Monday, December 04, 2006




المد والجذر


سقط السيد الهولندي فريسة المرض بعد وصوله مع زوجته للندن بفترة قصيرة. كان في بهو الفندق عندما دهمه احساس بالدوار, حتى انه اضطر للاستناد على عامود كي يستعيد شيئا من توازنه. لم يستطع تجنب نظرات الناس المتسائلة الفضولية. على الاغلب يظنونه سكرانا . لم يكن يحس باي الم , فقط تعب مفرط, وكأنما هبطت كل طاقته الحيوية و استقرت في اخمص قدميه و بدأت في الهروب منهما الى الارض المفروشة بالسجاد السميك. وانحنى متكورا على نفسه ونظر الى قدميه وكان شديد الهلع خوفا من ان يرى بركتين صغيرتين من سوائله الحيوية تحوطان حذائيه ماركة جوتشي الغالية.

فكر بسرعة ,لا الطاقة ليست الدم , ولا هي الليمف, الطاقة هي النفس الذي يتردد في الصدر. لابد انها تهرب من مسام الجلد. ووفقا لقوانين حفظ الطاقة التي تعلمها في مدرسته الثانوية لابد انها الان تدفيء الهواء البارد المحيط به والذي صنعه لنفسه بطريقة حياته.

عاونته زوجته حتى تمكن من الوصول الى المصعد ثم الى غرفتهما. وهناك انهار على السريرو اغلق عينيه. كان بوسعه ان يسمع زوجته وهي تجوس خلال محتويات حقائبهما بحثا عن شئ ما.

اخيرا احس بوزنها على طرف السرير , ووضعت يدها على جبينه في تردد. كانت تريد ان تعرف ما الامر ؟ هل ثمة خطأ؟ هل هو محموم ؟ هل تستدعي الطبيب؟ رد :انه لا يحس بالم,والاغلب ان الامر مجرد اجهاد, والنوم العميق سيعيد له التوازن. احس في العجلة التي سحبت بها يدها من علىجبينه بشئ من خيبة الامل, وربما الغضب . كانت تخطط للذهاب الى المسرح في المساء, فمنذ سنوات وهي تتوق لرؤية مسرحية "القطط" الموسيقية الشهيرة. وكان هذا احد اسباب اختيارهم للندن وليس الدار البيضاء لقضاء الاجازة.

في الصباح التالي لم يشعر باي تحسن. كان شديد الضعف فلم يتمكن من الذهاب الى قاعة الطعام في الطابق الارضي للافطار. افطرت زوجته بمفردها. على اي الاحوال لم يكن يحس بالجوع وكانت شهيته غائبة تماما, لذا رفض عرض زوجته للافطارمعا في الغرفة. حاول اثناء غيابها ان يفهم ماذا يحدث. بدا انه يعاني من مرض عضوي , امر غير خطير. ولذا احس بالراحة. لكنه كان ايضا يحس بقلق داهم واختناق بسبب الارهاق الشديد, وكان يحس ايضا ان هذا هو اول علامات الانهيار العصبي الذي يلوح في الافق.

نظر من النافذة وكانت تمطر . كان ثمة مسحة من ظلمة ترتبط بنور النهار . وفي خضم رتابة المطر النازل الذي في الواقع مجرد نقاط قلائل تشيع الرطوبة في كل شئ وتنشر الفساد , كان بوسع السيد ان يحس بشئ داخلي , وليس مجرد توتر خارجي , شئ غامض صار جزءا خبيثا في روحه.

شد الغطاء الى ذقنه. وعندما عادت زوجته كان معها رجل في اواخر الشباب يرتدي عوينات. قدم نفسه بوصفه الطبيب فلان الفلاني, لم يستطع السيد ان يلتقط الاسم . سأله القادم الجديد ان كان يحس بأي الم , وعما اذا كانت تلك هي المرة الاولى التي يحس فيها بالارهاق , وهل يعاني من مشاكل في العمل؟, وهل فقد الايمان في المستقبل؟ وهل زار مناطق استوائية مؤخرا؟ بعد كل سؤال كان السيد يهز رأسه . كان من الواضح ان الطبيب لم يجد هذه الهزات كافية ولذا فقد بدء في فحصه. وقاس حرارته وكانت طبيعية رغم انخفاضها بعض الشئ, ثم قاس ضغطه, وكان مرتفعا, رغم انه ليس مرتفعا بالنظر لعمر السيد, واخيرا وضع مصباحا صغيرا في فم السيد, ورجاه كما لو كان يخاطب طفلا ان يقول "آه".ثم لملم ادواته و انطلق نحو الباب.

