Monday, September 25, 2006

الاصدقاء الاعزاء من قراء مدونة مالك رمضان كريم
ننتقل اليوم الثالث من رمضان الى قراءة مجموعة او متوالية قصصية كما اسماها صاحبها للاديب السكندري الشاب منير عتيبة ..قد يكون منير اديب غير معروف كثيرا ،لكني في الحقيقة اعتبره من اهم الاصوات التي ظهرت في عقد التسعينات .منير غزير الانتاج ومنذ روايته الاولى قيد الاوابد او حكايات آل الغنيمي وانا مبهور بقدرته الغريبة على الحكي وتقديم تفاصيل دقيقة واخاذة لحياة القرية التي تقع على تخوم مدينة كبيرة وفي مجموعته القصصية يافراخ العالم اتحدوا تتجلى ايضا روح الكوميديا العالية التي يتميز بها منير
وهي كوميديا تذكرنا باسلوب وودي آلان و ميل بروكس حيث انها بسيطة وتسخر اساسا من الذات دون اي محاولة للتجريح او المرارة
عمل منير معي كثيرا سواء في ابحاث علمية فقد كان بالمشاركة مع الصحفي السكندري الكبير حسام عبد القادر محررا مساعدا في موسوعة الفنون الاسلامية التي اصدرها المعهد العالمي للفكر الاسلامي وشرفت بتحريرها
وايضا كمساعد اخراج في اكثر من فيلم تسجيلي
وهو يتميز بالدقة والمثابرة وهي صفات تنعكس كثيرا في اعماله الادبية...العمل القادم من احب ما كتب منير الى قلبي
واسمه مرج الكحل
وقد يجد بعض الاصدقاء مشابهة بين هذا العمل وبين المتنصتون وخاصة في البيئة التي يعالجها ويتعامل معها
الا ان الاختلاف ايضا جلي بين
وبينما تجنح لغة احمد الى التقريرية المحايدة الخشنة على حد وصف د. وليد عبد الله لها سنرى لغة منير اقرب الى الشاعرية والتحليق في اجواء تصوفية ساحرة واسطورية جميلة
مع مسحة من سخرية لا تخطأها العين وهي ايضا من السمات التي يتشابه فيها منير مع احمد
اتمنى ان تستمتعوا معي في رمضان المبارك بمرج الكحل وان اتشرف بتعليقاتكم البناءة المفيدة
اسامة القفاش, زغرب ,25سبتمبر 2006


نداهـة جدى

كان جدى شابا مختلفا، لكنه كان مجنونا أيضا..

كان أطول شاب فى القرية، يميزه شعر طويل ناعم ينسدل على كتفيه، ويلمه خجلا تحت طاقية صوفية بنية اللون.. وكان قويا للغاية، أدار الساقية القديمة بذراعية رغم أن صدأها أعجز ثورا ضخما عن تحريكها، وقتل ذئبا فى معركة شهيرة بجوار مقابر القرية، وأكل كبد الذئب نيئا فلم يعد يخشى شيئا.. وسبق كل شباب القرية عندما تباروا فى السباحة ضد التيار لمسافة كيلو متراً فى ترعة المحمودية..

لكن أن يصل به الجنون لأن يذهب إلى الصيد فى عز القيلولة عند موردة إسماعيل الجناينى، فهذا ما لا يصدقه أحد..

القرية كلها تتجنب المرور بجوار الموردة من بعد صلاة الظهر بساعة حتى اقتراب المغرب.. لأن نداهة تظهر فى وسط المياه.. بيضاء، واسعة العينين.. طويلة الشعر.. ملائكية الصوت.. تغنى غناءً حزينا.. وتنادى من يمر باسمه ليأتى إليها.. يغنى معها.. وتهب له نفسها..

يحكون أن شابا فتن بجمالها وسحر صوتها عندما كان جدى طفلا.. فاستجاب لها.. وكانت النتيجة أن غرق ولم تظهر جثته فى أى مكان.. وقيل إن جثته ظهرت بعد عدة أيام طافية على سطح الماء بالقرب من كفر الدوار (سارت عكس اتجاه المياه).. من شاهدوها أكدوا أن عينيه كانتا مفتوحتين على آخرهما فى نظرة رعب لا مثيل لها، وكأنه مات تواً..

فكيف حمل جدى سنارته البوص، والغلق الخوص، والكوز الصدئ الملئ بديدان الصيد، وذهب إلى موردة إسماعيل الجناينى الساعة الثانية ظهرا ليصطاد..؟!

