الغسيل
بائع الدوم العجوز كان أول من لاحظ.. تعالت الضحكات فى المقهى الكبير إذ ظنه الجميع مجنوناً، بينما تأكدت أنا من وقاحته وهو يصف ملابسى وملابس زوجتى بدقة مدهشة، قميصى التى تآكلت أطرافه فأخفيها فى البنطلون، ورجل البنطلون الأخضر التى رفتها زوجتى بخيط بنى، وقميص نوم زوجتى الأحمر الذى بهت لونه.. غلى دمى، وقمت أسب الرجل ومن يستمعون إلى وقاحته، لم يحاول أحد تهدئتى، فى ظروف أخرى كان يمكن أن يتحول وصفه لملابس زوجتى الداخلية إلى حكاية كبيرة تتفرع عنها حكايات، أما الآن فالبطل ليس هو الملابس، ولكن نظريته العجيبة التى يحاول إقناعهم بها.. خرجت من المقهى غاضباً مقسماً أن ألقى البائع العجوز وعربة الدوم فى ترعة المحمودية إذا رأيته يبيع أمام بيتى، ولم ينتبه أحد إلى صراخى، إذ تعالى صوت العجوز يعيد شرح نظريته حول العلاقة بين غسيل زوجتى والمطر.
فوجئت، فى اليوم التالى، بعدد كبير من الرجال والشباب والنساء والأطفال يقفون أمام بيتى، وعيونهم معلقة على بلكونة شقتى.. كانت زوجتى تنوى غسل ملابسنا، لكننى طلبت منها ألا تفعل، بعد أن شرحت لها ما حدث بالمقهى..
مر أسبوعان وزوجتى لا تغسل، ولا تجرؤ على الوقوف فى البلكونة.. كان الناس يتناوبون الوقوف وعيونهم المحدقة فى حبال غسيل بلكونتى تنتظر رؤية معجزة..
لم أعد أطيق رائحة الملابس التى زكمت الشقة الضيقة فحولتها إلى جحيم.. طلبت من زوجتى أن تغسل كل الملابس المتسخة، لأنه لا معنى لأن نظل هكذا إلى الأبد بسبب خرافة أطلقها عجوز وقح.. ساعدت زوجتى لتنتهى من الغسيل بسرعة.. وخرجت لتنشره متجاهلة الجموع التى شهقت ولمعت عيونها عندما رأتها..
انتهت زوجتى من نشر الغسيل، ودخلت الشقة، وألقت بنفسها فوق السرير منهكة من ثقل الضغط العصبى الذى تعرضت له.. لم تمر إلا دقائق، وسمعنا صوت المطر يهدر، نظرت من فرجة فى شباك حجرة النوم، هالتنى غزارة المطر، وأفزعنى منظر الناس الذين تحولوا جميعاً إلى أطفال مجانين يرقصون تحت المطر، وينظرون إلى غسيل زوجتى بتقديس، أغلقت الشباك، تمددت فوق السرير، حاولت أن أنام بلا جدوى..
مرت عدة أيام والمطر لا يتوقف، بدأت أفكر بجدية فى نظرية العجوز المخرف، خرجت مع زوجتى إلى البلكونة، وجمعنا الغسيل كله، وألقينا به فى طشت كبير فى الحمام.. بعد دقائق توقف المطر.. لم أرد أن أصدق، وتحاشيت النظر فى عيون زوجتى المذهولة..
أحضرت شاكوشاً وبضعة مسامير وحبال غسيل، وصعدت إلى سطح المنزل، دققت المسامير فى الحوائط، وشددت بينها حبال الغسيل، وطلبت من زوجتى أن تنشر غسيلها على السطح بعيداً عن العيون..
فوجئت بزوجتى تنزل من فوق السطح باكية منهارة بعد أن أكملت نشر الغسيل بصعوبة والعيون المكدسة فوق أسطح المنازل المطلة علينا تلتهمها بنظرات إجلال وخوف واتهام..
لم يتوقف المطر حتى صعدت إلى السطح، وقطعت حبال الغسيل، وألقيت بالملابس فى جوال قديم، ضربته بقدمى بغيظ ليتدحرج على السلالم ويستقر أمام باب شقتى، فحملته زوجتى، وفرغته فى الطشت..
وبعد دقائق من توقف المطر، دق باب شقتى، فتحته لأجد حشداً من الفلاحين وأصحاب الأراضى الزراعية، دخلوا قبل أن أطلب منهم الدخول، طلبوا من زوجتى نشر الغسيل فوراً، قالوا إن زرعهم قد يموت إذا لم تنشر زوجتى غسيلها ويسقط المطر، وافقت زوجتى تحت الضغط الشديد، وساعدتها فى نشر الغسيل على حبال البلكونة..