في الخارج تحدث مع زوجة السيد المحترم , تحدثا وقتا طويلا وبين الحين والآخر كانت زوجة السيد المحترم ترجوه بصوت مسموع, ولكن كان الطبيب بلا حيلة بحاول الاعتذار عن شئ لا ذنب له فيه. قرب نهاية المحادثة اكتسب صوته نبرة سلطوية وارتفع فوصلت بضع كلمات لاذن السيد المحترم " تغيير الجو" ثم سمع كلمة "بحر" وتكررت الكلمة ثلاث مرات على الاقل. وفجأة اخترقت كلمتا الحرية و النضارة الباب بطريقة ما. بالتأكيد لا يقترح الطبيب شيئا تافها و مكررا مثل تغيير الجو؟لقد غيرا الجو فعلا من لاهاي اتيا الى لندن.ليست مسافة كبيرة و لكن بالنسبة لشخص متعته المفضلة غير المعلنة هي البقاء في المنزل و الحملقة في سمكاته الذهبيات , فهي رحلة حقيقية.

عادت زوجة السيد المحنرم للحجرة لكنها لم تنظر له. تابع خطواتها بعينيه نصف المغلقتين . اعادت ترتيب الستائر. رغم انه لم يكن هناك داع. و اخذت تتحرك في ارجاء الحجرة بلا هدف.

ومرت مرتين بالصوفا ومسدت الوسادة بلا سبب ملحوظ. ثم التقطت دليلا سياحيا و اخذت تنظر للصور بتمعن.

اخيرا استجمعت شجاعتها وقالت"هناك اماكن جميلة على الساحل الجنوبي" ثم اردفت" قرى صغيرة جميلة على شاطئ البحر.نظيفة ومنظمة. يمكننا استئجارسيارة والذهاب في رحلة".

لم يستطع السيد المحترم ان يخفي انزعاجه تماما , لقد وصلا لتوهما, و اليس من المفروض ان يشاهدا لندن؟ صحيح , ان تلك الزيارة هي زيارتهم رقم25 , وربما لا يوجد ما يستحق الرؤية حقا, لكن السيد المحترم يحب زيارة اماكن كان قد ارتادها عدة مرات. فهذا يعطيه الاحساس بأنه يتجول في ماضيه. انزعج ايضا من صفتي "نظيفة و منظمة"" الموعودتين فقد جلبتا لذهنه على الفور خيالات للمدن الهولاندية النظيفة و المنظمة. هذه النظامية الكئيبة التي فرضها الانسان على الطبيعة خوفا من فوضاه الداخلية. يبدو انه من السهل فرض نوع من المظهر المنظم على الطبيعة

اسهل من وضع الاشياء بشكل منظم في هذه المساحة الشاسعة التي تسمي نفسها "أنا".

رغم هذا لم يعترض السيد المحترم على اقتراح زوجته . فطوال حياته كان يحاول الا يجرحها ولو عفوا . لماذا يفعل هذا الآن؟ وخاصة وهو لا يعرف بالضبط ماذا يريد.

قال"نعم" وتمتم" أي شئ , أي مكان , أي زمان"

توقف المطر في اليوم التالي . لكن الصيف لم يعود, ذكرهم اليوم بالربيع المبكر. كانت اشعة الشمس المتراقصة تغسل الشوارع بنورها المتلألأ حتى بدت الاخيرة وكأنها السطح المضطرب لبحيرة ذهبية.خرج السيد المحترم من الحجرة وقضى ساعة جالسا في الشرفة. افاده الهواء المنعش كثيرا. ولاول مرة منذ ايام احس بان فكرة الطعام لا تسبب له الغثيان. ولو خير لاختار حساء عش الطائر في مطعم صيني محترم , لان هذا سيفيده. هرعت الزوجة للاستقبال وطلبت سيارة اجرة. في لحظات كانا في طريقهما الى سوهو.

