مرج الكحل
منها جاء اسم المتوالية الجميلة...قصة رائعة سمعناها من قبل و سنسمعها من بعد ولن نمل منها ابدا!منير يحول الحكايات التي سمعها صغيرا ربما الى كتابة ويستعيد بهذه الوسيلة طفولته ويعيد لنا طفولتنا المسلوبة
مرج الكحل
كان الجد عبد الحفيظ؛ جد أبى، نحيفا كعود قصب، طويلا كنخلة، عاشقا للخلاء.. ولم تكن قريتنا عندما كان شابا سوى شارعين صغيرين فيهما ما لا يزيد عن عشرين أسرة.. خلفهما حقول القرية.. والطريق الذى يربط قريتنا بأقرب قرية لنا يبعد عنا مسيرة أسبوع بحمار جيد العلف، خال من الأمراض.. وعلى اليمين تمتد صحراء لم يحاول أحد أيامها أن يقتحمها فهى بلا نهاية.. وعلى اليسار صحراء قيل إن فى نهايتها يقع مرج الكحل، لكن لا توجد سوى محاولة واحدة للوصول إليه قام بها الجد عبد الكافى أبو الجد عبد الحفيظ، لكنه لم يعد، ولم نعرف وقائع رحلته..
لا يذكر الجد عبد الحفيظ والده الذى رحل قاصدا مرج الكحل بينما كان ابنه فى عامه الأول..
لكن الجد عبد الكافى بدأ يترصد للجد عبد الحفيظ..
كانت أول مرة يرى الجد عبد الحفيظ والده عندما تسلل من بيت العائلة قبيل الفجر ليقابل هوانم ابنة تاجر البغال، التى قدر لها أن تكون زوجته لمدة أسبوع واحد وضع خلاله بذرة جدى، ثم رحل وراء حلم والده..
ثم ظهر الجد عبد الكافى لابنه مرة وهو فى الحقل.. ومرة وهو يتمشى وحيدا على حدود الخلاء.. ثم تكررت مرات الظهور.. ولا أحد فى العائلة يدرى.. لكنهم أخذوا يلاحظون التغيرات التى بدأت تطرأ على الجد عبد الحفيظ.. صمته غير المعتاد، نظراته المحدقة فى الفراغ طول الوقت.. حبسه لنفسه فى حجرته وحديثه الهامس إلى اللاشئ..
مجلس العائلة الذى اجتمع ووقف أمامه الجد عبد الحفيظ ليجيب على الأسئلة؛ لم يكن محاكمة، بقدر ما كان محاولة لمعرفة ما يحدث للشاب والسيطرة عليه قبل أن يفوت الأوان..
لم يكذب الجد عبد الحفيظ.. صارح أعمامه وأخواله وكبار العائلة بأنه يقابل والده.. يسيران معا فى الصحراء التى تقع على يسار القرية.. يتحدثان عن رحلة الجد عبد الكافى والأهوال التى قابلها ليصل إلى مرج الكحل..
كانت دهشة مجلس العائلة كبيرة.. لكن الزلزال الحقيقى الذى حدث فى القرية كلها أحدثه القرار الذى صارحهم به الجد عبد الحفيظ.. فقد أقنعه والده بالذهاب إلى مرج الكحل.. قال الأب إنه وصل بالفعل إلى المرج.. رآه رأى العين.. لكنه لم يستطع الدخول.. أخبره صوت لا يدرى مصدره أن المرج موعود لشاب نحيف كعود القصب، طويل كنخلة، عاشق للخلاء، وأن هذا الشاب من صلبه.. قال الجد عبد الكافى إنه رأى أهوالا فى العودة لا تقل عما رآه فى الذهاب، لكنه تحملها ليوصل لابنه الرسالة..
قلبه يحدثه بصدق والده.. وهو سيسير إلى قدره.. فمن يدرى.. قد يستطيع العودة ببعض خيرات مرج الكحل فتحل النعمة على القرية ويبصر العميان..
حاولوا إقناع الجد عبد الحفيظ بالعدول عن قراره.. لكنه لم يتراجع.. حتى زواجه من هوانم لم يؤثر فى تصميمه..