وفى صباح اليوم التالى، تدفقت الهدايا علينا، مع تأكيدات ألا نلم الغسيل حتى يطلبوا منا ذلك.. شعرنا بالضيق الشديد، لكننا لم نستطع أن نفعل شيئاً.. حتى وجدنا عدداً كبيراً من التجار وأصحاب المقاهى والورش والسيارات والملاهى والباعة فى السوق الكبير ومنظمى المسابقات الرياضية، يطرقون بابنا بعنف، ويدخلون دون استئذان، ويجبروننا على جمع الغسيل فوراً، لأن المطر الشديد الذى استمر لعدة أيام تسبب فى خسائر جسيمة لهم جميعاً، وانصرفوا وهم يؤكدون أن أى خسائر ستحدث لهم بعد ذلك بسبب المطر ستكون مسئوليتى شخصياً، وسأضطر لدفع ثمنها..
جلست وزوجتى وحدنا ننظر فى أكوام الغسيل المكدسة، ولا نعرف ماذا نفعل بها، ولم يستطع أحدنا أن يفتح فمه بكلمة يعبر بها عن أفكاره، أو ينفض هواجسه، أو يحاول الفهم، حتى هدنا التعب فنمنا جالسين..
فى الصباح اكتشفنا اختفاء حبال الغسيل من البلكونة، وأرسل الذين يكرهون المطر من أخذ غسيل زوجتى عنوة، وألقى لنا مبلغاً كبيراً، ثم جاء الراغبون فى المطر وفوجئوا بعدم وجود الغسيل، فاشتروا لنا ملابس جديدة، وطلبوا من زوجتى غسلها ونشرها فوراً..
دخلت زوجتى الحمام لتغسل الملابس الجديدة، ودخلت خلفها لأساعدها.. اتفقنا بالنظرات على الهرب من خلال شباك الحمام..
ونحن فى وسط البلدة، قابلنا جموعاً من كارهى المطر يحملون العصى والسكاكين والمسدسات، ويرددون جملة واحدة، "لا غسيل بعد اليوم"، حاولنا التراجع بعيداً عنهم، فوجدنا خلفنا عدداً كبيراً من راغبى المطر يرددون "اغسلى وانشرى فوراً".. نظرت أنا وزوجتى للجموع المحتشدة حولنا بقلق.. والتقت عيوننا فى حيرة.
Friday, May 18, 2007
Monday, May 07, 2007
تهريج مكاوي سعيد مصر 4-
تـهـريــج
مكاوى سعيد
كان قد نفذ الصبر منى تماما وكلماته العابثة تغتصب أذنى ، وكنت لا أحب المهرجين والبهلوانات لذا كنت أقرب الى ضربه أو الجنون . تعب اليوم كله والحر الفظيع ومواصلات لا تجئ ثم كلمات ساخرة من شاب حديث السن وتهريج.
كان واقفا قبالها تماما ، وكانت مستندة على ذراع شاب من نفس سنه برداء الجيش ، وفى ظهرها تماما العمود الإسطوانى الكبير الذى تعلوه لوحة بأرقام الأتوبيسات ، وكانت تخرج منها ابتسامة بصعوبة يعقبها سعال جاف ، ملامحها مجهدة والتجاعيد تتقاسم البشرة .
بحركة استظرافية سمجة خطف من يدها كيس النقود الصغير وبضحكة ممطوطة طلب منها أن تقرضه نقودًا قالت بسماحة :
ـ خد اللى أنت عايزه يا ابنى .
ومازالت الضحكة اللزجة تعلو شفتيه قال :
ـ أنا باهزر معاكى . هو الواحد ما يعرفش يهزر فى البلد دى ولا أيه ؟
ثم أشار الى النيل العريض الذى تخفى بعضه واجهة المستشفى الكبير
ـ ما تيجوا ناخد مركب بدل الأتوبيس ( وأضاف وهو يعدل من وضع النضارة ) وإلا أقولكم بلاش أصل أنا نسيت المايوه
ضممت قبضة يدى وهممت بسحق وجهه ، لولا حركة مفاجئة منها ، التفت فى هذه اللحظة بالذات بجذعها ، وبمشية متثاقلة ، اتجهت نحو الكشك المجاور للمحطة بعد أن استأذنت دقائق لشراء مناديل ، تغير وجهه فجأة واقترب برأسه من زميله الجندى ، همس له وهو يحرص أن لا تتجاوز الكلمات حدودهما :
ـ زى ما فهمتك ، رئيس القسم قال لى الورم انتشر فى كل مكان وما فيش أمل ، حرام تتعذب فى المستشفيات ، أنا آسف يا سمير ، دى قبل ما تكون أمك دى أمى ، ما اقدرش أنسى أيام المذاكرة وخدماتها لى . ( وهو يربت على كتفه ) أوعى تشوف دموعك ، أنا طمنتها خالص ، خليها دايما تشوف ابتسامتك . ( وبتنهيدة ) يا ريتنى كنت دكتور كبير ..!