و بينما كانا يأكلان ذكرت وكأنها تذكره بشكل عرضي , كيف انه من الجميل ان يذهبا في سيارة الى شاطئ البحر.ولو لمدة يوم او اثنين. الجو مناسب جدا لمثل هذه الرحلة. لندن لن تهرب!

على اية حال فهي لم تتغير منذ 30 عاما أي منذ زاروها لاول مرة.ربما كان هذا هو مصير بعض المدن: الا تتغير ابدا. ربما كان هذا هو سر سحر هذه المدن . وظلت تتكلم بهذه الطريقة الملتوية طوال الغداء , كانت مرعوبة من ان تؤدي اية كلمة ليست في محلها الى رجوع السيد المحترم الى حالته السابقة من الخمول.

لكن لا, لقد هز السيد المحترم رأسه , وكأنه لا يعارض فكرة الجلوس خلف المقود عدة ساعات, والضغط على البنزين , والتهام الكيلومترات , و الاسراع بالابتعاد عن الاحساس المظلم بالكآبة.

دائما كانت القيادة تعطيه احساسا بالقوة والضمان .كان يجيد القيادة , وبسرعة وليس ببطء , ولكن دائما في امان و هو يعرف حدود قدراته وخبرته. في الواقع كان يتمتع بالقيادة اكثر من تمتعه باي شئ آخر . دائما ثمة جديد في الانتظار . وعلى المرء ان يظل متيقظا طوال الوقت كي يكون بوسعه التفاعل مع غير المتوقع في لحظة . كان يفتقد غير المتوقع في حياته منذ وقت بعيد. وفي الواقع من اللطيف التنزه على شواطئ القنال الانجليزي. ورؤية موضع نزول وليام الفاتح , وتلك التلال البيضاء التي يشتهر بها جنوب انجلترا.

إستاجرا سيارة وانطلقا , واستغرق الامر حوالي ساعة ليخرجا من زحمة المرور في لندن و يصلا إلى طريق مفتوح لا يقودهما إلى المدينة مرة أخرى عبر إنحناءة غير متوقعة. بل على العكس يمتد نحو الافق عبر تلال تمتد على ضفتي نهر التيمز حتى تصل إلى شاطئ انجلترا الجنوبي . وجد السيد المحترم ان القيادة على اليسار ليست بالصعوبة التي تخيلتها زوجته , فالمقود هو المقود , والطريق هو الطريق وهكذا رد عليها محاولا طمأنتها عندما وكدت عليه وهو يقود ان يكون اكثر حرصا. احيانا كان ينتابه احساس بالندم لأن الطريق جد مستقيم , وكم كان سيرحب بانحناءة او اثنتين مخادعتين و خطرتين , مواقف تجبره على اجراء مناورات مذهلة تفصح عن تمكنه من المقود.

جلست زوجته بالقرب منه دون ان تتكلم كثيرا . كانت مأخوذة بالريف الخلاب الذي ينفتح امامهم ويتراجع مع مرورهم. لاحظ السيد المحترم ان وجهها كانت تعلوه مسحة الحزن المعتادة . كان هذا هو اللون المزاجي المعتاد عندها طوال السنوات العشر, الخمس عشر الاخيرة. كأن ثمة شئ لا يعلمه الا الله, يأكلها من الداخل.في البداية , وعندما كان من الممكن ان يسألها عن السبب , فشل السيد المحترم في استجماع شجاعته ليسألها, و الآن لم يعد مهتما. لم يناقشا أي مشاكل بينهما طوال السنوات العشر الماضية .

كان ثمة اتفاق غير مكتوب بينهما , يقضي بأن المشاكل امر لا يستطيعان تحمله.

