحدة . بدا لنا أن اناند وزوجته يحاولان إقناع الفتاة بشيء لا تريد أن تفعله. كانت محرجة وظلت تنظر نحونا , وتحرك كتفيها علامة الرفض , وتداعب أصابع ابنها الصغير. تحول ديف اناند نحونا وسأل سؤالا ترجمه ابنه الأصغر إلى شئ شبه مفهوم . فقد أبوه صبره أشار للفتاة أشار إلينا وقال " عربة" ولوح فيما بدا انه اتجاه الجنوب وصرخ " الهند , الهند"
فهمنا أخيرا. هل يمكن للفتاة أن تسافر معنا للهند؟
طبعا. رد فيرنر. ولوجود أربعة مسافرين ستكون الامور محبوكة شيئا ما, ولكننا نستطيع ان
نتدبر الآمر.
بعد كلماته امتلأت الحجرة المدخنة بالراحة والفرح. و ابتسمت زوجة اناند ابتسامة واسعة حتى صار بوسعنا ان نرى فمها عديم الاسنان. واسترخى الفتيان كأنما حمل ثقيل قد انزاح عن كاهلهم. إلا انه كان من الواضح أن فرح الفتاة غير صادق, فخلف القناع الشفاف لابتسامتها المزيفة كانت ملامح وجهها تشي بانقباضة القلق والخوف. رفعت طفلها من السلة و ضمته إلى صدرها و هدهدته.
غرفت زوجة اناند اليخني , وسرعان ما ظهر إنها لم تطهو ما يكفينا جميعا, فقد ترك الصبي الاصغر دون شئ في طبقه و وجه متقلص من الضيق. وعلى الفور عرضت عليه الفتاة نصيبها .فنظر الصبي إلى أبيه وعندما أومأ الأب برأسه , انقض الصبي على الطبق وبدأ يلتهم ما فيه التهاما وكأنه يخشى ان تغير الفتاة رأيها.
أكد ديف اناند وهويمسح فمه بظهر يده ويشير للفتاة"الهند" ومرة اخرى انخرطوا في محادثة طويلة ساخنة , حاول الصبي الاصغر ان يترجمها. كان طبقه قد فرغ , ويبدو ان معدته الممتلأة قد اعطت ذهنه دفعة مستحقة . فقد زادت مفرداته من الانجليزية حوالي 12 كلمة او اكثر. تريد شوكرا ان تذهب للهند وتعمل عند اسرة ميسورة
كان من الواضح ان شوكرا هي الام الشابة. فهنا لايوجد ما يمكنها عمله . كرر ديف اناند اكثر من مرة هذه القرية ميتة , لا يوجد عمل. ارضه اصغرمن ان تكفي لاطعامهم جميعا . لتذهب ابنة اخيه للهند وتعمل هناك وهم سيراعون الطفل. وهي تستطيع ان تصبر على فراقه لمدة عامين او ثلاثة اعوام.
بالطبع لا احد يجبرها على شئ , فهذا بيتها وهي على الرحب والسعة, لكن هذه ليست حياة سيدة شابة تحتاج لزوج. في هذه القرية كل الشباب اما قد تزوج او اصغر من سن الزواج. لتذهب الى الهند , هناك ستجد زوجا مناسبا, وربما تتزوج شخصا عنده بعض المال.
قاطعته زوجته بكلام طويل جعل الفتاة تزداد حرجا . هزت الاخيرة رأسها واعترضت ببعض الكلمات الساخنة.لكن خالتها رفضت كل تلك الاعتراضات. ترجم لنا الابن الاصغر.كانت شوكرا تتأهب للسفر الى الهند منذ عامين , ولكنها لم ترتحل لابعد من اطراف القرية . وكيف انها تكون شديدة الاصرار على الرحيل عندما لا تكون هناك مواصلات , ولكن عندما يعرض احدهم ان يأخذها , فورا تجد عذرا للرفض. ذات يوم كانت مصابة بصداع قاتل, وفي يوم آخر كانت قدمها تؤلمها . ثم جاء دور معدتها , وفي هذه المرة ايضا ستغير رأيها . فهي لن تغادر هذه القرية ابدا. ابدا. ستموت هنا بمفردها , دون زوج , عبء ثقيل على اقاربها.