عادت وفى يدها علبة مناديل ورقية ، ارتفع صوته مرة أخرى بضحكات صافية نقية ، اقتحم عادم الأتوبيس المكان ، صعد الجندى مع أمه ، خلفهما كنت ،أشارا إليه من داخل الأتوبيس وهتفا : مع السلامة ، اندفعت الكلمات من فمى معهما : مع السلامة .. تفحصانى بدهشة .. خفضت رأسى خجلا .
مكاوى سعيد
كان قد نفذ الصبر منى تماما وكلماته العابثة تغتصب أذنى ، وكنت لا أحب المهرجين والبهلوانات لذا كنت أقرب الى ضربه أو الجنون . تعب اليوم كله والحر الفظيع ومواصلات لا تجئ ثم كلمات ساخرة من شاب حديث السن وتهريج.
كان واقفا قبالها تماما ، وكانت مستندة على ذراع شاب من نفس سنه برداء الجيش ، وفى ظهرها تماما العمود الإسطوانى الكبير الذى تعلوه لوحة بأرقام الأتوبيسات ، وكانت تخرج منها ابتسامة بصعوبة يعقبها سعال جاف ، ملامحها مجهدة والتجاعيد تتقاسم البشرة .
بحركة استظرافية سمجة خطف من يدها كيس النقود الصغير وبضحكة ممطوطة طلب منها أن تقرضه نقودًا قالت بسماحة :
ـ خد اللى أنت عايزه يا ابنى .
ومازالت الضحكة اللزجة تعلو شفتيه قال :
ـ أنا باهزر معاكى . هو الواحد ما يعرفش يهزر فى البلد دى ولا أيه ؟
ثم أشار الى النيل العريض الذى تخفى بعضه واجهة المستشفى الكبير
ـ ما تيجوا ناخد مركب بدل الأتوبيس ( وأضاف وهو يعدل من وضع النضارة ) وإلا أقولكم بلاش أصل أنا نسيت المايوه
ضممت قبضة يدى وهممت بسحق وجهه ، لولا حركة مفاجئة منها ، التفت فى هذه اللحظة بالذات بجذعها ، وبمشية متثاقلة ، اتجهت نحو الكشك المجاور للمحطة بعد أن استأذنت دقائق لشراء مناديل ، تغير وجهه فجأة واقترب برأسه من زميله الجندى ، همس له وهو يحرص أن لا تتجاوز الكلمات حدودهما :
ـ زى ما فهمتك ، رئيس القسم قال لى الورم انتشر فى كل مكان وما فيش أمل ، حرام تتعذب فى المستشفيات ، أنا آسف يا سمير ، دى قبل ما تكون أمك دى أمى ، ما اقدرش أنسى أيام المذاكرة وخدماتها لى . ( وهو يربت على كتفه ) أوعى تشوف دموعك ، أنا طمنتها خالص ، خليها دايما تشوف ابتسامتك . ( وبتنهيدة ) يا ريتنى كنت دكتور كبير ..!
عادت وفى يدها علبة مناديل ورقية ، ارتفع صوته مرة أخرى بضحكات صافية نقية ، اقتحم عادم الأتوبيس المكان ، صعد الجندى مع أمه ، خلفهما كنت ،أشارا إليه من داخل الأتوبيس وهتفا : مع السلامة ، اندفعت الكلمات من فمى معهما : مع السلامة .. تفحصانى بدهشة .. خفضت رأسى خجلا .
ورطة محمد حسان مصر 3-
عندما اقتنصت البنت الفرصة وانفلتت من يدي متوجهة لداخل محل لعب الأطفال، تسمرت في مكاني ,و ألقيت الذنب علي انسياقي وراء غواية الإعلان الذي يدعوني للشراء بمبلغ معين –كبير- لتتاح لي فرصة الاشتراك في السحب اليومي الذي تبدأ جوائزه من فانلة بيضاء عليها رمز المحل الكبير وتنتهي عند سيارة كبيرة،حديثة.
وقفت لمدة ثانية واحدة لأقرأ وفي اللحظة ذاتها انفلتت دينا من يدي .
لم يكن أمامي من خيار سوي الوقوف أمام محل لعب الأطفال وانتظار دينا ابنتي حتى تخرج.