ماذا ينقصهما ؟ كان السيد المحترم مديرا عاما في شركة تبيع برك الحدائق الصناعية. وكانا يمتلكا شقة مكونة من 9 حجرات في لاهاي , منزل صيفي لقضاء الاجازات على ضفاف بحيرة بالقرب من جودا. وكانا يمتلكا سيارتين , السيد المحترم لديه سيارة بي ام دبليو كبيرة , و الزوجة الفا روميو انيقة. كانا يمتلكا يختا . كان لديهما ثلاثة ابناء و ابنة. كان اكبرهم نائب المدير في شركة تبيع المصنوعات الحديدية في بلجيكا . و الاوسط تزوج فتاة المانية محترمة ويعمل في بيع الورق المقوى الذي تنتجه شركة اباها. وكان الابن الاصغر يدرس علم النفس , معترفا بأنه يدرسه ليعين نفسه , وليس لديه رغبة دفينة لعون الآخرين, لكن على الاقل كان يفكرفي المستقبل. كانت خيبة الامل الوحيدة هي ابنتهم الصغرى , فمنذ عدة اعوام, هربت لاستراليا مع كاتب سلوفيني مريب , او هذا ما كان يدعيه على الاقل. لكنها مؤخرا عادت لارض الواقع , وتعمل الآن في بنك في سيدني , بينما يقود الكاتب قطارات مترو الانفاق , وهو امر اكثر عائدا بالتأكيد من محاولة أن يكون عبقريا.

بالنظر لكل هذا , فقد كانت الحياة سخية معهما . كان لديهما اصدقاء في مراكز محترمة و باقة رائعة من المعارف المفيدين. وكان السيد المحترم واثقا من انه سيحصل على معاش ممتاز. وكانا يسافران للخارج مرة كل عام في اجازة , و يقضيان نهايات الاسبوع في منزلهما الصيفي. وعندما يكون السيد المحترم في العمل , لم يكن ثمة مجال للملل عند زوجته . كانت تزور الاصدقاء , وتزرع الورود والزهور , وتقرأ الروايات الرومانسية , وتزور مرشدها الروحي القادم من الهند .مرة او مرتين راوده الشك انها قد تكون على علاقة بعشيق , لكنه طرد الفكرة من ذهنه على الفور . كان يحس انه لا يجب ان يسمح لاي شئ ان يقلق التوازن الذي يحيا فيه ويتمتعان به.

قضيا عشرون دقيقة بالقرب من الشاطئ وهما يبحثان عن مدخل يقودهما لبلدة سلسي. كانت شبه الجزيرة التي تحمل هذا الاسم جزيرة في حقبة تاريخية ماضية , ولكن مع كر القرون التحمت باليابسة . قرآ في الدليل السياحي ان بلدة سلسي بلدة جذابة وبها ثلاثة شواطئ و ميناء للصيد , وبالقرب منها محمية للطيور تجذب محبي الطبيعة كالمغناطيس. وقد كانا دائما من محبي الطبيعة. توقفا في الميدان الرئيسي كانت هناك اكواخ من حجر على الجانبين . ثمة بضعة محلات و حانتين و مطعم. بقيا في السيارة , واخذا يتساءلان ماذا سيفعلا؟. ادكا انهما لايملكان خطة و لا يعرفا لماذا اتيا الى هنا بالضبط؟ قررا البحث عن فندق صغير , سيحجزا غرفة لها شرفة تطل على البحر. قاد السيارة الى الشاطئ . كان منحدرا و مملوء بالحصى و يحيط به رمال كثيرة. هبت الريح من ناحية البحر باردة ومنعشة.هربا لسيارتهما وعادا للميدان الرئيسي .

جلسا في ركن قصي من احد الحانتين . طلبا سلطة الجمبري و طبقا كبيرا من اللحوم الباردة وللشراب زجاجة من النبيذ الجيد.

احس السيد المحترم برغبة عارمة في الانطلاق. ليس هذا ما يبحثان عنه. وجدت زوجته البلدة مخيبة للآمال ايضا .كلاهما توقع شيئا آخر , رغم ان كليهما لم يكن بوسعه ان يحدد ماذا بالضبط. عادا للطريق الرئيسي , واتجها غربا , فوجدا تفريعة تقود لبلدة بوشام فاتبعاها حتى وصلا الى حافة الماء. اوقفا السيارة بجوار سيارات ثلاث متوقفة على الرمال. امامهما امتد خليج صغير . كان الجذر قد ابتلع كل الماء , تاركا برك قليلة شحيحة الماء يعوم فيها البط بحثا عن السمكات التي تخلفت و حوصرت. حرك المشهد مشاعر زوجة السيد المحترم فقد كانت دوما مغرمة بالبط .