ما حدث أنه اصطاد ما يزيد على خمسة كيلوات من السمك البلطى كبير الحجم فى أقل من نصف ساعة.. كان الجو حارا فخلع جدى قفطانه ووضعه بجانبه.. وظل جالسا بسرواله الداخلى وفانلة نصف كم.. ومن وقت لآخر يأخذ طاقيته البنية ويمسح بها وجهه، ثم يلبسها..

سمع جدى صوتا خافتا قادما من أعماق الترعة.. أخذ الصوت يعلو بالتدريج.. لم يكن الكلام مفهوما.. لكنه كان بكاءً ساحرا يشبه الغناء.. تحركت غمازة السنارة حركات سريعة.. ثم غطست بقوة فى الماء.. جذب جدى السنارة بسرعة متوقعا سمكة ضخمة.. ارتفع خيط السنارة إلى أعلى.. رأى جدى ما يمسك الخيط من طرفه.. فرمى السنارة من يده بدون تفكير.. لكنه لم يتحرك.. ظل جالسا فى مكانه.. والعرق يتصبب منه دون أن يمسحه.. وعيناه تحدقان فيها..

كانت جميلة كما وصفها أهل القرية.. لكن الجمال لم يكن كل شئ.. فى عينيها الواسعتين كان يرقد حزن العالم ودمعة معلقة تشعر بها ولا تراها.. كانت تناديه ليقبل.. لم تكن تعده بالنعيم والكنوز كما حكى أهل القرية.. بل كانت تستنجد به..

ألقى جدى طاقيته بجوار غلق السمك، وخلع الفانلة.. وألقى بنفسه فى مياه الترعة.. ففوجئ بها تحتضنه.. وتغوص به.. لم يكن حضن غدر.. ولا حب.. كان حضن غريق تعلق فى طوق نجاة.. ظلا يغطسان لدقائق.. حتى توقفا أمام وردة غريبة تشبه ورد النيل لكنها حمراء اللون.. حمرة الدم الفاسد..

نظر جدى إلى الوردة وإلى النداهة.. أخبرته بعينيها أن كل الأسرار فى هذه الوردة.. مد يده ليلمس الوردة.. فوجئ بفم ذئب متوحش ينفتح ليقضم يده.. فشدها بسرعة.. نظر إلى الوردة مرة أخرى فلم ير فم الذئب.. فمد يده.. فعاد فم الذئب ينفتح.. نظر إلى النداهة بدهشة.. ثم شعر باختناق.. فصعد برأسه بسرعة إلى أعلى الماء.. ملأ صدره بالهواء.. وغطس مرة أخرى.. وفى أثناء عودته صفا عقله ففهم اللعبة.. نظر إلى النداهة مبتسما.. مد يده إلى الوردة.. فانفتح فم الذئب المتوحش.. لكن جدى خطف الوردة من مكانها ولم يعضه الذئب.. مزق جدى الوردة.. كان ملمسها يؤلمه بشدة لكنه تجاهل الألم الذى زال بمجرد أن انتهى من تمزيقها وفوجئ بما يسكن فى قلبها..

شعر باختناق.. فصعد إلى السطح مرة أخرى.. ملأ صدره بالهواء وعاد.. كانت عينا النداهة تبتسمان.. ولم تكن الدمعة المعلقة هناك..

أمسك جدى الحجاب الذى كانت تخفيه الوردة.. كان مكتوبا عليه بخط ردئ لكنه لامع يكاد يغشى البصر.. "من يحاول فك هذا الطلسم سيرث حزن العالم"..

رأى جدى قلقا كبيرا يتحرك فى ملامح النداهة.. فكر لحظة فى ترك كل شئ.. النداهة والحجاب والسمك والسنارة وملابسه.. تخيل أنه عاد إلى حجرته.. واستلقى عاريا على سريره.. ونام فى هدوء.. استغرق فى نوم لا يشوبه خوف..

أيقظ جدى صوتُ شخيره.. لم يصدق أنه كان سينام فى الماء مكان الوردة.. فقرر قبول التحدى.. مزق الحجاب بأظافره الطويلة..

كان كلما مزق قطعة فى الحجاب حدث تغير فى النداهة.. كانت زعانفها تتحول إلى أرجل بشرية.. وفمها يحاول أن ينفتح ليقول شيئا.. وعندما انتهى من تمزيق الحجاب تماما.. صرخت النداهة:"الحقونى"!.. وغطت صدرها العارى بيديها..