بدأت البنت في التحرك داخل المكان مستعرضة الألعاب،متحركة بينها،بل ومجربة لبعضها أحيانا.
ما العمل؟
هل أدخل خلفها وأسحبها بهدوء من يد البائعة المبتسمة التي أمسكت بيد دينا؟
كل ما علي قوله: آسف ...
ثم أوجه كلامي لدينا: لقد تأخرنا علي ..........
ثم اسحبها بسرعة من يد البائعة المبتسمة وأخرج بها سريعا من المحل حتى ولو اضطررت لحملها.
ولكن ماذا لو تمسكت البنت بيد البائعة بقوة وبيدها الأخرى بإحدى الألعاب؟
لم أستطع تخيل حجم الكارثة والفوضى التي ستحدث ناهيك عن الصريخ.
أيضا ومن أين للبائعة أن تعرف أنني أبو الطفلة؟
علي أن أتحرك بسرعة قبل أن تضحك البائعة المبتسمة علي عقل البنت وتقنعها بلعبة،ومن ثم تتمسك بها وتحرجني واضطر إلي...
إلى ماذا؟
أن أشتري .
وهل معي نقود للشراء أصلا؟
لقد نبهت علي دينا من قبل وقلت لها : سنخرج لنتجول داخل المبني التجاري الكبير، الحر خانق بالخارج والرطوبة عالية، علينا أن نتمشي ونشاهد المعروضات ونستمتع بالتكييف .
وان أردت شراء شئ ما عليك أن تتذكري مكان عرضه، وعندما أعمل، سأشتريه من أول مرتب.
وأخرجت كل النقود القليلة من جيبي وأريتهم لها.
وقفت خارج المحل أختلس النظرات لتحركاتها داخل المحل منتظرا خروجها بسلام.
انتظرت كثيرا حتى ظهرت البائعة المبتسمة وهي ممسكة بيد دينا التى أشارت نحوي.
اتسعت ابتسامة البائعة وهى ترمقني ثم سحبت يد دينا وسارت تجاهي .
توقف قلبي عن التحرك وازداد العرق.
مدت البائعة المبتسمة يدها لي واتسعت ابتسامتها اكثر وقالت كلاما غير مفهوم بلكنة غريبة, اختلطت فيه اللغتان الإنجليزية و العربية بلغة اخري ربما كانت ا لهندية.
ولم افهم من كلامها إلا القليل الذي يحوي الثناء علي ذكاء دينا.
وبينما كنت انتظر اللحظة التى تنتهي فيها البائعة من الكلام.
كنت اتابع نظرات الثقة الشديدة التي ترسل إشعاعاتها من عيني دينا وتغطيني كاملا.
مصحوبة بابتسامة طفولة بدت بريئة بدأت في الاتساع.
Tuesday, May 01, 2007
2-شكرا يا باولو مكاوي سعيد مصر
شكرا يا باولو
مكاوي سعيد
أخيرا انتهينا من لصق الورق علي آخر حائط لآخر غرفة، أنهكها التعب فجلست القرفصاء في وسط الغرفة، ساكن ومتعب كل جزء بجسدها إلا عيناها، أثارتني رؤيتها بهذا الهدوء الجميل والتعب اللذيذ، ولولا يداي المتسختان ورد فعلها العنيف الذي أعرفه جيدا لاحتضنتها وهي علي هذه الصورة، افترشت الأرض بجوارها، مدت إلي يدها بالحقنة البلاستيكية الصغيرة، وأومأت برأسها إلي ركن صغير في الحائط، بالكثير من الكسل، قمت، تساندت علي الحائط، التفت إليها، ابتسامتها الجميلة غمرتني، أحسست أني أمتلك الكون ولولا أني أخشاها وأحبها كما لم أحب إنسانا آخر لجعلت هذه الليلة ارتباطنا الأبدي وما انتظرت شهرا كاملا تمر أيامه كما يمر الكابوس الوحشي بطيئاً.. بطيئا.
وهي تصب الماء علي يدي، اختلست نظرة إلي الشباك الصغير بالحمام وقالت: الوقت تأخر جدا، قاطعتها: لكننا أنجزنا كل شيء، توقفت عن الصب وجففت يدي بالفوطة وضغطت عليها بشدة وهي تقول: .. من الغد ننقل الأثاث، قلت لها وأنا ابتسم:.. وسنتأخر كما تأخرنا اليوم، ضحكت ضحكتها التي جعلتني ألغي كل أفكار السفر والهجرة وأخطبها وأرضي بالأمر الواقع وقالت : سنتأخر أكثر من اليوم.