فوجئ السيد المحترم بهذه السكينة المخيمة على القرية. لاتوجد قرقعات , و لا فرقعات , ولا صخب , ولا ضجيج , و لا دق , و لا ضوضاء من أي نوع. لا توجد عجلة .لكن , في قلب هذا الهدوء المهيمن, احس السيد المحترم بنوع جديد من الانقباض في صدره. مازال يشعر بالقلق

لم يكن يعرف ماذا يفعل ؟ كذا كان حال زوجته. ظلا في السيارة عدة دقائق يتأملان الخليج. ثم تحركا بمحاذاة الخليج على الطريق الضيق حتى الجانب الآخر , كانت السيدة زوجة السيد المحترم تريد ان تلتقط صورة للقرية . ثم عادا واوقفا السيارة في نفس المكان السابق على الشاطئ. دخلا الى احد الحانات وطلبا جعة و كوكاكولا بالروم . جلسا بجوار النافذة و اخذا ينظران للخليج , ويتساءلان هل يجب ان يمضيا الليلة هنا؟

لم يستطيعا الاستقرار على رأي . كان السيد المحترم منزعجا من الصمت . وكان بوسعه الاحساس بقرب قدوم الارهاق الذي حل به وحول لندن الى كابوس. جالت زوجته بعينيها في وجها وعليهما مزيج من الالم المر و التأنيب الخفي. انتظرت قراره ,بعد ما بدا وكأنه دهر , قال في صوت تعلوه نغمة هي مزيج من الاعتذار والتحدي انه من الافضل لو استمرا في طريقهما.فمازال هناك متسع من الوقت فالساعة الثالثة بعد الظهر , وربما سيكتشفان شيئا افضل او اكثر ملاءمة على الاقل. عندما وصلا للسيارة , وجدا ماء البحر يكاد يلامس اطاراتها . لقد عاد المد . فكر السيد المحترم : ياله من امر بديع. يذهب ثم يعود . يروح ويجئ . ياله ممن شئ بديع.

استمرا في طريقهما. كان بوسع زوجة السيد المحترم ان ترى من خلال النافذة الخلفية اثار من مياه البحر تتركها الاطارات المبتلة على الطريق. اتجها غربا نحو بورتسماوث وساوثهامبتون . بعد فترة قالت ان هاتين المدينتين هما مراكز صناعية كبرى , ومن غير المحتمل ان يجدا قرى هادئة بالقرب منهما. لم يعترض السيد المحترم . وما ان سمحت له اشارات الطريق بالدوران , لف السيارة وعادا في الطريق نحو ورزنج , و برايتون, و دوفر. قررا التوقف في بلدة صغيرة على البحر مباشرة وقضاء الليلة في فندق هادئ. نعم : في منتجع شاعري على الشاطئ , سيعودا القهقرة الي الايام الخوالي , وهناك سيتمتعا بعشاء لذيذ , وسيقضيا على زجاجة من افخم الانبذة المتوفرة , ثم يجلسان في غسق المساء , ليصغيا الى صوت الموج ويتحادثا..

بيد ان انتظارهما لطريق فرعي يأخذهما من الطريق الرئيسي الى القرية المرتقبة طال , و املهما. وعند ورزنج وجدا منعطف يقود الى البحر , ليس الى قرية سياحية خلابة , ولكن الى خليج صناعي قذر ملئ بالماخن السوداء . تركا المكان في سرعة, ولكن تبقت معهما رائحة الكيماويات التي تسللت الى السيارة . ضغط السيد المحترم على دواسة البنزين وقاد بسرعة اكبر من السرعة المسوح بها عله يستطيع طرد هذه الروائح المنكرة.