"لم يكن حلما فأقول إنه من الشيطان، وأننى لست نبيا لتكون أحلامى رؤى صادقة.. رأيت أبى وتحدثت معه.. مسحت دموعه بكمى.. دموع الاشتياق الذى يكابده من يقف أمام حلمه ولا يستطيع أن يلمسه.. سأحقق حلم أبى.. وأعود للقرية بما يضئ بصيرتها"..
وقفت القرية كلها على حدود الصحراء تودع الجد عبد الحفيظ.. احتضن كل فرد وقبله.. الدموع التى جرت فى تلك الساعة مازالت آثارها موجودة حتى الآن فيما أسمته القرية "بركة عبد الحفيظ".. عين ماء مالحة لا تنضب يتباركون بها.. الوحيدة التى لم تخرج لوداعه هى الجدة هوانم التى كان غضبها منه أكبر من أى شئ آخر..
ظلت حكاية الجد عبد الحفيظ ساخنة لفترة طويلة، حتى انشغلت القرية بحكايات أخرى.. لكنها لم تنسه تماما..
أما ما حدث لى فى الفترة الأخيرة فلم يكن حلما فأقول إنه من الشيطان، وأننى لست نبيا لتكون أحلامى رؤى صادقة.. كنت أتمنى أن تكون المسألة كلها أضغاث أحلام.. لكننى رأيت الجد عبد الحفيظ.. ظهر لى أكثر من مرة للحظات خاطفة.. ثم لدقائق.. كأنه كان يريد أن يطمئننى قبل أن يمكث معى مدة أطول.. ثم اختفى حتى اشتقت إليه.. فظهر لى.. وجلس معى.. حدثنى عن رحلته.. عبوره للصحراء التى بدت بلا نهاية لكنها مع ذلك انتهت.. اجتيازه للنهر المسموم.. حروبه مع وحوش خرافية.. معاونة الجد عبد الكافى له فى كل مأزق.. ثم وصوله أخيرا إلى مرج الكحل..
- بمجرد رؤيتى للمرج عرفت كم هى تافهة تلك الأهوال التى مررت بها.. إنه يستحق أن أعانى أمثالها مائة مرة.. وعندما خطوت أول خطوة فى المرج الموعود شعرت بولادتى الجديدة.. أحسست بجمال لم يكن يخطر ببالى.. طاقة حب أكبر من الوجود كله ملأتنى.. أشرت لأبى الذى كان يقف على حدود المرج تغسل وجهه دموع الفرح والشوق.. فأسرع إلىَّ.. وطئت قدماه المرج فأضاءت عيناه بسعادة، ثم فارق الحياة وعلى وجهه ابتسامة بلا مثيل.. استأذنت فى أخذ بعض الكحل لأهل قريتى.. وحصلت على الإذن بصعوبة.. حملت جرابا من الكحل.. لكن طريق العودة لم يكن سهلا.. كنت أضطر للتنازل عن بعض الكحل لأمر من مآزق كثيرة.. وأخيرا وصلت وليس معى سوى تلك الزجاجة الصغيرة.. لكن قطرة واحدة منها تكفى عشرات..
- كم من الوقت استغرقت رحلتك؟
- أياما.. ربما أسابيع.. أو شهور قليلة
- لقد مرت سنوات أكثر مما تظن.. إننى ابن حفيدك يا جدى..
- آه.. الآن فهمت كل التغيرات التى حدثت فى القرية حتى ظننت أننى دخلت قرية أخرى.. ولم يجعلنى واثقا من أنها قريتى سوى "بركة الدموع".. وملامحك التى تشبهنى..
- وماذا تريد منى؟
- سأعطيك زجاجة الكحل وأعود إلى المرج لأدفن بجوار أبى..
- وماذا أفعل بها؟
- هذه مهمتك.. مهمتى أنا تنتهى بتسليمى الزجاجة لك.. لكن ما أعلمه علم اليقين أنكم الآن بحاجة إلى هذه الزجاجة أكثر مما كنا عندما ذهبت أنا.. .. وأكثر مما كنا عندما ذهب أبى..
لم أعد أرى الجد عبد الحفيظ.. جلست فى نفس الأماكن فى الأوقات ذاتها، لكنه لم يظهر.. تأملت الزجاجة كثيرا.. درست أحوال قريتى.. فكرت كثيرا.. وتأملت أكثر.. لكننى حائر.. كيف أبدأ.. وبمن أبدأ..؟؟