هذا ليس صحيح . هذا ليس صحيح. ظلت شوكرا تهزرأسها وازدادت المرارة في نبرة صوتها. لقد قررت الرحيل حقا هذه المرة. وسترحل في سعادة بالغة . غدا. ضمت الطفل الى صدرها , وهدهدته برفق .ظلت تكرر : غدا غدا ........... واحسست انها تريد لو استمر الليل الى مالا نهاية.
بعد فترة تحولت الفتاة الينا ونظقت بشئ ما بدا وكأنه سؤال ملح. وبينما اخذ الابن الاصغر يقدحزنادفكره بحثا عن ترجمة , انطلق ديف اناند في شلال من الكلمات , تميزبأن كل ثالث كلمة كان ينطقها كانت الهند. كانت ايماءته تؤكد انه يعنف الفتاة. اخيرا وجد الصبي الكلمات المناسبة للترجمة. شوكرا تريد ان تعرف كم منزلا في دلهي , والاب يقول انها تسأل هذا السؤال كل مرة . كلما توقف احدهم وعرض توصيلها تبدأ في طرح اسئلة غبية مثل : كم منزلا في دلهي؟ اين سآكل ؟ كم شخصا هناك؟ اين سأنام؟ هل سأضيع؟ هل سيسخر الناس مني؟
اجبناها ان المنازل كثيرة في دلهي و كذلك البشر. لكن الجميع مشغول يحاول كسب الرزق, لا أحد عنده الوقت ليسخر من الآخرين وبالتأكيد لا داعي لهذا .بدأ ابن شوكرا الصغير في البكاء. كانت تحتضنه بعنف لدرجة انه احس بالاختناق.
في الصباح التالي ايقظنا البرد قبل الفجر. كان فيرنر يغط , وقال الآخرون انهم سيرتاحون لفترة اطول. كنت محتاجا لهواء نقي. وبينما كنت افتح الباب المطل على الحجرة الامامية , لاحظت اجسام اسرة ديف اناند . كانوا جميعا في نوم عميق الا الصبي الصغير الذي كان مستيقظا , وأخذ يحملق في من سلته.ثم استقر على ان يعطيني بسحنته احساس الخوف. ولخوفي من ان يبدأ في البكاء ويوقظ الآخرين اغلقت الباب بهدوء , وانسللت من النافذة الخلفية.
الفجر في الهيمالايا امر مميز. فالضوء لا يتسلل من خلف الجبال مثل القط , لكنه ينفجر في العالم ناثرا اشعته كأنها شظايا انفجار غير مرئي. تمشيت حتى موقف السيارة في مدخل القرية. وكان نور النهار يغمر المكان كلية. وندى الفجر يتلألأ على الحشائش في ضوء الشمس. كانت القرية فوقي , كانت تتكون من ست منازل فقط, والمبنى السابع الذي عددته كان يشبه الجرن المهدم. في هذا الركن القصي في هذه القرية كان الزمن قد توقف حقا. من هنا تبدو الهند وكأنها حلم صعب المنال. لا يبدو ان الفتاة تصدق ان مثل هذه البلد موجودة. كنت متأكدا انها ستغير رأيها هذه المرة ايضا .
كنت مخطئا.
بعد الشاي و الافطار المتواضع, أخذ فيرنر يسخن المحرك , فاندفع ديف اناند من المنزل واخذ يصرخ ويحركذراعيه بعنف قائلا شوكرا الهند شوكرا الهند.
طمأناه لن ننطلق ليس بعد. انما نحن نسخن المحركفقط, وعلى أي الاحوال نريد اولا ان ندفع ماعلينا. رفض في البداية ان يأخذ نقودا.ثم قبل بعد عناء ان يأخذ عشرين روبيةى ولم نستطع ان نقنعه ان يأخذ اكثر من ذلك.