وبعد فترة قصيرة وصلا الى شورهام.لم تعجبهما. كانت روائح شحم المصانع المختلطة بملل المساء تفوح منها. على اطراف برايتون ادركا اخيرا انه من اعبث الاستمرار في القيادة من مكان الى آخر طوال الليل. لابد أن هذه هي. هنا سيقضيان ليلتهما. سيشاهدا فيلما , ويتناولا وجبة بسيطة, و يخلدا للنوم. كانا جد متعبين . ندما انهما لم يبقيا في بوشام. وبحركة فجائية هوجاء حول السيد المحترم اتجاه السيارة من الطريق الى موقف صغير امام مجموعة من الشقق. واوقف المحرك.

قال برايتون كبيرة جدا. لماذا لم نبقى في بوشام؟كان المكان جميلا هناك . خليج جميل , بطات لطيفات , وحتى بعض التم. والاهم الهدوء . والمد. المد الجميل الذي يأتي حاملا معه ماء الحياة المزبد.ظلت الزوجة على صمتها. حرك السيد المحترم السيارة و انطلق على الطريق غربا. سيعودا الى بوشام.

ولكن في مكان ما في منتصف الطريق لاحظ السيد المحترم لافتة تشير الى اروندل. نعم : لقد تذكر الاسم اروندل. بلدة بها قلعة قديمة من العصور الوسطى. بوسعهما ان يزورا المتحف هناك. ويتمشيا على ضفة نهر اروندل ويجوسا في الغابات القريبة من البلدة, الاهم انها مكان جميل لقضاء الليل. لم تعترض زوجته. اتبع السيد المحترم العلامات , ووصلا دون ان يتوها. وحجزا غرفة في فندق الجسر على النهر مباشرة. كانت الحجرة تطل على حديقة ومن الجانب الآخر ترى البلد, بقلعتها و كاتدرائيتها على قمة التل . تركا امتعتهما ونزلا يتمشيان.

كانت البلدة مهجورة , كانت كل المطاعم مغلقة . وكل الحوانيت مغلقة. كان اليوم الجمعة قرب الغروب. وجدا على مدخل القلعة رسالة تكاد تكون ممسوحة تخبر الزوار ان المتحف مفتوح طوال ايام الاسبوع بين الحادية عشرة صباحا والثالثة بعد الظهر عدا يومي السبت والاحد. لقد قدما بلا فائدة . فكر السيد المحترم ربما يجب الا يظلا هنا.

كان مطعم الفندق هو الوحيد المفتوح. طلبا شريحتين من لحم العجل . كان الطعام متوسط المستوى بشكل واضح.كان النادل ينضح برائحة العرق القديم الحلوة. كانت اللوحات المتناثرة على الجدران معلقة بلا ذوق. اعلنت زوجة السيد المحترم انها متعبة وتريد الذهاب للفراش.رغم ان الضوء مازال موجودا. نزل السيد المحترم للحديقة و اخذ يجول خلالها بلا هدف. توقف امام عشة في احد الاركان. كان ثمة ارنبان مرعوبان يتزاحمان فيها . دفع السيد المحترم بقبضتين من الحشيش في العشة. اخذا يقرضان بلا مبالاة. جلس السيد المحترم على دكة قريبة واخذ يحملق في القلعة على قمة التل. تذكر الاجازة التي امضاها مع زوجته في مايوركا باسبانيا في العام السابق. هناك ايضا اجرا سيارة وقاداها من مكان لآخر. لم يتوقفا قط. فشلا في العثور على ما كانا يبحثان عنه. في العام الاسبق ذهبا الي ساحل دلماشيا في كرواتيا, وهناك ايضا استأجرا سيارة وقاداها من جزيرة الى اخرى بحثا عن جزيرة الاحلام الشاعرية التي سيخلدان فيها الى الراحة ويبنيان معا امالهما. وطوال شهر استمرت القيادة من جزيرة لاخرى ومن الجزر للبلاد بلا فائدة.

مع حلول الليل , غطى الظلام كل شئ , عدا النور في حجرتهما حيث كانت زوجته تقرأ رواية.احس السيد المحترم مرة اخرى بأن طاقته تهرب الى قدميه ومنهما الى الارض. كان التعب الكبير يعود بقوة. كان يعرف في قرارة نفسه ان هذا التعب سيعاوده بوتيرة اسرع في المستقبل , وفي النهاية سيغزو روحه ويستقر . دفن وجهه في يديه واخذ في البكاء. سكن الارنبان و اخذا ينظران اليه.