في الطريق أدركت كم كان الوقت متأخرا، الشارع مظلم وكئيب وأصوات الصبية - وهم يلعبون - خبت تماما، التصقت بي وأنفاسها الحارة تغمرني وخوفها الغريزي يقويني ويشعل في جسدي أحاسيس الرجولة.. يشعرني أني رجلها.. أني شيخ القبيلة وقت الخطر. وكان لا بد أن أغتصب القبلة مهما غضبت وتعصبت، وبالفعل تركت يدي ومشت غاضبة خطوات، اعتذرت لها، عاتبتني بتحذير مملوء بالدلال، رويت لها نكتة، سرقت منها ابتسامة، رويت لها الثانية، ضحكت بصوت منخفض، رويت الثالثة، ضحكت بملء فيها وكأن كل الكون يضحك معها ثم جذبت ذراعي إليها وهي تحلفني بحبنا ألا أفعلها ثانية.
من خلف الشجرة الضخمة التي بوسط الطريق إلي اليمين خرج شبحان واقتربا منا، لم أميز ملامحهما وتخوفت قليلا، أحسست دقات قلبها المضطربة وضايقني التصاقها العنيف بي أمام الغريبين، واجهني أولهما ودار الآخر خلفنا، تسمرت بمكاني راجفا.. سألته ماذا يريد؟.. ابتسم بتهكم: حقي.. تساءلت بفزع: أي حق؟.. أشار إليها بسخرية، انتفضت في جنون، جذبني إلي جوار الشجرة بينما أشار إليها الآخر بأن تتبعني.
وجدت ثلاثة يحتسون البيرة أمام خرابة مسوّرة بسور حديدي وباب مفتوح علي الدوام، كنت كثيرا ما أمر عليه في الصباح وأجد أمامه عربة لبيع الفول وكانت العربة مغطاة في مكانها وهم بجوارها آمنون، سألني أوسطهم ويبدو أنه الزعيم : بتعمل إيه مع البنت دي ياد؟. صرخت: إنها خطيبتي (مشيرا إلي دبلة في يدها وأخري في يدي)، قاطعني بسخرية: أسطوانة مشروخة، أقسمت له بكل الأديان إنها خطيبتي وسنتزوج بعد شهر من الآن وممكن أن يحضروا الفرح إذا لم يكن عندهم مانع، تفرس فيها الزعيم وبعد أن أنزل كوب البيرة من فمه قال: وإيه المانع لما تتجوزها دلوقتي حالا هنا.. إيه اللي حيخليك تستني شهر بحاله، انفجروا في ضحك هستيري لم يوقفه إلا صوت خطيبتي تسبه: اخرس يا كلب، وكأن هذه الكلمة خدشت حياء هذا الحيوان الذي لو مرت عليه عربات الدنيا كلها لن يحس.. قتلته هذه الكلمة، قام من علي كرسيه وبوحشية بدائية صفعها صفعة، أحسست أن عظامي كلها تتفتت من حولها، اختلست نظرة إليها ودمعت عيناي وتكومت هي علي الأرض وصوت بكائها يمزق قلبي، انتشي الزعيم بضربها، جلس مرة أخري ثم سألني بهدوء.. أنت بتشتغل إيه؟. أجبت: مهندس.. أشار إليها..قلت: مهندسة، أكمل الاستجواب.. وكنت فين.. في شقتنا نطمئن علي تجهيز كل شيء قبل ميعاد الزفاف.. أفاقت خطيبتي وصرخت: ماتتكلمش مع الحيوان ده.. نظر إليها باستهزاء وقال بتدعي الشرف وهو نازل فيكي بوس من أول الشارع، نكست خطيبتي رأسها وسكتت، كان أمامي مستنقع قذر ولا بد أن أعبره.. كلمته عن معاناتي في الشقة والتعب مع الصنايعية وميزة أن يسكن الشخص في شارع مثل هذا له فتوة محترم يأخذ بحقه ممن يعتدي عليه وأنني أعذره في تصرفه لأنه كان يظن أننا لا علاقة لنا ببعض، نظر إلي بمكر مصحوب باستهزاء وعبرتني نظرته إليها.