كان قلب الحجاب فارغا إلا من بعض الدخان الأسود كريه الرائحة.. فألقاه جدى.. وجذب النداهة من يدها متجها بها نحو الشاطئ.. وقد لا حظ أنها لا تعرف السباحة.. وكان حريصا على عدم النظر إليها أو لمسها.. وعندما وصل إلى الشاطئ تركها فى الماء.. وأسرع فأحضر قفطانه.. وفرده فى الهواء.. وأشار إليها لتخرج.. وأدار رأسه إلى الناحية الأخرى.. فخرجت وارتدت القفطان..

جلس جدى والنداهة يشويان السمك ويأكلان.. حكت له حكاية ليلة زفافها التى انتهت بأن ألقت نفسها فى الماء.. كانت تحب عريسها.. لكنها لم تطق اقترابه منها.. فظلت تجرى حتى ألقت بنفسها فى ترعة المحمودية.. فغرقت.. وظلت جثتها طافية من أبى حمص حتى خورشيد.. حتى استقرت بجوار الوردة أمام موردة إسماعيل الجناينى..

لكنها لم تستطع أن تحدد متى حدث ذلك.. منذ عام.. أو أعوام.. أو قرون..؟!

وقفت فوقف جدى.. سلمت عليه بيدها.. ارتعش جسده بسعادة لم يعاينها من قبل.. ورفرفت أجنحة الروح.. لم تتكلم.. لكنهما لم يكونا بحاجة إلى كلام.. انصرفت باتجاه أبى حمص وجدى يتابعها بعينيه حتى اختفت.. فشعر بحزن العالم يسكن قلبه.. فهو واثق أنه لن يراها مرة أخرى..

كانت سلوى جدى فى سنوات عمره التالية والتى تعدت الستين (مات وهو فى الرابعة والثمانين وكنت أنا فى العاشرة من عمرى) أن يذهب مرة كل عام إلى موردة إسماعيل الجناينى فى نفس الموعد بنفس الملابس والسنارة والغلق.. لكنه لم يكن يصطاد.. كان يستعيد رعشة الفرح.. ويحيى حزن العالم فى قلبه.. ولم يحك ما حدث لأحد غيرى.




3 comments:

eman said...

هو ده اللى قصدته مرة
...
هذ هى القصص التى تبكينى

ان تلمس شىء جميل ولكنه يذهب , والمشكلة انك خلال ملامستك ايه , الا انك تعرف انه لن يبقى ولن يدوم الا فى مخيلتك

....
ذكرنى بفيلم
the bridges of madison county
(يمكن اكون خربطت الأسم)
بطولة
clint estwood &
meryl streep (won an oscar for it)

Ossama said...

الدكتورة ايمان
الدكتور احمد
مداخلات جميلة بارك الله فيكما واعزكما

Ossama said...

ايمان العزيزة
دوام الحال من المحال
وهناك دائما وابدا غواية المعرفة و الصراع مع متعة البقاء على الوضع الراهن
هذه التيمة سنجدها في كل اعمال باولو كويلو التي حظيت باعجاب الناس جميعا مثل السيميائي
ايضا سنجده عند جوركي في قصته القصيرة الرائعة
انشودة الصقر
غواية المعرفة ترتبط بالغبة الابدية في الحرية والانظلاق والسعي في مناكبها
هذه الرغبة التي تتجلى في كل اساطير التكوين ونجدها بالق شديد في الف ليلة وليلة في قصة مثل قصة حاسب كريم الدين وملكة الحيات وخاصة في رحلة بلوقيا في هذه القصة
وهي ايضا التيمة الاساسية في فكرة الباب المغلق او الطرق الثلاثة المكررة في كل القصص الشعبية والحواديت في كل انحاء العالم
انها من التيمات او الانماط الاولية بالتعبير اليونجي

الجميل عند منير وهو ما لمسه بتألق ووعي اخونا الدكتور احمد
هو استعادة هذه الاسطورة وربطها بعالم سفلي كما يقول المصريين
عالم غريب لم يعد له مكان في المدينة الكبيرة
ما يفعله منير طوال متواليته الحكائية الجميلة هو ان يتصالح مع هذا العالم
تصالح يذكرنا بمصالحة احمد مع عالم سفلي آخر هو عالم المهمشين والمنبوذين
الجميل ان يحدث هذا التصالح دون تزيد ودون شفقة ودون رغبة في اعلاء الذات
في المجموعتين هناك اقتناص لعالم كامل تأكله المدينة الغول ومحاولة ليس للبكاء عليه ولكن لفهمه وتفسيره ورؤيته من داخله
والاهم محبته والتصالح معه
كل الشكر للصديقين العزيزين