ثم وقف على قدميه, و مشى نحو السيارة . جلس خلف المقود , وانطلق نحو بوشام . لن تفتقده زوجته , فعلى الاغلب ستنام والكتاب في يدها . عندما وصل الى مبتغاه اكتشف انه لم يعد ممكنا الوقوف بالسيارة على الشاطئ الرملي , لقد غطاه المد الذي أخذ يلامس جدران المطعم. كانت الاضواء تتلألأ في الداخل . ترك السيد المحترم الاضواء و مضى نحو البحر وخاض فيه, مرت فكرة انه ينبغي عليه ان يخلع نعليه ويرفع بنطاله في خاطره, لكن الامر كان قد تأخر , فقد وصل الماء الى خاصرته. كان يحس بقوة اندفاع الموج تدغدغه, وكانت الامواج المظلمة تلطمه من كل جانب. اخذ عدة خطوات اخرى فوصل الماء الى عنقه. صارت اللطمات الآن ملحية , والماء يندفع داخل فمه و اذنيه , ومنخاريه. وعندئذ جرء على مصارحة نفسه انه كان دائما يخشى البحر وقوة امواجه الغشوم والمد والجذر .

لم يعد الامر كذلك. استدار وعام نحو الشاطئ .استسلم لقوة الامواج التي حملته كأم رؤوم الى البر. المد امر بديع , فكر.انه لا يحتاج لمجهود.كل شئ يقوم به الموج. هل تأخر الوقت أم مازال في العمر بقية للاستمتاع بهذا الكشف. لم يجد الاجابة. كان كل ما يعرفه ان الاتجاه الذي صار يسبح فيه هو الاتجاه الصحيح, على امواج المد نحو البر , نحو زوجته , التي نامت على الاغلب , ولم يشغلها ماذا سيحدث له, ولكن رغم كل شئ كانت هي الشخص الوحيد الذي يريد ان يخبره بما حدث.!!!


8 comments:

Malek said...

الصور الثلاث على الترتيب
1-برايتون في المساء
2-دوفر وتلالها البيضاء (على فكرة في غنوة شهيرة اسمها تلال دوفر البيضاء)من الاربعينات
3-برايتون رسم

معلومة على الهامش قد تكون قصة حقيقية عن حموا المؤلف انا سألته ولم يجاوب لا بالنفي ولا الاثبات وانما راوغني
اهداء الى الصديق ايماتيور ودكتور خالد ابو فارس بمناسبة نجاح المرشح الكويس في انتخابات الحزب اللبرالي في كندا
عقبال بوركينافاسو الشقيقة

Anonymous said...

د.أسامه شاكر على المتابعه واﻷهداء..نجاح "ستيفان ديون" كان ضد كل التوقعات.. المرشح اﻷوفر خظا كان "أجناديف" وأنا شخصيا أصابنى ذعر من هذا.. ثم "راى" وده معقول وخاصه أنه قادم من حزب اليسار الكندى...نجاح "ديون" ناتج عن تحالفات بين مجموعات جديده ناشطه فى المجتمع الكندى أهمها الحركه المناهضه للحرب ودى كان لى نشاط فيها قبل غزو العراق وخطأ تخيلت أنها أختفت...ويبدو أنه يجب أن أمد جسور معهم ثانيه..اﻷهم هو اﻷنتخابات الفيدراليه القادمه والتى أنوى اﻷنغماس فيها وبدأنا من اﻷن...
على فكره أنا زرت بريتون وماحولها وعملت فيها مرمطون فى فندق أشيل وأحط وأغسل أطباق فى أول خروح لى من مصر وأنا 18 سنه...ياااااه من زمان قوى...وتكتسب مكانه خاصه حيث لقائى اﻷول القريب ومعايشتى للغرب...لغه وثقافه...ال بى بى سى..وبنات الغرب طبعا..
مع الفارق فى الموقفين... قفز لذهنى الراوى فى رائعه "الطيب صالح "..."موسم الهجره الى الشمال" المشهد اﻷخير وهو يحاول عبور أنحناءه النهر متجها للشمال..وينهى الروايه بعد أن غلبه التيار "النجده...النجده"
أسف على اﻷطاله شكرا.......تحياتى ومودتى......خالد

Ossama said...