كانت متحفزة كنمرة جريحة ستقضي علي العالم كله قبل أن يلمسها أحد، انتهزت الفرصة وقالت: أمشي يا معلم، قام الذي بجانبه بتفحصنا وبحركة ماكرة وضع يده علي صدرها، أوقفته صفعة وبصقة بصوت مسموع، كاد أن يشبتك معها لولا أن الزعيم صرخ فيه وهو يقول: .. دي خطيبته ياد وبكرة حتكون مراته وأنا مصدقه، شكرته علي ثقته بي وجذبت يدها لأنصرف ولم أتوقف إلا وأنا أسمعه.. استني.. التفت إليه بدهشة، قال بهدوء.. كل عشر خطوات تلف ناحيتي وتقول شكرا يا باولو لغاية ما توصل للشارع الرئيسي، بعد عشر خطوات التفت وقلتها وبعد عشرين خطوة أعدتها ولم أتوقف إلا داخل التاكسي، كانت لا تزال تبكي وسائق التاكسي يلتفت إلينا عند كل توقف وكنت لا أقدر علي الكلام، أحس بأن جسدي قد تحول إلي ينابيع من القيح والعفن وأن كابوسا ثقيلا يجثم علي الصدر وقلبي في قبضة يد فولاذية لا ترحم.. هبطت من التاكسي بسرعة محاولا اللحاق بها، كانت قدماها قد أكلت الدرجات الرخامية القليلة واختفت داخل الشقة، أكملت الطريق إلي بيتنا علي القدمين وكنت كل عشر خطوات اتلفت دون أن أنطق بكلمة .
لم أجرؤ علي رؤيتها أسبوعا كاملا حتي جاءني أخوها الأصغر يطلب مني أن أقابل والده في المساء.. كنت متحيرا كيف أبرر لوالدها الأمر وأجعله في صفي؟ وكنت أخشاها كثيرا.. أخشي عينيها السوداوتين.. صمتها القدسي، انتحي بي الأب ركنا قصيا.. أصر أن أشرب الليمون، وبعد أن تجرعته أعطاني لفة صغيرة بها الخاتم والسوار وبضع مئات من الجنيهات قال إنها نظير الهدايا ثم أمسك بكفي وقال في تضرع.. كما دخلنا بالمعروف نخرج بالمعروف.. صممت أن تواجهني وأن تقول نفس الكلمات، خرج من الغرفة وجاء بها، لم أعرفها لأول وهلة... رداء أبيض يصل إلي الأرض وغطاء للرأس يخفي الشعر وقفاز فلحم يخفي اليدين ووجه لا يظهر منه إلا العينان، تفرست فيها كثيرا ودمعتان في عيني كادتا تفران، لم تختلج ولن تطرف لها عين سألتها بصوت مخنوق، أهذا رأيك؟.. هزت رأسها بالإيجاب وخرجت من الغرفة..
لم يستغرق الأمر مني كثيرا لأن أقرر، بمجرد قراءة الخبر في الجريدة جهزت نفسي، استيقظت في الخامسة صباحا، كنت بالشارع في الخامسة والنصف، وجدت طابورا أمام السفارة وكان رقمي السبعين، في التاسعة والنصف كنت أمامه، وهو يتفرس في الأوراق ويراجع الأختام لماذا تهاجر؟.. حاولت المترجمة تفسير سؤاله، قلت لها لا أحتاجك أنا أجيد اللغة وأضفت موجها الكلام إليه بلغته.. وأحب حياتكم وطيلة عمري كنت أحس أني واحد منكم كما أني أيضا لن أعود.. لن أعود، ابتسم ابتسامة عريضة وقال.. خمسة عشر يوما وتكون هناك..
غادرت المبني مهرولا، تعثرت في نتوء بالرصيف، انتشلتني يده بسرعة وتزامنت كلماته الهامسة بالصلاة علي النبي مع حركة اليد الأخري وهي تنفض عني الأتربة، استسلمت تماما له كطفل أبكم وجد نفسه فجأة بين طقوس زار ضخم، راقبت ظهره المحدودب قليلا وعندما كادت تغادرني صدي خطواته المبتعدة، أفلتت من شفتي كلمتان رغما عني.. شكرا يا باولو.. شكرا يا باولو.
مكاوي سعيد
أخيرا انتهينا من لصق الورق علي آخر حائط لآخر غرفة، أنهكها التعب فجلست القرفصاء في وسط الغرفة، ساكن ومتعب كل جزء بجسدها إلا عيناها، أثارتني رؤيتها بهذا الهدوء الجميل والتعب اللذيذ، ولولا يداي المتسختان ورد فعلها العنيف الذي أعرفه جيدا لاحتضنتها وهي علي هذه الصورة، افترشت الأرض بجوارها، مدت إلي يدها بالحقنة البلاستيكية الصغيرة، وأومأت برأسها إلي ركن صغير في الحائط، بالكثير من الكسل، قمت، تساندت علي الحائط، التفت إليها، ابتسامتها الجميلة غمرتني، أحسست أني أمتلك الكون ولولا أني أخشاها وأحبها كما لم أحب إنسانا آخر لجعلت هذه الليلة ارتباطنا الأبدي وما انتظرت شهرا كاملا تمر أيامه كما يمر الكابوس الوحشي بطيئاً.. بطيئا.