لم يكن بوسع شوكرا ان تبعد نفسها عن طفلها. جلبت سلته الى الخارج ووضعتها على الارض . اخذت الطفل من السلة وضمته الى صدرها ووضعته لصق قلبها.بدأت في البكاء . عنفتها خالتها , وحاولت ان تأخذ الطفل منها . لكن شوكرا تخلصت من يديها , واعادت الطفل الى السلة مرة اخرى. ولفته في بطانية , وربطت البطانية بحبل. بحيث كانت رأسه الصغير فقط هي التي تطلع من السلة.
وتلى ذلك محادثة عنيفة اخرى , وفي هذه المرة كانت كل ثاني كلمة هي الهند. هل الجو بارد في الهند هل ستحتاج شوكرا الى معطف شتوي؟ قلنا نعم في يناير الجو يكون جد بارد في دلهي, وعليها بالقطع ان تأخذ معطفا شتويا.لكن شوكرا رفضت بشدة فكرت المعطف. والتقطت بحقيبتها الكتانية و هرعت للسيارة الفان. وكأنها فجأة صارت في عجلة من امرها. نظرت نظرة اخيرة لابنها اصغير ثم ركبت السيارة , ودفنت وجهها في يديها واخذت تنتظر الرحيل. وعندما تحركت السيارة لصقت وجهها بزجاجالنافذة , وذكرني النحيب الذي انبثق منها بحيوان جريح ينازع.
هدأت فقط عندما وصلنا الى قمة المنحدر , وغابت القرية عن انظارنا. عرضت عليها آنا قطعة من الحلوى . وبدون ادنى اهتمام وربما بجفاء نحت يد ها جانبا و تكورت على نفسها منزوية في ركن المقعد.
عندما وصلنا الى الطريق الرئيسي, واتجهنا جنوبا بدأت في الارتعاش وكأنها في صقيع. لكن الجو في السيارة كان دافئا. بيد ان ارتعاشاتها أخذت في الازدياد. وانهمرت الكلمات من فمها مدرارة. كان من الواضح انها تريد ان تقول لنا شيئا. ولانها كانت قد حددت ما تريد من خلال الارتعاش لم يكن من العسير تخمين ماذا تريد ان تقول. عرضت عليها آنا صوفية لكنها دفعت يدها بعيدا بجفاء شديد كما لوكانت تعرض عليها الموت مثلما فعلت من قبل مع قطعة الحلوى. استخدمت اصبعها لترسم صورة في الهواء. المعطف!! كان من الواضح انها ادركت لتوها حاجتها للمعطف الذي رفضت ان تأخذه معها , كانت تريد ايقاف اسيارة , كانت تريد النزول, كانت تريد العودة. عندما اوقف فيرنر السيارة . جاهدت لتجد مقبض الباب .ووجدته لكن , قبل ان تهرب , انحنى فيرنر ومد يده تحت مقعده, ومن هناك سحب معطفا قديما ووضعه في يدها.
لا اعتقد انه سيكون بوسعي نسيان نظرة الدهشة التي ارتسمت على وجهها عندما رأت المعطف. تحسسته وكأنها لا تصدق أنه هنا في يدها. وليس في المنزلحيث تركته عامدة متعمدة لتستطيع التحايل والعودة لجلبه ومن ثم اخبارهم اننا لم نستطع انتظارها. لقد فشلت خطتها , فقد توقعت الخالة كل هذا وحذرت نواياها وفي السر اعطت المعطف لفيرنر.
عندما ادركت اخيرا ما حدث نزلت سحابة من الجدية الحزينة على وجهها . خرجت من السيارة , ولبست معطفها
و احكمت اغلاق ازراره في بطء واستدارت وفي خطوات بطيئة محسوبة عادت على نفس الطريق الذي اتينا منه. ابدا. تذكرت كلمات زوجة اناند. ابدا لن تترك القرية. ابدا...