ده كده الاهداء جاه في الجون ياباشا
انا اللي شاكر لحضرتك الحضور الجميل

eman said...

هناك عدة تساؤلات وجدتها فى القصة ..

اولا .. انه لم يسمهما .. فقط كناهما بالسيد والسيدة
لماذا ؟؟

.......
يحب السيد البقاء فى البيت ! اعتقد انها العزلة وامانها

.............
فى كل رحلة سياحية يبحثان عن شىء ولا يجداه .. يبحثان عن المكان الأمثل والأنسب ومع هذا لا يجداه !

كيف تجد الأمثل والأنسب بل والأجمل ان كنت فارغا من الداخل وبحثت عن ما يملؤك !!؟

لا تستطيع !

اعتقد ان الأنسان يتماثل مع ما يوجد فى داخله !

واعتقد ان هذه الفكرة موجودة فى هذه القصة.

وخصوصا .. فى الجملة التى اعجبتنى جدا . وهى وصفة للمكان الشاسع الذى يسمى ب (الأنا)

..............
العيش مع شخص .. هل هذا هو الزواج ؟ لا ادرى !

Anonymous said...

دكتور اسامة
شكرا جزيلا على الاهداء .. ده تانى اهداء لشخصى المتواضع .. فاضللى اهداء كمان ويبقى من حقى الاحتفاظ بالاهداءات لكل اعمالك مدى الحياة.
القصة دى اطول من قصص الهند مع الفارق الكبير بين ما يمكن ان ينتج من حكايات عند زيارة الهند عنه فى لندن.. خصوصا وان الراوى والمؤلف هو من زار الهند وليس لندن ..يبدو كذلك ان حموا المؤلف لا يحبانه كثيرا.
المهم .. نجح المؤلف بالفعل ان يجعلنى اشعر بما يشعر به من ملل واحسست بأننى من اهل الشمال اللى عند الواحد منهم فيلا ويخت وعربية آخر موديل ويذهب للانتحار عندما لايجد شيئا افضل ليفعله بحياته.
عجبنى كمان الربط بين المد والجزر الداخلى والخارجى بس مش عارف ليه كنت عاوز اخنق الزوجة ؟؟

eman said...

سؤال مالوش علاقة بأى شىء !

لم يستخدم الكتاب الان كلمة (دلفت) !!!!؟؟؟
دلفت من باب العمارة ,, دلفت الى السرير !!!

صراحة ! انا لا احب هذه الكلمة !!! يعنى ايه دلفت !

ميقولوا دخلت ولا مررت ولا - رحت الى - وخلاص !

:))

Ossama said...

ايماتيور
اديك الاهداء الثالث يا جميل
المرة الجاية
متزعلش نفسك
المؤلف عاش في لندن كتير بس فعلا هو كان فيه مشاكل جامدة مع حماه وحماته
وبيني وبينك مراته تستحق الخنق بجد
على فكرة كرواتيا مش كده خالص الناس اكثر دفئا شبه المصريين
بس على اجمل ده طبعا فيما يخص الجنس الناعم

Ossama said...

د.ايمان منورانا دايما
اولا موضوع دلف و زخم وكل العربي المكسيكي ده
الله يخرب بيت اللي كان السبب ترجمات رديئة وكتاب جهلة
وحاجة تقرف
نرجع لتعليق حضرتك على القصة
فعلا الانا مساحة شاسعة واسعة فضاء كبير
وعمرنا مبنقدر نعرفه بالكامل
بالنسبة للخواء الداخلي ده شيء فعلا مرعب فيه كتاب جميل قوي اسمه قصة حياة لروجرز
العالم النفسي الامريكي
فعلا تحفة فكرة الخواء الداخلي اللي بياكل الواحد من جوه
فليسار مسكها حلو قوي
جميل انك وصديقنا العزيز ايماتيور مسكتم النقلة بين الهند وانجلترا حلو كده