وهي تصب الماء علي يدي، اختلست نظرة إلي الشباك الصغير بالحمام وقالت: الوقت تأخر جدا، قاطعتها: لكننا أنجزنا كل شيء، توقفت عن الصب وجففت يدي بالفوطة وضغطت عليها بشدة وهي تقول: .. من الغد ننقل الأثاث، قلت لها وأنا ابتسم:.. وسنتأخر كما تأخرنا اليوم، ضحكت ضحكتها التي جعلتني ألغي كل أفكار السفر والهجرة وأخطبها وأرضي بالأمر الواقع وقالت : سنتأخر أكثر من اليوم.
في الطريق أدركت كم كان الوقت متأخرا، الشارع مظلم وكئيب وأصوات الصبية - وهم يلعبون - خبت تماما، التصقت بي وأنفاسها الحارة تغمرني وخوفها الغريزي يقويني ويشعل في جسدي أحاسيس الرجولة.. يشعرني أني رجلها.. أني شيخ القبيلة وقت الخطر. وكان لا بد أن أغتصب القبلة مهما غضبت وتعصبت، وبالفعل تركت يدي ومشت غاضبة خطوات، اعتذرت لها، عاتبتني بتحذير مملوء بالدلال، رويت لها نكتة، سرقت منها ابتسامة، رويت لها الثانية، ضحكت بصوت منخفض، رويت الثالثة، ضحكت بملء فيها وكأن كل الكون يضحك معها ثم جذبت ذراعي إليها وهي تحلفني بحبنا ألا أفعلها ثانية.
من خلف الشجرة الضخمة التي بوسط الطريق إلي اليمين خرج شبحان واقتربا منا، لم أميز ملامحهما وتخوفت قليلا، أحسست دقات قلبها المضطربة وضايقني التصاقها العنيف بي أمام الغريبين، واجهني أولهما ودار الآخر خلفنا، تسمرت بمكاني راجفا.. سألته ماذا يريد؟.. ابتسم بتهكم: حقي.. تساءلت بفزع: أي حق؟.. أشار إليها بسخرية، انتفضت في جنون، جذبني إلي جوار الشجرة بينما أشار إليها الآخر بأن تتبعني.
وجدت ثلاثة يحتسون البيرة أمام خرابة مسوّرة بسور حديدي وباب مفتوح علي الدوام، كنت كثيرا ما أمر عليه في الصباح وأجد أمامه عربة لبيع الفول وكانت العربة مغطاة في مكانها وهم بجوارها آمنون، سألني أوسطهم ويبدو أنه الزعيم : بتعمل إيه مع البنت دي ياد؟. صرخت: إنها خطيبتي (مشيرا إلي دبلة في يدها وأخري في يدي)، قاطعني بسخرية: أسطوانة مشروخة، أقسمت له بكل الأديان إنها خطيبتي وسنتزوج بعد شهر من الآن وممكن أن يحضروا الفرح إذا لم يكن عندهم مانع، تفرس فيها الزعيم وبعد أن أنزل كوب البيرة من فمه قال: وإيه المانع لما تتجوزها دلوقتي حالا هنا.. إيه اللي حيخليك تستني شهر بحاله، انفجروا في ضحك هستيري لم يوقفه إلا صوت خطيبتي تسبه: اخرس يا كلب، وكأن هذه الكلمة خدشت حياء هذا الحيوان الذي لو مرت عليه عربات الدنيا كلها لن يحس.. قتلته هذه الكلمة، قام من علي كرسيه وبوحشية بدائية صفعها صفعة، أحسست أن عظامي كلها تتفتت من حولها، اختلست نظرة إليها ودمعت عيناي وتكومت هي علي الأرض وصوت بكائها يمزق قلبي، انتشي الزعيم بضربها، جلس مرة أخري ثم سألني بهدوء.. أنت بتشتغل إيه؟. أجبت: مهندس.. أشار إليها..قلت: مهندسة، أكمل الاستجواب.. وكنت فين.. في شقتنا نطمئن علي تجهيز كل شيء قبل ميعاد الزفاف.. أفاقت خطيبتي وصرخت: ماتتكلمش مع الحيوان ده.. نظر إليها باستهزاء وقال بتدعي الشرف وهو نازل فيكي بوس من أول الشارع، نكست خطيبتي رأسها وسكتت، كان أمامي مستنقع قذر ولا بد أن أعبره.. كلمته عن معاناتي في الشقة والتعب مع الصنايعية وميزة أن يسكن الشخص في شارع مثل هذا له فتوة محترم يأخذ بحقه ممن يعتدي عليه وأنني أعذره في تصرفه لأنه كان يظن أننا لا علاقة لنا ببعض، نظر إلي بمكر مصحوب باستهزاء وعبرتني نظرته إليها.
كانت متحفزة كنمرة جريحة ستقضي علي العالم كله قبل أن يلمسها أحد، انتهزت الفرصة وقالت: أمشي يا معلم، قام الذي بجانبه بتفحصنا وبحركة ماكرة وضع يده علي صدرها، أوقفته صفعة وبصقة بصوت مسموع، كاد أن يشبتك معها لولا أن الزعيم صرخ فيه وهو يقول: .. دي خطيبته ياد وبكرة حتكون مراته وأنا مصدقه، شكرته علي ثقته بي وجذبت يدها لأنصرف ولم أتوقف إلا وأنا أسمعه.. استني.. التفت إليه بدهشة، قال بهدوء.. كل عشر خطوات تلف ناحيتي وتقول شكرا يا باولو لغاية ما توصل للشارع الرئيسي، بعد عشر خطوات التفت وقلتها وبعد عشرين خطوة أعدتها ولم أتوقف إلا داخل التاكسي، كانت لا تزال تبكي وسائق التاكسي يلتفت إلينا عند كل توقف وكنت لا أقدر علي الكلام، أحس بأن جسدي قد تحول إلي ينابيع من القيح والعفن وأن كابوسا ثقيلا يجثم علي الصدر وقلبي في قبضة يد فولاذية لا ترحم.. هبطت من التاكسي بسرعة محاولا اللحاق بها، كانت قدماها قد أكلت الدرجات الرخامية القليلة واختفت داخل الشقة، أكملت الطريق إلي بيتنا علي القدمين وكنت كل عشر خطوات اتلفت دون أن أنطق بكلمة .
لم أجرؤ علي رؤيتها أسبوعا كاملا حتي جاءني أخوها الأصغر يطلب مني أن أقابل والده في المساء.. كنت متحيرا كيف أبرر لوالدها الأمر وأجعله في صفي؟ وكنت أخشاها كثيرا.. أخشي عينيها السوداوتين.. صمتها القدسي، انتحي بي الأب ركنا قصيا.. أصر أن أشرب الليمون، وبعد أن تجرعته أعطاني لفة صغيرة بها الخاتم والسوار وبضع مئات من الجنيهات قال إنها نظير الهدايا ثم أمسك بكفي وقال في تضرع.. كما دخلنا بالمعروف نخرج بالمعروف.. صممت أن تواجهني وأن تقول نفس الكلمات، خرج من الغرفة وجاء بها، لم أعرفها لأول وهلة... رداء أبيض يصل إلي الأرض وغطاء للرأس يخفي الشعر وقفاز فلحم يخفي اليدين ووجه لا يظهر منه إلا العينان، تفرست فيها كثيرا ودمعتان في عيني كادتا تفران، لم تختلج ولن تطرف لها عين سألتها بصوت مخنوق، أهذا رأيك؟.. هزت رأسها بالإيجاب وخرجت من الغرفة..
لم يستغرق الأمر مني كثيرا لأن أقرر، بمجرد قراءة الخبر في الجريدة جهزت نفسي، استيقظت في الخامسة صباحا، كنت بالشارع في الخامسة والنصف، وجدت طابورا أمام السفارة وكان رقمي السبعين، في التاسعة والنصف كنت أمامه، وهو يتفرس في الأوراق ويراجع الأختام لماذا تهاجر؟.. حاولت المترجمة تفسير سؤاله، قلت لها لا أحتاجك أنا أجيد اللغة وأضفت موجها الكلام إليه بلغته.. وأحب حياتكم وطيلة عمري كنت أحس أني واحد منكم كما أني أيضا لن أعود.. لن أعود، ابتسم ابتسامة عريضة وقال.. خمسة عشر يوما وتكون هناك..
غادرت المبني مهرولا، تعثرت في نتوء بالرصيف، انتشلتني يده بسرعة وتزامنت كلماته الهامسة بالصلاة علي النبي مع حركة اليد الأخري وهي تنفض عني الأتربة، استسلمت تماما له كطفل أبكم وجد نفسه فجأة بين طقوس زار ضخم، راقبت ظهره المحدودب قليلا وعندما كادت تغادرني صدي خطواته المبتعدة، أفلتت من شفتي كلمتان رغما عني.. شكرا يا باولو.. شكرا يا باولو.
Subscribe to:
Posts (Atom)